منذ عام 1909، وبعد إزاحة السلطان عبد الحميد الثاني الذي كان العقبة الكؤود أمام مخطط تمزيق الأمة وإسقاط الخلافة الإسلامية، وهو ما حدث عام 1924، منذ ذلك التاريخ دخلت الأمة غيابات جب عميق من التيه، وتمزقت أوصالها، وتقطعت سبلها، ونهبت ثرواتها، وضاعت من الأرض المباركة ببركة مسجدها الأقصى المبارك الذي يشكو لله هوانه على المسلمين.
مرت سنوات وعقود حتى باتت الأمة في ذيل الأمم بفعل من توالى على حكم بلادها، بعد أن صارت الخيانة والعمالة ديدن كثير منهم ومذهبهم، يفعلون ما يؤمرون به ممن أتى بهم لسدة الحكم دون أن يهتز لهم جفن أو تطرف لهم عين. وفي أثناء كل هذا قدمت شعوب الأمة مئات الآلاف من خيرة أبنائها شهداء؛ سعيا لاسترداد كرامتها ورونقها وبهائها، واندلعت ثورات هنا وهناك تسعى للخلاص من التبعية والانبطاح.
وكأن التاريخ يعيد نفسه، ففي الأرض التي نشأت فيها الخلافة العثمانية على يد محمد الفاتح، وشهدت أيضا سقوطها، يخرج منها من يعمل على استرداد قوتها ووحدتها، اسمه رجب طيب
أردوغان الذي بدأ الصراع ضد الهيمنة والتبعية والانبطاح مبكرا، وخاض كل مراحله وحيدا مكشوف الظهر داخليا وخارجيا. ففي الداخل خاض وما زال يخوض صراعا مريرا ضد تيار معاد له ورافض لخروج
تركيا من عباءة الغرب.
دبروا له المكيدة تلو الأخرى، ونصبوا له فخاخهم واحدا تلو الآخر، وفي كل مرة يخرج منتصرا بفضل ثقته في الله ثم التأييد الشعبي له الذي احتضنه وآمن بمشروعه، بعد أن أثبتت كل التجارب صدق الرجل وشاهد الناس إنجازاته. وخاض الصراع رغم قسوته ودناءته، وكان الشعب التركي هو حائط الصد الأول لأردوغان، الذي كانت رؤيته ثاقبة بقراءته للمشهد الداخلي والخارجي والإقليمي بشكل جيد، أتاحت له معرفة نقاط قوته فعمل على تنميتها، وفطن لنقاط ضعفه فاجتهد لتلافيها.
وخلال مشوار نضاله، استطاع الرجل أن يخرج تركيا من عنق الزجاجة، وجعل منها قوة عالمية وإقليمية مهابة الجانب في شتى المجالات الاقتصادية والتجارية والسياسية والعسكرية، وأصبحت تركيا في ظل قيادته مهابة الجانب يحسب الجميع لها ألف حساب. لذلك؛ عند اندلاع ثورات الربيع العربي المباركة بغير ميعاد، كان أردوغان متحسبا لها ومتوقعا لانفجارها.
لذلك، بارك تلك الثورات ودعمها واحتضنها، حتى باتت تركيا قبلة لكل المظلومين والمضطهدين في بلادهم، وأصبحت تركيا في قلب كل شعوب الربيع العربي وضميرهم، وهذا ما جعل الطغاة والمستبدين يحاربونه ويدبرون له المكائد، وقادوا ثورات مضادة ودبروا انقلابات عسكرية أملا في القضاء على ثورات الشعوب.
وتعددت مكائدهم ودسائسهم حتى ظنوا أن الأمر استتب لهم، فجاءهم أردوغان وأفسد عليهم مشاريعهم واحدا تلو الآخر، وبدأت الثورة تستعيد بعضا من قوتها وتلتقط أنفاسها. ولعل ما قاله أردوغان عن قرب سماع أخبار سعيدة من ليبيا، خير دليل على أننا أمام زعيم مسلم استثنائي من طراز فريد، قاد ثورة في بلاده على طريقته الخاصة، جعلت منه نموذجا يحتذى به ويأمل كثيرون في تطبيقه.