ونحن على البر، لا بد من وضع النقاط فوق الحروف، وهذا قدر أمثالي، ممن يخوضون معارك على جبهات متعددة، ومع تيارات لا ترقب في من يختلفون معها إلاًّ ولا ذمة، ويصدق فيها القول المأثورة في وصف النساء: "إنهن يكفرن العشير، لو أحسنت إلى الواحدة منهن الدهر كله، وأسأت إليها مرة، تقول: ما رأيت منك إحساناً"، مع أنها قد لا تكون إساءة بمعناها الحرفي، ولكن مجرد الخلاف في الرأي، في قضية من القضايا، ومن "قحت" في السودان، إلى الإخوان في مصر!
فكلما كتبت نقداً لقرار أو تصرف للسلطة السودانية الجديدة، فوجئت بردود هجومية مثل الاتهام بأني "كوز"، مع الإعلان الدائم، بأن "الكيزان" لن يعودوا لحكم السودان مرة أخرى. وهو رد مفحم يستهدف دفعي لفقد الأمل، واتهام سببه موقفي المنحاز ضد الانقلاب العسكري في مصر، ولأنه تخلص من حكم الإخوان، فلا بد أن يكون انتمائي لهم سبباً في اتخاذ هذا الموقف، مع أن الذي يجمع بين البشير والسيسي أنهما نتاج انقلابات عسكرية، ولا يؤثر في الأمر أن يكون الأول انقلاب "كيزان"، وأن الثاني كان انقلابا على "الكيزان"!
التحالفات السرية:
وقد كنت مع الثورة على الانقلاب العسكري في السودان من أول يوم، ولم ألتفت كثيراً لتحذيرات صدرت من هنا وهناك بأن الإمارات، حيث المركز الإقليمي للثورة المضادة، تدعم الثورة على البشير بدرجة أو بأخرى، ذلك لأنني مؤمن بأنه إذا خرجت الجماهير للشارع سقطت التحالفات السرية، ولا خوف على ثورة شعبية من أن تضل أو تُضل!
وموقفي ضد الانقلاب العسكري في السودان كان مبكراً، وقد كتبت ضده عدة مقالات في منتصف التسعينيات، ثم كتبت أكثر من مقال في سنة 2006، ضد مجازره في دارفور، ولا يوجد في أرشيفي الصحفي ما يمثل البتة تأييداً لنظام البشير، الذي أفقر السودان وأضعفه، ثم إنه ثمرة انقلاب عسكري، وقد قضى تماما على الحياة السياسية وعلى مبدأ تداول السلطة بالاستبداد وإفساد الحياة السياسية.
المشكلة الآن هي في أن قوى الحرية والتغيير "قحت" تخوض المعارك الخطأ منذ اليوم الأول، وهي بحكم كونها تنتمي لليسار السوداني، فإنها ترى في الفترة الانتقالية فرصة مواتية للانتصار الأيديولوجي
بيد أن المشكلة الآن هي في أن قوى الحرية والتغيير "قحت" تخوض المعارك الخطأ منذ اليوم الأول، وهي بحكم كونها تنتمي لليسار السوداني، فإنها ترى في الفترة الانتقالية فرصة مواتية للانتصار الأيديولوجي،
وإفصاء التيار الإسلامي المنافس، في عمومه، بغض النظر عن ارتباطه بنظام البشير من عدمه. صحيح أن نظام البشير نظاماً ينتمي للحركة الإسلامية، لكن ليس كل
الإسلاميين كانوا معه، فضلاً عن أنه كان قد بنى صيغة للحكم، جعلت من القوى التقليدية ضمن نظامه بدرجة أو بأخرى، ولم يكن يعتمد في كل أحواله على الإسلاميين، فهل ثبت أن وزير دفاعه "البرهان" إسلامي؟.. وهل كان حمايته السيد "حميدتي" ينتمي لهذا التيار؟!
فيتبين أن المشكلة هنا ليست في نظام البشير، ولكن في "الكيزان"، الذين تستغل قوى التغيير "قحت" وجودهم في السلطة ليكون شغلها الشاغل هو التخلص منهم، فكان حل حزب المؤتمر الوطني، وإقصاؤه. ومن عجب أن يكون الرد على إدانة هذا التصرف: لقد أقصى البشير خصومه لثلاثين سنة، فما هو العيب في استخدام نفس السلاح؟ وكأنهم أسقطوا البشير ليكونوا مثله. إذن ما هي قيمة الثورة إذا استمر الإقصاء، وأن التغيير فقط في اسم من سيتم إقصاؤه؟ فهل كانت ثورة من أجل الحرية، وإقامة حكم ديمقراطي، أم من أجل تكرار تجربة الحكم الذي قامت عليه الثورة؟!
ما هي قيمة الثورة إذا استمر الإقصاء، وأن التغيير فقط في اسم من سيتم إقصاؤه؟ فهل كانت ثورة من أجل الحرية، وإقامة حكم ديمقراطي، أم من أجل تكرار تجربة الحكم الذي قامت عليه الثورة؟!
عملت الخائبة للغائبة:
"قحت" هنا لا تعمل من أجل مبادئ ثورية قد نختلف حولها، ولكنها ترى ضرورة إخلاء الساحة من المنافس القوي لها، حتى إذا جاءت ساعة الانتخابات كانت هي اللاعب الرئيس وربما الوحيد في الساحة السياسية، وهو نفس تصرف التيار المدني في مصر، الذي ظن أنه بإسقاط الحكم المنتخب وإقصاء التيار الإسلامي، سيكون هو اللاعب الوحيد في هذه المرحلة، فإذا به كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً، لينتهز العسكر الفرصة للاستيلاء على الحكم وإقصائه عن المشهد، في البيوت أو في السجون، فقد "عملت الخائبة للغائبة" كما يقول المثل المصري!
وفي الحقيقة أن الربيع العربي يواجه بمشكلة أن التيار المدني، وفي
القلب منه اليسار، أصبح يمثل معضلة، لشعوره بأن الاحتكام إلى إرادة الجماهير ليس لصالحه، لهذا فإنه يعمل على تعويق فرصة
الانتقال الديمقراطي، ولو بتحالفه مع الجيش كما حدث في السودان وفي مصر. وكان القادة العسكريون في السودان يعرفون نقطة ضعف القوم، فكان تهديدهم في المرحلة الأولى للثورة بأنهم سيلجأون إلى الانتخابات، ومع أن خروج الثورات كان لأن الأنظمة القائمة تزور إرادة الناس، فإنهم انزعجوا من الدعوة، فأضحكوا الثكالى. وإذا كنت أرى أن الثورة في السودان تعبر عن السواد الأعظم من الشعب السوداني، فهل كانت قوى الحرية والتغيير تعبر فعلا عن الثورة بعد هذا التوجس من اللجوء إلى خيار الانتخابات؟!
ومن الواضح أن قوى التغيير تعرف أنها ليست تعبيراً عن الثورة، لكنها كانت القوى المنظمة مع ثورات أفرزت في جولتها الأولى مطالب ولم تفرز زعامات، فتمددوا في هذا الفراغ وتحدثوا باسم الثورة. فهل كان لدى الثوار نفس نظرة
اليسار السوداني من التيار الإسلامي، ونفس العداء للقوانين، التي يرى الكيزان في إلغائها تعبيرا عن الحرب على الإسلام؟ وهل هذه هي أولويات السودان في هذه المرحلة؟!
الجائع والحانة:
لقد تسبب نظام البشير في إفقار السودان، وكان ينبغي على أهل الحكم أن يهتموا برفع الأعباء عن الشعب، ومحاولة الوصول إلى حلول سريعة للأزمات بدلاً من الانشغال بتصفية الحسابات الأيديولوجية، وباعتبارها الخيار الأسهل، لأن فشل الحكومة في المجال الاقتصادي سينتج عنه كفر الناس بالثورة!
كان ينبغي على أهل الحكم أن يهتموا برفع الأعباء عن الشعب، ومحاولة الوصول إلى حلول سريعة للأزمات بدلاً من الانشغال بتصفية الحسابات الأيديولوجية، وباعتبارها الخيار الأسهل
لقد خرج الآلاف من إسلاميي السودان في مظاهرات تندد بالإقصاء وما أطلقوا عليه تغيير قوانين الشريعة. ومع استمرار الأزمة الاقتصادية سيزيد حنق الشارع السوداني على السلطة الحاكمة، وقد يستغل القادة العسكريون ذلك في الانقلاب على السلطة، أو في تحقيق العودة للحكم عبر صناديق الانتخاب باستمالة الشارع والقوى السياسية التقليدية الأخرى، ومن بينها التيار الإسلامي، فالقصة لم تتم فصولا بتشكيل الحكومة وتسمية المجلس السيادي!
هذا فضلا عن أن التجربة أثبت أن محاولة ظلم تيار بعينه سيؤدي حتما إلى تعاطف الناس معه عند أول انتخابات. ومن هنا، فالإجراءات التي تتخذ ضد "الكيزان" من شأنها أن تصب في مصلحتهم في النهاية، فإذا قرروا الابتعاد عن العمل السياسي المباشر، فإن القوى القديمة حاضرة للعب دور واستلام السلطة، وقد يتحالف الجميع بما في ذلك الجيش مع الصادق المهدي وحزبه، والذي يبدو أنه أخطر لاعب الآن في الساحة السودانية، وإن يبدو غير ذلك.
إن "قحت" تخوض المعركة الخطأ، فلا تتوقف عن إقصاء المختلفين معها من العمل السياسي، ولكنها تفصلهم من الوظائف وتطاردهم في مكاتبهم، في وقت من المفروض فيه أن تقدم نموذجا للنظام الديمقراطي، القادر على التعبير عن ثورة جماهيرية عظيمة، وتقديم النموذج الذي ينبغي أن يحتذى به.
فما العائد على جائع إن فتحت له "حانة"؟!