تجاوزت تداعيات
كورونا الآثار الصحية والاقتصادية لتثير نقاشا فكريّا حول منظومة القيم السائدة في العالم، خاصة مع ظهور قصور فادح في قضايا كان بريق العمران وزخرف الحضارة يحثانا على الاعتقاد بأن الإنسانية قد تجاوزتها، لكن اختبار كورونا أثبت أن التطور البشري كان أحادي البعد وليس شاملا.
فالإنسانية تقدمت في تيسير التواصل والاتصال حتى أصبح العالم قرية صغيرة، وتقدمت في الصناعة وتسخير الطبيعة، وتقدمت أحيانا في حقوق الإنسان والتداول السلمي للسلطة، لكنها في الوقت ذاته لم تتقدم أخلاقيا بما يكفي للقضاء على مشكلات الجوع والمرض والفقر. وكان زمن كورونا فرصة مهمة لإجراء مقارنة بين الإنفاق المهول على الأسلحة وصناعة الحروب، وبين الإنفاق المتواضع على تحقيق العدالة الاجتماعية والتأمين الصحي وتطوير أبحاث الطب والأدوية.
وكان من الطبيعي أن ينخرط كثير من المسلمين في هذا النوع من النقاش، مدفوعين بوعي جماعي بأن دين الإسلام يتضمن رؤية حضارية منافسة، وأن انكشاف سوأة المنظومة القائمة هو فرصة للتعريف بالشكل الجديد الذي يمكن بناؤه.
لكن هذا النقاش غلبت عليه الحماسة العاطفية أكثر من التفكيك العلمي للواقع، فقرأنا كثيرا من الفرح بمظاهر مثل رفع الأذان في بعض العواصم الأوروبية، أو ترويج أخبار لا رصيد لها من الدقة عن موجات اعتناق غير المسلمين للدين الإسلامي!
رفع الأذان في بعض العواصم الأوروبية
جاء من داخل إطار شروط الثقافة الغربية، فلا يعد انتصارا للمسلمين لأنه لم يمثل انقلابا في القيم الغربية ولا تخليا عن الهوية الحضارية، بل هو أقرب إلى أن يكون شهادة للغرب بأنه يقدر التعدد الثقافي والتسامح في الأوقات الصعبة.
أما قصة دخول غير المسلمين في دين الإسلام فهي تتضمن تبسيطا مخلا بمسألة جوهرية، إذ ليس من اليسير على الفرد أن ينقلب جذريا عن هويته الدينية والثقافية والاجتماعية، وحين يحدث ذلك فإنه يحدث في ظروف فردية خاصة. وغير المسلمين لا ينظرون إلى الإسلام بذات نظرة المسلمين، إذ لا يعتقدون أن من الضروري عليهم التحول إلى الإسلام حتى لو عرفوا بعض فضائله أو عرفوا بعض مساوئ المنظومة الثقافية التي نشأوا فيها، ومجرد معرفة عابرة للإنسان بأفضلية مذهب أو شخص هو أمر غير كاف لاستفزازه للتفرغ البحثي له. فنحن مثلا نسمع كثيرا عن حكماء الصين مثل كونفوشيوس ولاو تسه، لكن نادرا ما يتطور هذا السماع إلى تولد رغبة في قراءة كتبهم والتفرغ للإحاطة بتعاليمهم!
يشعر كثير من أمم الأرض بتفشي الظلم وضنك الحياة والحاجة إلى ولادة عالم جديد أكثر أخلاقية وإنسانية، لكن هذا لا يقتضي بالضرورة اعتقادها مثلا بأن الإسلام يمتلك الرؤية الإصلاحية المنشودة للعالم.
كذلك فإن فكرة تحول الأمم إلى دين الإسلام بالطريقة المتخيلة التي تسكن قلوب كثير من المسلمين هي فكرة منافية لمعاني القرآن ذاته، إذ إن الله تعالى قدّر بحكمته تعدد الأمم، وهو عن قصد لم يجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين: "وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّة وَاحِدَة وَلَ?كِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ ?فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ".
يعمل الدين لتحقيق هدف فردي، وهدف آخر أممي، فأما الأول فهو تزكية الفرد وتحريض قلبه على
الإيمان والاستقامة، وهذا هو السياق الذي نفهم فيه تحول بعض غير المسلمين إلى الإسلام في المستوى الفردي. أما الهدف الأممي فهو إقامة العدل في الأرض والإصلاح فيها والرحمة للعالمين، وهذا لا يقتضي أن يؤمن كل الأفراد بل يقتضي إقامة منظومة علاقات تحقق العدل والإصلاح والرحمة، وفي ضوء هذه المنظومة يتعاون كل الناس على برامج وصيغ سياسية واجتماعية محددة، كما تعاون النبي محمد صلى الله عليه وسلم مع قريش في حلف الفضول الذي كان يهدف إلى نصرة المظلوم، ومن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر.
القرآن هو كتاب مفعم بالرحمة والسلام والطمأنينة، لكن صورته قد تكون مختلفة عند غير المسلمين. وقد لا تمثل هذه الصورة قوة جذب لهم لافتراض أنه يحتوي معنى متميزا يستحق البحث فيه على الأقل، وكثير من الغربيين الذين ينهكهم طغيان المادة ويشعرون بظمأ روحي فإنهم قد يتوجهون إلى البوذية وطقوس اليوغا، ذلك أن الصورة النمطية التي رسخت للبوذية في الوعي الإنساني الغربي مرتبطة بالروحانية والسلام، بينما الصورة العامة للإسلام عند غير المسلمين قد اختلطت بدلالات الصراع وإثارة الخوف من الخطر والصدام الحضاري، وهي صورة مسبقة تشيد جدرانا سميكة في قلوب من يحملها تصده عن السبيل.
في إحدى محاضراته يسهب المعلم الروحاني إيكارت تول في شرح ما أسماه "الوعي المستسلم"، ويقول إن هذه الحالة هي حقيقة كل
الأديان، إنه حيز من الحضور الواعي يتجاوز الأفكار، استسلم لأي شكل تتخذه هذه اللحظة لأن الكون بأسره قد جلب لك هذا. هذا هو الاستسلام للرب، سيتوارى بناء الأنا الذي يعيش على المقاومة والرفض، ويكون هناك سلام في داخلك".
لو قرأ إيكارت تول القرآن بعقلية الباحث المتجرد، وليس شرطا بعقلية المسلم، لأمكنه أن يضيف بسهولة إلى كلامه أن أحد أكبر الأديان في العالم وهو الإسلام اشتق اسمه من مزيج "الاستسلام والسلام"، وهو ما يؤكد فكرته حول الوعي المستسلم الذي يجلب السلام إلى داخل الإنسان!
هؤلاء المحاضرون في الإرشاد الروحي أمثال إيكارت تول وواين داير وغيرهم كثيرا ما يستدلون بالمسيح وبوذا، بينما لا يستدلون من القرآن رغم أنه يعبر عن ذات المعاني وربما بطريقة أشد عمقا!
ربما أحد أسباب غياب حضور التأثير الإسلامي في التيار الروحي العالمي خارج دائرة المسلمين هو الانشغال بالأيديولوجية أكثر من الروحانية، والأيديولوجية تنشئ الجدران بين الناس وتغذي مشاعر الاختلاف والعداء، بينما الروحانية تنساب برقة مثل الماء فتروي الظامئين!
ثمة بعض التجارب الروحانية التي تستحق التقدير والتعزيز من داخل الحقل الإسلامي مثل التصوف وجماعة التبليغ، فهي تستلهم
المعنى الروحاني في الدين وتعزل نفسها عن مكدرات الصراع والأدلجة فيرى فيها الظامئ واحة ظليلة في الصحراء يؤوي إليها.
أوجز القرآن رسالة النبي محمد صلى الله عليه وسلم في كلمة واحدة: "وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين". وفي القرآن حضور لجمال الروحانية التي يبشر الدين بها المتعبين من مشقة الحياة، فالدين هو السلام والنور والرحمة والطمأنينة: "ليخرج الناس من الظلمات إلى النور".. "ألا بذكر الله تطمئن القلوب".. "فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون".. "ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى".. "فلنحيينه حياة طيبة".
إن ما ينقص البشرية اليوم ليس مزيدا من الرفاه المادي ووفرة الإنتاج، بل إن البشرية في توق إلى الرحمة والعدل والطمأنينة، وهي المعاني التي يتضمنها الدين لو أخلصناه من شوائب الصراع، واستلهمنا روحانيته ورحمانيته.
twitter.com/aburtema