في الصباحات البالغة الألق والجمال، حينما لم يكن كاتب هذه الكلمات يتجاوز الخامسة من عمره وحتى ما يشاء الله له من عمر، وحينما كنتُ أفيق من النوم على أبي يستمع لصوت الشيخ الراحل محمد محمود الطبلاوي، رحمهما الله، كنتُ وما زلتُ أشعر بنفسي فوق غيمة مُحلقة تتجاوز السحاب، وتحاول السجود أسفل عرش الرحمن لعله يهدي النفوس للخير والبشرية الحائرة إلى ما يرضيه.
وكنتُ وما زلتُ أتخيل الرجل بصوته يجلس فوق الغيمة ليقرأ دائما، وكيف لا؟ وهو الذي أتى بلون مُتفرد في تلاوة القرآن الكريم، جعله في السبعينيات من القرن الماضي يُنافس الراحل الشيخ عبد الباسط عبد الصمد، وقد كان الأخير حينها ملء السمع والبصر في مصر كلها.
وإن كان الطبلاوي أخفق في عام 1969م في النجاح في اختبار دخول إذاعة القرآن الكريم في القاهرة للمرة الثامنة، فلعظم الاختبار والمُمتحنين وقتها. وقد كان دخول إذاعة القرآن الكريم آنذاك مُفتاحا لدخول عالم الانتشار؛ إذ كانت إذاعة القرآن بمنزلة أكبر وأعظم من مكانة ومنزلة مواقع التواصل (يوتيوب، فيسبوك، وتويتر) مجتمعين، لسبقها وتفردها آنذاك على جميع الإذاعات المُماثلة في العالم، وبصمتها الأكثر من مُتفردة.
وفي عام 1970م أو المرة التاسعة من الاختبار، نجح الطبلاوي ودخل إذاعة القرآن الكريم ومختلف الإذاعات العربية، وانتشر صوته إلى العالم كله بعدها.
والشاهد، أن المُستمع إلى أحاديث الرجل بخاصة التلفزيونية بوجه عام، يُردد ما بينه وبين نفسه: "ليت الشيخ صمت وسكت، إلا عن التغريد بآي الذكر الحكيم".
بل إن المستمع لحوارات الرجل، يعرف لماذا حرم الغرب على أحد المُمثلين الذين جسدوا السيد المسيح على الشاشة الكبيرة أن يظهر في أدوار أخرى، وقيل إنه قتل أحدهم. فمع الفارق الشديد والاعتذار لكتاب الله ثم الشيخ الراحل، فإن الشيخ الطبلاوي بقدر ما كان مُمتعا ومُحلقا في قراءة آي الذكر الحكيم، وحفر لنفسه موقعا بارزا بين الجيل الثاني من كبار القراء، بعد مولانا وسيد قراء آي الذكر الحكيم الشيخ محمد رفعت في العصر الحديث، ومنذ اختراع الأسطوانات وقدومها بلادنا، إلا أن الطبلاوي إذ يتحدث يُسفر عن عقلية تمرست وتمرنت في إدراك علوم ومعاني كتاب الله، لكن لا دخل لها ولا علاقة بالواقع بخاصة السياسي، بل هو يسيء (من حيث يدري أو لا يدري) إلى نفسه ومشاهير عاصرهم، ويريد أن يحكي عنهم لتعظيم مواقفه معهم.
كان ذلك الانطباع عن الشيخ الراحل حاضرا بقوة قبل تنحي حسني مبارك ومجيء الثورة، ثم تولي الرئيس الراحل الدكتور محمد مرسي، ثم عزله من قبل الجيش. لكن هنا أكثر الشيخ، رحمه الله، مما لا يسر شخصا مُنصفا، من التصريحات المادحة للمخلوع، والذامة دون وجه حق للرئيس مرسي، والمادحة دون وجه حق أيضا في رئيس النظام المصري الغاصب عبد الفتاح السيسي. فلكأن الرجل حينما كان يتحدث في السياسة يسقط للأسف من علٍ، لا يُقارب بحال من الأحوال صاحب النغمة المستحيلة، بحسب وصف الراحل الموسيقار محمد عبد الوهاب له.
ولكن مَنْ كمثل قارئ القرآن الكريم المتفرد في تفرده؟ ويبدو أنه أيضا كان كذلك في خطئه، ولا نزيد تأدبا مع موقف الرجل ورحيله إلى رب عزيز كريم، ومن قبل كل ذلك رحيم.
يسوء كل إنسان شريف مخلص طوفان التعليقات الجارحة الذي طال الراحل منذ وفاته الثلاثاء الماضي (5 أيار/ مايو). ولا مجال هنا للتذكير بالأحاديث النبوية الصحيحة التي تؤكد (ما معناه) أن مَنْ مات فقد أفضى إلى ما قدم. ومن ثم، فلن يسوؤه ذم وقدح أحد، وإنما الأمر يوضع في ميزان حسنات الحي، وربما أحبط عمله، بحسب الحديث القدسي الذي غفر الله فيه لعاص وأحبط عمل مَنْ ظن نفسه عابدا لأنه استكثر أن يغفر الله للبعيد عنه، فقال له تعالى: "من ذا الذي يتأله عليّ أن أغفر لعبدي غفرتُ له وأحبطتُ عملك!".
ثم إن نغمة ترك العمل لنصرة الثورة المصرية المتعثرة والتفرغ لذم الذاهبين لرحمة الله طالت هذه المرة قارئا أشهر لكتاب الله، يعد من جيل الكبار الثاني الذي لا يعوضون بعد رحيل مصطفى إسماعيل، ومحمود البنا، وعلي طه، وطه الفشني، وأولئك رحمهم الله كانوا أصحاب مدارس في التلاوة مثل الطبلاوي. وإن كان الأخير أخطأ في حق الثورة والرئيس مرسي، فها هم المُفترض أنهم "ثوار" يتركون الواقع المر الأليم المحيط بهم ويتفرغون للذم والحكم بالسعير للراحل، وهم لا يدرون مصير أنفسهم في الآخرة قبله. وتمني المصير السيئ له، يزيد من انشقاق واقع مصر السياسي على النحو والطريقة اللذينِ يُرضيان الانقلاب أولا.
فإن كان الطبلاوي عاب الرئيس مرسي في سجنه؛ وهو أمر يستنكره مناصرو الديمقراطية في مصر، ونحن منهم، ولكن لماذا يعيب البعض على الشيخ في قبره؛ أفلا يكون بذلك قد زاد عما فعله الشيخ نفسه لما عاب الرئيس مرسي في سجنه دون وجه حق؟!
أو ليس من الأفضل إذا أن نردد مع نبي الله المسيح عيسى، ومع الفارق: من كان منكم بلا خطيئة فليرمه بكلمة؟!
الشيخ الطبلاوي آخر سلاطين دولة التلاوة في مصر
دماء مصرية.. ماذا يحدث في سيناء؟!