كتب

هكذا يشخّص الغنوشي أعطاب الوعي لدى الإسلاميين

بحري العرفاوي: الغنوشي لا يرى تعارضا بين فكرة "الوطنية" في الإسلام وفكرة "العالمية" (عربي21)

"الحركة الإسلامية ومسألة التغيير"، عنوان لكتاب أصدره المفكر الإسلامي التونسي راشد الغنوشي، في 120 صفحة يتعرض لـ "مسيرة الصحوة الإسلامية" و"حيرتها بين الحزب السياسي والجماعة الإصلاحية" كما يتعرض لـ "منهج" عملها في التغيير". 

ولعل أهم ما ورد في الكتاب هو كشفه لأعطاب الوعي لدى أغلب الإسلاميين مما عطل تحولهم إلى حركات وطنية مفتوحة لكل المواطنين أو كقاطرة لقيادة المجتمعات في مشروع الإصلاح والتغيير، الكتاب يكشف عن وجود مسافة وعي عميقة وبعيدة بين زعيم حركة النهضة التونسية راشد الغنوشي وبين مناضلي وجمهور حركته.

1 ـ في الحاجة إلى المشروع الإسلامي

"الصحوة الإسلامية" لم تكن من باب "الترف الفكري" إنما كانت استجابة لحاجة حضارية وتاريخية بعد أن فشلت التجارب اليسارية والعروبية في تقديم البدائل وتحقيق حاجة مجتمعاتنا للحرية والعدالة والتنمية، كما فشلت في تحقيق الديمقراطية لكونها إما تقوم على الانقلابات العسكرية أو على ديكتاتورية البروليتاريا: "الحل في حركة تجديد تمسح عن الإسلام غبار الانحطاط فيستعيد حيويته وقدرته القيادية على إيجاد مجتمعات ليست متقدمة فحسب، بل تمثل أعلى صور التقدم"، ص107.

الحركة الإسلامية ـ بنظر صاحب الكتاب ـ ليست مجرد كيان عقدي أو سياسي يبحث لنفسه عن مشاركة في المشهد السياسي أو منظومة الحكم وليست مجرد حزب يبحث عن اعتراف قانوني من الداخل أو من الخارج، بل هي تريد أن تكون حالة "انبعاث" ذاتي من أعماق الأمة والمجتمع لتكون بديلا عن تجارب سابقة قاد أصحابها العالم الإسلامي منذ نشأة "دولة الاستقلال". 

"الإنبعاث" الذاتي لا يتحقق إلا بالتحرر النفسي والذهني من الجهات الأجنبية بما هي نظريات في الحكم وإيديولوجيات أو بها هي "قوى" اقتصادية وعسكرية تتحكم في القرار الوطني وتنتزع سيادة الشعوب المرتهنة والمهزومة نفسيا وحضاريا.

"وإذا كان الاتجاه الأول قد تبلور في مجموعة من الحركات الوطنية والقومية والاشتراكية التي استمدت وتستمد صورها ومثلها من الغرب الرأسمالي والاشتراكي، وهي التي حكمت العالم في مرحلة ما بعد الاستقلال وظهر فشلها واضحا في إحداث نهضة في العالم الإسلامي، بل اتجه المسلمون في ظل قيادتها إلى مزيد من التبعية للغرب ومزيد من الهزائم العسكرية والاقتصادية والممارسات الديكتاتورية البشعة"(ص 107)

2 ـ الحركة الإسلامية بين الدعوي والسياسي

في كتابه "الحركة الإسلامية والتغيير" يجمع الأستاذ راشد الغنوشي بين فكرة شمولية الإسلام عند سيد قطب وبين فكرة الإمام الخميني عند ربط الفقه بواقع الحياة، نقرأ في الكتاب: "فالعقيدة والشريعة والعبادة كل متكامل ومن ثم لا مجال للتفريق بين الدين والسياسة، والدين والدولة".

ويستشهد الغنوشي بقولة للإمام الخميني: "إن أول واجبات الفقيه العارف بأحكام الشريعة هو النهضة والقيادة... عرفوا الناس بحقيقة الإسلام حتى لا يظن جيل الشباب أن أهل العلوم في زوايا النجف يرون فصل الدين عن السياسة، وأنهم لا يمارسون سوى دراسة الحيض والنفاس ولا شأن لهم في السياسة، إن النضال السياسي واجب وطني" ص 109.

الغنوشي لا يرى تعارضا بين فكرة "الوطنية" في الإسلام وفكرة "العالمية"، وهو هنا يرد على الذين يتهمون الإسلاميين بأنهم لا يقولون بـ "وطن" وإنما يقولون بـ "أمة" وبـ "عالمية" وأنهم لا يتعلقون بجغرافيا إنما يتعلقون بأفكار وقيم وعقيدة وأن الرابط بينهم وبين غيرهم هو رابط المعتقد لا رابط الوطن.

 

في كتابه "الحركة الإسلامية والتغيير" يجمع الأستاذ راشد الغنوشي بين فكرة شمولية الإسلام عند سيد قطب وبين فكرة الإمام الخميني عند ربط الفقه بواقع الحياة

 



ومثل هذا "الاتهام" يجد سنده في أدبيات الإسلاميين الأولى وفي أناشيدهم التي تربى عليها شبابها في مراحل التنشئة، حيث لم يكن خطاب المواطنة حاضرا وحتى الحديث عن حب الوطن فيُستشهد عليه أحيانا بتعبير الرسول صلى الله عليه وسلم عن حبه لمكة وهو يهاجر منها  مضطرا.

غياب خطاب "الوطن" و"المواطنة" هو الذي سيُغيّب الإسلاميين في بدايات ظهورهم عن مؤسسات المجتمع المدني وعن النقابات ودور الثقافة ودور الشباب والجمعيات الرياضية والمصائف والمضائف رغم اتقاد شبابهم حيوية ونشاطا واستقامة ورغم توفر مختلف المهارات والاختصاصات لديهم بل ورغم تفوق الكثير منهم في الدراسة.

تلك "الوَصْمة" ظلت تلاحق الإسلاميين حتى الآن يلمزهم بها خصومهم الإيديولوجيون ومنافسوهم السياسيون.

ورد في كتاب "الحركة الإسلامية ومسألة التغيير": "إنه لا تناقض في نظر الحركة الإسلامية بين العالمية والوطنية، إذ الوطنية هي منطلق العالمية، وأن عناية المسلم بإصلاح وطنه واجب ديني، إذ كلما تقدم هذا الوطن إلا وأصبح أقدر على إقامة الأوطان الإسلامية الأخرى"، ص109.

هذا الخطأ في النشأة ينتبه إليه الأستاذ راشد الغنوشي فيُشير إلى كون الحركة الإسلامية هي حركة "شعبية" يريدها أن تكون حركة المواطنين لا حركة المصلين أو حركة الإسلاميين أو "المريدين"، "حركة شعبية" يلتقي فيها الناس باعتبارهم معنيين بالشأن الوطني وباعتبار هذا الشأن مشتركا بين مختلف الفئات الاجتماعية دون اعتبار لهويات عقدية أو حزبية: "ومن مقومات الحركة الإسلامية أيضا الشعبية، وهي أن الحركة الإسلامية ليست حركة فئة معينة أو طريقة صوفية تحصر عملها في مجموعة المريدين" ص 110.

3 ـ الحركة الإسلامية بين التعبئة والتنشئة

يثير الكتاب ظاهرة مهمة داخل الحركات الإسلامية وهي ظاهرة "التعبئة" التي تفتقد لـ "التنشئة"، التعبئة بمعنى قدرة الحركات الإسلامية الفائقة على تجميع الشباب من حولها واعتماد الروحية الدينية كيمياء تجميع ومراكمة عددية لشباب طلابي وجامعي ومعني وحتى من شريحة المعطلين عن العمل، غير أن هذا "الركام" البشري يظل في شبه عطالة دائمة ما عدا حضور الاجتماعات وحلقات الذكر في المساجد أو إحياء بعض المناسبات الدينية أو حضور اجتماعات ومسيرات حاشدة تحت عنوان كبير غير واضح التفاصيل.

تلك "العطالة" لشباب الحركات الإسلامية مرد غياب رؤية التأسيس وغياب تصور عما يُراد ببعث هذه الحركات وغياب منهج للعمل،فهل الحركات الإسلامية هي حركة وعظ وإرشاد في بعدهما التجريدي ؟ أم هل هي حركات إصلاح في بعده الشامل دينيا،سياسيا ، ثقافيا، فكريا ،اقتصاديا ،فنيا وجماليا؟.

 

نه لا تناقض في نظر الحركة الإسلامية بين العالمية والوطنية، إذ الوطنية هي منطلق العالمية، وأن عناية المسلم بإصلاح وطنه واجب ديني، إذ كلما تقدم هذا الوطن إلا وأصبح أقدر على إقامة الأوطان الإسلامية الأخرى

 



إن الله أودع فينا قُوى إذا لم تُصرف في خير صُرفت في شر كما يقول عمر رضي الله عنه، وهذه الجموع الشبابية الحاشدة من طلبة وخريجي جامعات لا يمكن أن يظلوا مجرد وقود احتجاجي أو كتل بشرية لتعبئة الساحات في مشهدية احتفالية أو طقوسية أو احتجاجية، هذه طاقات علمية ومعرفية وإبداعية يجب أن تُصرف في مسالك الدولة ومفاصل الحياة الاجتماعية، يجب أن تستفيد منهم مجتمعاتهم في حياتها الدنيوية وفي مؤسسات الخدمات بما يجعل حياة الناس أقل شقاء وأقرب إلى الرفاه والسلامة والسعادة.

يقول الكاتب: "إنه على حين حشدت كل الأطراف السياسية خطتها للتغيير بدأ الإسلاميون يُكدسون ولا يبنون. إنه لمكسب عظيم أن تربي الشباب الصالح في مجتمع يزخر بالإغراءات ،ولكن هذه التربية نفسها ينبغي أن لا تكون معزولة عن إستراتيجية الحركة الإسلامية في التغيير في المجتمع" ص113.

يُشير الكاتب إلى كون القوميين واليساريين حددوا مراكز الفعل والتأثير في المجتمع والدولة ونفَذوا إليها مثل النقابات لدى اليساريين والجيش لدى القوميين في حين ظل الإسلاميون من دون خطة واضحة وتركوا شبابهم لنفسه يتحسس طريقه دون توجيه: "خذ مثلا الطلبة المنتمين إليها، فهي لا توجههم إلى اختيارات وتخصصات محددة لخدمة خطتها لأنها ليست لها خطة".

4 ـ في الحاجة إلى "هندسة" العمل الإسلامي

يرى الكاتب أن شباب الحركات الإسلامية يتوجه إلى الشعب العلمية ويتخرج منها أصحاب كفاءات واختصاصات خَدَمية لخدمة "الأعداء" وهم قليلو التوجه نحو الشعب الفلسفية والإنسانيات لأنها لا تُغريهم ماديا في حين أن خريجي الشعب العلمية يحصلون منافع مادية كبيرة.

الحركات الإسلامية تحتاج "هندسة" ذهنية لمعمارها التنظيمي حتى لا تظل كما دون جدوى "إن حالة العمل الإسلامي هذه يشبه حالة التقنية القديمة ، لقد كانت التقنية القديمة تقوم على مجرد التجربة. إن الفرق بين التقليدي والمهندس هو أن البنّاء التقليدي يبدأ عملية البناء وفقا لفكرة مسبقة غير مدروسة عن نوع البناء الذي يريد، فإن سبق البناء أعاده على نحو آخر حتى يستقر. أما مهندس البناء ، فيبني البيت في رأسه فيبني البيت في رأسه قبل أن يجهزه في الواقع ، يبنيه كفكرة ثم يجسم تلك الفكرة على الورق وفق حسابات هندسية، فإذا استقر البناء الهندسي على الورق انتقل يجسده على الواقع مستندا إلى علم الهندسة" ص112.

لا يُخفي الكاتب تخوفه من أن يتحول إقبال الشباب الكثيف على الحركات الإسلامية إلى "عبء" هيكلي حين لا تجد قيادة تلك الحركات حلولا لحسن توجيه تلك الطاقات حتى تتحول من ركام تنظيمي إلى قدرات إبداع في المجتمع وفي مؤسسات الدولة:".فإن إقبال الجموع الكبيرة عليها سيطرح أمامها سؤالا بارزا: ماذا ستفعل بهذه الجموع المقبلة عليها؟ كيف ستوظفها في خطة التغيير في الخطة الحضارية؟ حتى لا يغدو عملها كما يقول الراحل مالك بن نبي،وهو يتحدث عن الإنسان المتخلف "الجمع والتكثير"، ومعلوم أن أكواما من الحجارة مهما كثرت لن تصنع بناءً ما لم تدرج ضمن خطة مسبقة" ص 112.

5 ـ الحركات الإسلامية ووسائل التغيير 

تحديد منهج التغيير لدى الحركات الإسلامية مهم جدا لتمكين الأطراف السياسية الأخرى من تحديد مواقفها منها وضبط أساليب التعامل معها،لقد ظلت الحركات الإسلامية منذ ظهور حركة الإخوان في مصر تتعرض إلى ملاحقات أمنية وإلى حملات قمع وتشريد وإعدام وظلت الأنظمة الاستبدادية تتهم هذه الحركات بكونها حركات عُنف وإكراه.

خطاب الحركات الإسلامية هو خطاب متعدد المصادر والمنابر وهو خطاب متفاوت المستويات يراوح بين "دعاة لا قضاة" و"لا إكراه في الدين" وبين "ومن لم يحكم بما أنزل الله".

قد تكون الحركات الإسلامية بسبب اتساع قواعدها الشعبية تعرضت إلى اختراق "مفاهيمي" أو اختراق "تنظيمي" أو الاختراقين معا، ولذلك ستجد الأنظمة دائما ما تُدين به تلك الحركات فتنظم لها مواسم للمحاكمات والتشريد والإعدام. 

 

لا يُخفي الكاتب تخوفه من أن يتحول إقبال الشباب الكثيف على الحركات الإسلامية إلى "عبء" هيكلي حين لا تجد قيادة تلك الحركات حلولا لحسن توجيه تلك الطاقات حتى تتحول من ركام تنظيمي إلى قدرات إبداع في المجتمع وفي مؤسسات الدولة

 



الحركة الإسلامية في تونس تعرضت لأول محاكمة سنة 1981 بتهمة "الخُمينية" ثم محاكمة ثانية في آخر حكم بورقيبة خريف 1987 ثم كانت الحملة الإستئصالية البشعة والتي استمرت طويلا بداية من 1992.

الأستاذ راشد الغنوشي الذي لا تَخفى على أحد ثوريته وشجاعته في مقارعة الاستبداد هو رجل مسكون بالحرية منذ بداياته، وهو يدعو دائما إلى معركة الأفكار والبرامج وينفي أن يكون في الإسلام عنف في العمل السياسي ويذكر دائما بكون حركته هي ضحية عنف الاستبداد.

يٌقسّم الغنوشي وسائل التغيير إلى نوعين: أسلوب الإقناع والحرية، وأسلوب الإكراه والعنف، وهو يرفض أن تتبع الحركات الإسلامية منهج الإكراه وهي الداعية إلى الحرية والعدالة.

وبالنسبة للطريقة المشروعة تكلم الكاتب عن وجود ثلاثة مناهج للتغيير :"ثلاث طرق واضحة للوصول إلى الحكم وكلها تتم عبر الشعب ويكون الشعب هو الحاكم فيها:الحل الديمقراطي، الثورة الشعبية والثورة المسلحة" ص 116.

6 ـ بين "شهوة" السلطة وعظمة الرسالة

من المخاطر التي هددت وتهدد الحركات الإسلامية هو تحولها إلى حزب سياسي كما كل الأحزاب لا تفكر إلا في السلطة ولا تتردد في استعمال كل الأساليب حتى السيئة منها بهدف الوصول إلى الحكم والمحافظة عليه، عندما تصبح السلطة غاية تصبح كل الوسائل مباحة وتقام العلاقات على المصالح وتغيب القيم الإنسانية وفضائل الإخوة والصدق والإيثار والتضحية.

لقد انتهت "شهوة" السلطة بعدد من الحركات الإسلامية إلى التفكك والفشل وإلى فقدان صورتها الجميلة عند عموم الناس.

الحركات الإسلامية مدعوة ـ بنظر الغنوشي ـ إلى أن تكون حركات بحجم قضايا الأمة وأشواقها أكبر من الأحزاب ومن شهوة السلطة، فعل الحركات الإسلامية الحقيقي هو في بث القيم الإيجابية وفي خدمة الناس ويستشهد في هذا الرأي بكل من مؤسس حركة الإخوان الشهيد حسن البنا وبالمفكر الإسلامي سيد الدسوقي وبالشيخ سعيد رمضان البوطي وبمحمد عبد الحليم أبو شقة.

وهي رؤية مشتركة تدعو إلى "انبثاث" الإسلاميين في النشاط الاجتماعي يؤثرون في العلاقات والمعاملات ويُشِيعون بين الناس قيم الإسلام ومبادئه من خلال ممارساتهم ومواقفهم وأفكارهم وإبداعاتهم فلا يحصرون أنفسهم في حزب سياسي ينافس على الحكم وينظر إليه الآخرون على أنه خصم أو منافس أو عدو يخشونه ولا يطمئنون إليه بل يستنبطون مختلف الوسائل لمواجهته وعرقلته حتى بالتشويه والاتهامات الباطلة."إن الحركة الإسلامية حسب هذا التصور أشبه ما تكون بالمدرسة الحضارية التي تقوم بتخريج أجيال صالحة تنبثّ في سائر شرايين المجتمع وخلاياه لتقوم بمهمة النهوض الإسلامي" ص33.