منذ التاسع عشر من كانون أول (ديسمبر) الجاري، وشوارع المدن السودانية تعج وتضج بالمواكب الفرائحية، ففي مثل ذلك اليوم انطلقت أقوى التظاهرات المطالبة برحيل نظام المشير بأمره عمر البشير، وفي مثله من عام 1955 تم إعلان استقلال السودان من داخل أول برلمان منتخب، وتزامن الخامس والعشرين من الشهر مع ذكرى انطلاق أول تظاهرة مناوئة لحكم البشير في الخرطوم في عام 2018، والكريسماس، وتاريخيا كان الكريسماس في السودان يوم عطلة رسمية ويشارك مسلمو البلاد مسيحييها الاحتفاء به، إلى أن قررت حكومة البشير أن ذلك يتعارض مع روح الإسلام، ولم تنتبه لهذا التعارض خلال سنواتها الاثنتين والعشرين الأولى، وكأنما نزل عليها الوحي بذلك في عام 2008.
موازنة مثيرة للجدل
وقبل نحو أسبوع خرج وزير المالية السوداني على الناس بموازنة عام 2020، ويبدو أنه كان يأمل أن يتم قبولها شعبيا، وربما عدم الانتباه لتفاصيلها في غمرة تلك الاحتفالات المتواصلة، فإذا بقوى إعلان الحرية والتغيير التي قادت الثورة الشعبية التي أسقطت البشير، والتي اختارته للمنصب، أول من يعترض على معظم بنود الميزانية.
وزير المالية السوداني الدكتور إبراهيم البدوي رجل اقتصاد جهبذ، وظل معارضا عنيدا لحكم البشير، وقضى سنوات طويلة في دهاليز البنك الدولي، ولهذا لم يكن مستغربا أن تأتي الموازنة التي صاغها وطرحها مطابقة تماما للوصفات التي يقدمها البنك الدولي للدول النامية كشرط للحصول على قروض تمويل المشروعات، وهي وصفات أدى الامتثال لها إلى ثورات شعبية عارمة أطاحت بالكثير من الحكومات.
الكل في السودان يدرك أن الوضع الاقتصادي شائه وشائك، وأنه لابد من حلول أحلاها مُرٌ، ولكن السعي لعلاجه ضربة لازب، سيؤدي إلى سخط شعبي شديد وعريض يصعب التكهن بمآلاته
اختلالات هيكلية
والاقتصاد السوداني يعاني من اختلالات هيكلية، لأنه كان يدار على مدى سنوات حكم البشير الثلاثين بأسلوب رزق اليوم باليوم، في وجود نظام اقتصادي موازٍ يديره القياديون في الحزب الحاكم (المؤتمر الوطني)، وجهاز الأمن والمخابرات الذي يملك مائة ونيف شركة ومؤسسة ذات طابع استثماري تجاري، لا تدخل عائداتها الخزينة العامة، وللقوات المسلحة أيضا شركاتها ومؤسساتها الخاصة، التي لا شأن لوزارة المالية أو غيرها من مؤسسات الحكم المدنية بها.
ويكفي للتدليل على أن مرافق ذلك الاقتصاد الموازي من الأخطبوطية بدرجة تعذر على وزارة المالية التعرُّف على أذرعها المتشابكة، أن موازنة 2020 المثيرة للجدل رصدت مخصصات لما يربو على الثمانين من مؤسسات وهيئات الظل الرمادية التي أنشأتها حكومة البشير في سعيها لتمكين عناصرها من مفاصل الدولة، عوضا عن تفكيكها تماما عملا بمقتضى القانون الذي صدر مؤخرا والقاضي بحل جميع الكيانات التي أنشأها الحكم المباد، أو دمج ما هو ذو جدوى منها في أحد الوزارات أو المؤسسات التي تعمل بشفافية، وتكون خاضعة للرقابة.
وقالت بعض الصحف إن وزير المالية السوداني تقدم باستقالته (ثم تراجع عنها) تعبيرا عن الاستياء على الهجوم الكاسح الذي تعرض له بعد صدور الخطوط العامة للموازنة، والذي بلغ من الشطط أن هناك من اتهمه بأنه يعمل لحساب البنك الدولي وليس جمهورية السودان، والغريب في الأمر أنه ما من سهم ناش مجلس الوزراء الذي أجاز تلك الموازنة، فوزير المالية لم يصدرها كفرمان بلغة "صدر تحت توقيعي، وعلى كل من يهمه الأمر واجب التنفيذ"، بل أخضعها للنقاش داخل ذلك المجلس وبالتالي يتحمل المجلس تبعة إجازتها في ظل تضامنية المسؤولية في كل ما يصدر عن المجلس.
والشاهد هو أن الكل في السودان يدرك أن الوضع الاقتصادي شائه وشائك، وأنه لابد من حلول أحلاها مُرٌ، ولكن السعي لعلاجه ضربة لازب، سيؤدي إلى سخط شعبي شديد وعريض يصعب التكهن بمآلاته، في بلد ما زالت الحالة الثورية فيه متأججة، وهكذا سيبقى الخلل الاقتصادي نقطة الضعف التي ستعصف بحكومة السودان الجديدة، ما لم يتم تداركه بمنطق "العافية درجات"، ويتم رفع الدعم عن السلع الاستراتيجية وتحرير العملة بالتدرج، بحيث يستطيع المواطن المطحون بالغلاء سلفا التعايش مع عقابيل تلك الإجراءات، على أمل انفراج الأزمة في المدى الوسيط أو البعيد.