كتب

كيف تعيد الأوبئة تشكيل الخارطة العالمية؟ تجارب تاريخية

كتاب يؤرخ لتاريخ الأوبئة في العالم ودورها في إعادة تشكيل الخارطة الدول (عربي21)

الكتاب: الأوبئة والتاريخ: المرض والقوة الامبريالية
المؤلف: شلدون واتس
ترجمة أحمد محمود عبد الجواد
مراجعة عماد صبحي
الناشر: المركز القومي للترجمة
الطبعة الأولى: 2010


قد يتساءل البعض عند دواعي اختيار كتاب للمراجعة، مر على صدوره عشر سنوات، فعادة المراجعات أن تغطي الإصدارات الحديثة، التي قذفت بها دور النشر والمطابع، مما يشكل إضافة نوعية جديرة بأن تتقاسم مع القراء، لكن بالنسبة إلى هذا الكتاب، فهو جدير بأن تعاد قراءته ومراجعته لأكثر من اعتبار:

الأول، لأن العالم اليوم يواجه اجتياح وباء كورونا، وما يمكن أن يخلفه من آثار ومن تغير علاقات القوة  بين أقوياء الأمس، وأيضا بين الأقوياء والضعفاء من دول العالم، والثاني، لأن هذا الوباء يخفي خلفه العديد من القضايا التي لم تتكشف بعد، إلى درجة أن صناع القرار السياسي، وأجهزة المخابرات لم تتردد في طرح سيناريو الصناعة الفيروسية والحرب البيولوجية، أو على الأقل حرب الدعاية الإعلامية والسياسية التي تعيد للعالم حرب الأقطاب كما مورست في سياقها العالمي الملتهب، والثالث، لأن زاوية معالجة هذا الكتاب، تجمع بين ثلاث أبعاد أساسية، البعد العلمي وما يرتبط بعلم الفيروسات وتطوره، والبعد التاريخي، الذي يحاول أن يؤطر تاريخ الأوبئة في أوروبا والشرق الأوسط وبعض دول آسيا وإفريقيا، وذلك من العصور الوسطى إلى العصر الحديث، ثم البعد السياسي، المتمثل في الاستثمار الذي مارسته الامبراطوريات للأوبئة من أجل فرض قوتها الاستعمارية على العالم.

مؤكد أن عددا من الباحثين تناولوا هذه الزاوية التي ركز عليها شلدون واتس في كتابه، فقد أنجزت بحوث كثيرة على تجربة الحجر الصحي، الذي مارسته عدد من الدول الأوروبية على دول شمال إفريقيا، وكيف استثمرت الأوبئة أداة وسلاحا فعالا من أجل فرض السيطرة الاستعمارية، فالمؤرخ المغربي، محمد الأمين البزاز، إلى جانب أطروحته عن تاريخ الأوبئة والمجاعات، سبق أن قدم أطروحة مهمة عن الحجر الصحي في المغرب، والتوظيف الاستعماري الذي خضع له من قبل السلطات الفرنسية في المغرب، لكن ما يهمنا في هذا الكتاب، ليس هو استعادة سياقات تاريخية تختلف كثيرا عن السياقات الحالية، وإنما ما يبرر التركيز على هذا العمل التأريخي والتحليلي المهم، هو محاورة زاوية النظر هذه، واختبار مدى إمكان انسحابها على جائحة اليوم (وباء كورونا) وهل سيتكرر الوضع نفسه، بعد أن تسيطر الدول العظمى على الوباء، وتنعطف للاستغلال الاستعماري لدول الجنوب لاسيما إفريقيا التي تعتبر من جهة، وجهة الاستثمار والنمو القادمة، ومن جهة ثانية، القارة العاجزة من حيث الإمكانات عن مواجهة هذا الوباء؟

مجموعتان وأسلوبان لمواجهة الأوبئة:

ميزة هذا الكتاب أنه اتجه إلى الدراسة المقارنة، مركزا على تتبع ورصد وتحليل نمط وأسلوب التعاطي مع الوباء وطريقة مقاومته، بين مجموعتين، المجموعة الأوروبية، والمجموعة الشرقية القديمة (الهند والصين ومصر)، إذ يلاحظ الكاتب أن استجابة كل من المجموعتين للوباء مختلف، فالمجتمعات الأوروبية التي استعملت تقنيات العلم الحديث، كانت لها أساليبها الخاصة والمتوارثة في التحكم ومقاومة الأمراض المتوطنة فيها مثل الجذام والزهري، وقد طورت تقنيات ومعارف نقلتها من علم الأوبئة العربي منذ القرن الرابع عشر، واستخدمتها في مقاومة أوبئة تعرضت لها بعد ذلك، في حين اضطرت المجتمعات القديمة مثل الصين والهند، التي كانت لها تقنياتها الخاصة المتوارثة من ثقافتها في مواجهة الجدري والكوليرا والجذام، بعد خضوعها لهيمنة الاستعمار والامبريالية مند القرن التاسع عشر إلى استخدام التقنيات الأوروبية ضمن أدوات مقاومتها لهذه الأوبئة، فوقعت تحت طائلة الهيمنة الامبريالية.

ويلاحظ الكاتب في هذا السياق، المفارقة في زمن الوباء بين المجموعتين، ففي الوقت الذي يرتفع الوباء فيه من أوروبا بفعل الأدوات والتقنيات التي تعتمد لمقاومته، يستمر الوباء في المجموعة المقابلة أربعين سنة أو أكثر، وتظل هذه الدول تحت سطوة الارتهان للدول الامبريالية. 

الامبريالية تستخدم أداة نشر الأوبئة في الشعوب المستعمرة

ومع أن الكتاب يستغرق ستة فصول كاملة، يحلل على طولها انتشار عدد من الأوبئة في المجموعتين على مدى زمني واسع يمتد من العصور الوسطى إلى العصر الحديث، إلا أن جوهره ينصرف إلى قضية أساسية، هي تثبيت العلاقة بين الامبريالية والاستعمار وبين انتشار الأوبئة في الدول المستعمرة والفقيرة، واستغلال ذلك كآلية للتحكم في مقدرات هذه الشعوب ومصادر ثرواتها. 

وقد كشف الكتاب عن معطيات مهمة حول قيام الامبريالية في صراعها للسيطرة على ثروات إفريقيا وآسيا والأمريكتين بنقل أمراض جديدة انتشرت في صورة أوبئة إلى شعوب القارات تلك، سواء عن طريق الغزو العسكري أو تجارة العبيد، أم بطريق غير مباشر عبر ما يسميه الأوربيون بتنمية هذه الشعوب، والتي كان يقصد منها تفكيك البنى القبلية ونظام الأسرة ونمط العادات والتقاليد، والتي كانت تشكل خط الدفاع الأول في مواجهة انتشار الأوبئة والتحكم فيها لدى هذه الشعوب، فحقق الاستعمار هدفين مزدوجين من هذه السياسة، إبادة هذه الشعوب وتفكيك عناصر قوتها، وإخضاعها لسطوتها العسكرية والامبريالية.

 

السيناريوهات لا تزال مفتوحة لاختبار مدى إمكان أن تتكرر نفس السياسة الامبريالية في التعامل مع الأوبئة وتوظيفها لخدمة مصالح الدول الكبرى لاسيما وأن اقتصادات الدول الكبرى ستتعرض لخسائر كبيرة بسب تداعيات هذا الوباء

 



وقد بسط الكتاب نموذجا لسبعة أوبئة تسببت فيها الكائنات الحية الدقيقة، مثل البكتيريا كما في حالة الطاعون والجذام والكوليرا والزهري، أو الفيروسات كما في حالة الجدري والحمى الصفراء، أو الأوليات (برتوزوا) كما في حالة الملاريا. وتنتقل هذه الأمراض إما عن طريق الحشرات كما في حالة الطاعون الذي ينتقل عن طريق البراغيث، والملاريا والحمى الصفراء التي تنتقل عن طريق البعوض، وإما عن طريق العدوى المباشرة كما  في حالة الجذام والجدري، وإما عن طريق الجهاز الهضمي بتناول الطعام والشراب الملوث كما في حالة الكوليرا، وإما عن طريق الاتصال الجنسي المباشر كما في حالة الزهري.

ويشير الكتاب لوسيلتين من وسائل انتشار الأوبئة هو الانتقال السلمي التلقائي للأشخاص، ثم الانتقال القسري للأشخاص، الذي تم بطريق الغزو الاستعماري ثم تجارة العبيد، وذكر الكتاب أن الغزو الاستعماري كان أداة جبارة في إصابة شعوب الأمريكيتين بأمراض لم تكن تعرفها من قبل، وهو ما أدى إلى إبادة شعوبها بالكامل، حيث لم تكن هذه الشعوب تملك مناعة فعالة لمقاومة هذه الأمراض، ويمثل لذلك، بتدفق آلاف من شعوب شبه جزيرة إيبيريا الحاملين لفيروس الجدري إلى أمريكا بعد عقدين من وصول كولومبوس إليها، حيث وصل هذا الوباء إلى أمريكا الوسطى عام 1518 والمكسيك عام 1521 وإلى شعوب الأنكا شمالا سنة 1527 مما أدى إلى إبادة هذه الشعوب بالكامل وهجرة العديد من القبائل إلى أماكن أخرى، وإصابة قبائل وسكان آخرين، وهو ما أدى حسب الكاتب إلى انقراض 90 في المائة من شعوب الأمريكيتين، إذ بلغ سكان الأمريكيتين في سنة 1524 حوالي 7 في المائة فقط من عدد السكان الذين كانوا موجودين قبل عام 1524.

وسلط الكاتب الضوء على الوسيلة الأخرى التي اعتمدت في نقل الأمراض إلى هذه الشعوب، وهي تجارة العبيد، فقد احتاج الإسبان الذين احتلوا الأمريكتين إلى قوى عاملة لزراعة القصب السكر خاصة في أمريكا الوسطى والجنوبية، وهو ما أدى إلى انتقال الحمى الصفراء والملاريا إلى شعوب تلك المناطق التي لم تكن تعرف هذه الأمراض من قبل. وقد تسبب ذلك في انتقال هذه الأوبئة إلى مناطق أخرى جديدة. كما تم نقل 30 مليونا من شعوب غرب إفريقيا إلى الأمريكتين في سبعينيات القرن السابع عشر وحتى نهاية القرن التاسع عشر، ونتيجة لذلك، ظهر وباء الحمى الصفراء والملاريا في بربادوس عام 1647 وفي هايتي عام 1690 وفي كوبا عام 1761 والبرازيل عام 1800، كما ظهرت الحمى الصفراء في مناطق شاسعة من مدن الجنوب الكبرى في أمريكا الشمالية مثل نيوأوليانز وممفيس وشارلستون منذ عام 1850، كما ظهر هذا الوباء عدة مرات في عام 1878 و1879 و1897 وفي أثناء الحرب الأهلية الأمريكية 1861 ـ 1865 ومات 358 ألف جندي فيدرالي جنوبي بالرصاص أو المرض نتيجة للحمى الصفراء.

ويشير الكتاب إلى العلاقة الوطيدة بين الامبريالية وبين نشر الأوبئة من جهة نشاط الشركات الكبرى التي كانت تشكل الأذرع الاقتصادية للامبريالية، وكيف استثمرت في خلق بيئة وبائية سانحة لانتشار الأمراض، وذلك تحت مسمى تنمية شعوب المنطقة، إذ عمدت هذه الشركات العملاقة في غرب إفريقيا إلى إزالة الغابات واقتلاع الأشجار لاستعمالها في مد سكك الحديد في الدول الأوروبية، وتم إنشاء مساحات لمحاصيل جديدة مثل القطن وزيت النخيل والفول السوداني لا تطابق نوع التربة الموجودة بهذه المناطق، وقد تم تمويل هذه المشاريع من طرف هذه الشركات مما أدى إلى تخريب التربة الزراعية لهذه المناطق مما أدى إلى ترك أشجار ضعيفة الجذور مكشوفة أمام عوامل التعرية المناخية، مما زاد في مساحة التربة المكشوفة الرقيقة، ونتيجة لتعرضها للحرارة الشديدة اثناء موسم الجفاف وسقوط الأمطار الغزيرة اثناء موسم الأمطار، سرعان ما وهنت هذه التربة الرقيقة فوق قاعدة الصخور الصلبة، مما تسبب في شقوق وحفر مليئة بالماء، وفرت وضعا مثاليا لتكاثر البعوض الناقل للحمى الصفراء والملاريا.

وقد تعرض الكتاب لمختلف الأشكال التي انتشر بها الوباء في الأمريكتين وإفريقيا وآسيا، مبينا وجه علاقتها بالامبريالية وأذرعها الاقتصادية العملاقة، كما توقف على القصدية في نشر هذه الأوبئة واستعمالها سلاحا امبرياليا للسيطرة على شعوب هذه المناطق وإخضاعها والتحكم في مقدراتها.

بين الأمس واليوم

قد يبدو في الظاهر التباعد الكبير بين محتوى هذا الكتاب وزاوية تناوله، وبين السياق الراهن الذي يستهدف فيه الوباء الدول الغربية بالأساس، وتتضاءل نسبة الإصابة بهذا الداء في الدول العربية والإفريقية، لكن الناظر لهذا الكتاب، ولما تضمنه من حقائق، يسجل اهتمامه البالغ بطرق مقاومة هذا الوباء، ورصد السياسات التي تنتجها الدول الاستعمارية بعد التخلص من الوباء، مما يعني أنه من السابق لأوانه بيان التلازم بين رسالة الكتاب وخلفيته، وبين مآل السياسة الأوروبية والأمريكية في تعاطيها المستقبلي مع هذا الوباء، فمنظمة الصحة العالمية، حذرت مؤخرا من الكلفة العالية التي ستتكبدها إفريقيا من جراء انتشار هذا الوباء، بسبب محدودية النظام الصحي، وهشاشة الدولة المركزية في بعض البلدان، فضلا عن عدم توفر أساس منطقي للانخراط في منهجية موحدة لمواجهة هذا الوباء، مما يعني أن السيناريوهات لا تزال مفتوحة لاختبار مدى إمكان أن تتكرر نفس السياسة الامبريالية في التعامل مع الأوبئة وتوظيفها لخدمة مصالح الدول الكبرى لاسيما وأن اقتصادات الدول الكبرى ستتعرض لخسائر كبيرة بسب تداعيات هذا الوباء، وأن شهيتها ستكون مفتوحة أكثر على التحكم في مقدرات الشعوب الثالثية، لاستدراك خسائر شركاتها العملاقة وإعادة العافية لاقتصادها وامتصاص الاحتجاجات الاجتماعية التي ستتحرك على خلفية فقدان الوظائف الكثيرة.