يذكّر الفيلم الوثائقي الذي بثّه تلفزيون العربي الجديد بأهم صراع معروف في
التاريخ الإسلامي، وهو صراع بني أمية وبني هاشم على المجد، وقد تحاذت الركب (حسب قول شهير لأبي جهل لعم النبي عليه الصلاة والسلام). بدأ بمنافرة بين هاشم وأمية بن عبد شمس، وكان موضوع المنافرة السيادة والشرف والجود والكرم، وكان الرهان خمسين ناقة سود الحدق تنحر بمكة، وكانت المنافرة أي الرهان، على الجلاء من مكة عشر سنين!
ارتضى الفريقان الكاهن الخزاعي حَكَماً، وذهبوا إليه، ولم يكن بعيداً عن مكة، فخزاعة كلها تسكن حول مكة، وعُرض الأمر على الكاهن، فنفَّر هاشماً، وحكم له بالسيادة وصاغ هذا الحكم بسجع الكهان: "والقمر الباهر، والكوكب الزاهر، والغمام الماطر، وما بالجوّ من طائر، وما اهتدى بحَكَم مسافر، في منجد وغائر، لقد سبق هاشم أمية إلى المآثر، أول منها وآخر".
وهناك منافرة ثانية بين عبد المطلب وبين حرب بن أمية، نفر فيها عبد المطلب، أي فاز، لكن المنافرة بين الخلف انتهت بفوز سلالة لعقة الدم على سلالة حلف الفضول، والوصف مجازي.
يقول الفيلم ما هو معروف ويعيد التذكير به، إن آل سعود الذين كانوا يحكمون نجد، والتي يخرج منها قرن الشيطان في حديث شريف، قبلوا بشروط الإنكليز، ووعد بلفور وسايكس بيكو، بل سعوا إليها سعياً، مقابل رعاية مُلكهم، ولا يزالون أوفياء للأسس التي قامت عليها المملكة كما قال سلمان.
والإنكليز هم العنصر الجديد في الصراع، ولا يجوز في الإسلام موالاة غير المسلمين، في حين رفض الشريف حسين سليل الأسرة الهاشمية الموافقة على شروط الإنكليز، وفاءً لدينه وكلمته وشرفه، وإن شابت مواقفه شوائب كثيرة، فحالف الإنكليز آل سعود وسلّحوهم، ففازوا بالسلاح الحديث والشرعية السياسية الخارجية، وبدأ ينشا نظام دولي جديد بعد الحرب العالمية. ولا نسب بين آل سعود وبين بني أمية، فهم من بني حنيفة، فإنما هي مقاربة تأويلية.
وكانت القبيلة
السعودية قد تحالفت في الداخل مع العقيدة الإسلامية البعثية الجديدة بقيادة محمد بن عبد الوهاب، ولم تكن الرياح تجري بما تشتهي السفن، فقد سقطت الخلافة العثمانية، وها هو ذا الصراع يستجد بين آل سعود، وبين سليل الخلافة الواثب رجب طيب أردوغان، وبين قطر، والإخوان المسلمين. أحد هؤلاء أو الثلاثة معاً يذكّرون بحلف الفضول، فقد ارتكبت جريمة القنصلية السعودية في إسطنبول، والضحية ذو أصول تركية عثمانية.
كان حرب بن أمية قد قتل جاراً لعبد المطلب في المنافرة الثانية التي جرت بينهما، فطالبه عبد المطلب بديّته، فرفض، فنافره واحتكما إلى نفيل بن عبد العزى العدوي، جد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ونفَّر العدويّ عبد المطلب بن هاشم، أي حكم بفوزه. وغضب حرب بن أمية، وأغلظ لنفيل القول، وقال له: من انتكاس الدهر أن جعلتك حَكَماً. ثم إن عبد المطلب أخذ من حرب بن أمية ديّة جاره مئة ناقة، لكن دم خاشقجي لا زال يغلي، ويعتقد أن أمريكا تدخر بطاقة الدم الحمراء لساعة الشّدة، إنها تعمل بالمثل القائل: خبئ قرشك الأحمر ليومك الأصفر.
كما يذكّر سلوك جماعة تنظيم الدولة التي تختصر بداعش، بسلوك إخوان من طاع الله، القذة بالقذة، والنعل بالنعل، الذين مزجوا الغزو والنهب براية التوحيد، وبدأوا حروب ردة، وسفكوا دماء الأبرياء حتى في الحرم المكي، وقتلوا الحجاج المصريين. فسلوك داعش هو نفس سلوك إخوان من طاع الله من تدمير للأضرحة وقتل للمسلمين على أنهم مشركون، واحتكار الإسلام وخطفه.
تحالفت السعودية مع
الوهابية وركبتها، وهي الدولة الوحيدة في العالم المعاصر التي تحمل اسم مؤسسها، بعد أن انقرضت دول الأشخاص اسمياً، وظنت الوهابية أيضاً أنها ركبت السعودية، ثم ضعف التحالف بعد نصف قرن أو سبعين سنة. واقتصر مغام التحالف مع الزمن على خدمة الحرمين والحجاج، وإقامة الركن الخامس منقوصاً من بُعده الروحي العالمي التعاوني. وهي تخدمه خدمة المُكره، بل هي في الحقيقة تستخدمه وتستثمره دينياً واقتصادياً وسياسياً.
فتخيل أيها القارئ أن الموظف السعودي الذي يستقبل الحاج لا يعرف الابتسامة، وهي أولى الخدمات التي يمكن تقديمها لضيوف الرحمن، وهي في الإسلام صدقة!
الحرم يسبغ على الملكية السعودية الشرعية الدينية، ويدرّ عليها مالاً أيضاً، وهي تتاجر بالحرمين الشريفين. فرسوم الحج والعمرة غالية، وتتألف الأسرة المالكة بالحج والعمرة قلوب شخصيات عالمية تتوق إلى زيارة البيت العتيق الذي ضاق به ملوك آل سعود، وها هم أولاء ينوون إنشاء كعبة نيوم على البحر الأحمر. فكأن ابن سلمان هو أبرهة الحبشي، وأن نيوم هي القليس لمنافسة الكعبة. ومن جهة أخرى، قامت بتوهين الإسلام وحصره في بعض المناسك، مثل الصلاة بالقوة والإكراه وصار اسم شعب نجد والحجاز الشعب السعودي.
كما أنها قضت على كل الآثار التاريخية الإسلامية، ولم يبق فيها سوى آثار خيبر، وهدمتها زاعمة حرصها على التوحيد، ولم تسعَ إلا إلى التوحيد السياسي الذي بلغ مرحلة التوثين السياسي بل الديني أيضا.
يقول الفيلم، وكذلك الوثائق التاريخية، إن الوهابية المتحالفة مع السعودية فكرتْ في تدمير قبر النبي وتورعت منه خوفاً من الشعب، وهي تحاول التعويض عن الآثار النبوية الكثيرة بمدائن صالح والبدع السياحية الجديدة. فتدمير التاريخ هو دأب كل الطغاة، ويمكننا أن نتذكر قول الإمام عادل إمام: إنهم يتبعون الدين الجديد.
سيحاول أحد الساخطين من أتباع الوهابية الثأر لها مما لحق بها من هوان وضعف، وهو جهيمان العتيبي، لكن قبيلة آل سعود المتحالفة مع الغرب، ستفوز بمعاونة فرنسا، وستسفك الدماء في الحرم وتقصفه بالقنابل، والقصة معروفة، فلا حرمة للحرَم. ستكون الحرمة لنيوم على البحر الأحمر منذ الآن، إن وجدوا إليها سبيلاً، فهناك مصاعب اقتصادية.
كان يمكن أن نتذكر أن بني حنيفة كانوا أقبح الناس ردا على النبي عليه الصلاة والسلام وهو يدعو القبائل إلى الإسلام، فالآية الكريمة تأمر المؤمن قائلة: "وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى"، وقد خرج من أصلاب بني حنيفة أخيار كثيرون.