تسببت تداعيات فيروس كورونا من الإغلاق الكلي والجزئي للعديد من الأنشطة الاقتصادية المصرية، في تضرر غالبية قطاعات النشاط الاقتصادي وتراجع مبيعاتها، وصعوبة حصولها على مستلزمات الإنتاج، وتأخر حصولها على مستحقاتها، مما دفع الكثير من الأنشطة الخاصة للاستغناء عن جانب من العمالة، أو استقطاع أو تأجيل سداد جانب من أجورها.
وعلى الجانب الآخر زادت تكلفة الإنتاج في تلك الشركات العامة والخاصة، نتيجة زيادة نولون الشحن والنقل، وزيادة الإنفاق على عمليات التطهير والتعقيم المستمر لصالات الإنتاج، ووسائل نقل العاملين، وتخفيف أعداد العمالة في مواقع الإنتاج، وتخصيص فريق طبي لمتابعة الحالة الصحية للعاملين، وتزويدهم بوسائل الوقاية من انتشار الفيروس.
ووسط تلك الظروف الصعبة للشركات وللعاملين، أعلنت الحكومة المصرية عن خصم نسبة 1 في المئة من صافي أجور العاملين في الجهاز الحكومي والشركات العامة والخاصة، أي الصافي بعد خصم الضريبة والتأمينات الاجتماعية، لمدة 12 شهرا بداية من شهر تموز/ يوليو القادم، وخصم نسبة نصف في المئة من صافي الدخل لأصحاب المعاشات لمدة 12 شهرا أيضا في نفس التوقيت، لتتوجه الحصيلة لمواجهة تداعيات الفيروس.
وأثار البعض شبهة عدم دستورية القرار، حيث أنه يمثل تبرعا إجباريا ومن شرائح تستحق الدعم والمساندة، لكن ذلك لن يحول دون المضي في تنفيذ القرار، حيث أن هناك الكثير من مواد الدستور معطلة في السنوات الأخيرة ومنها مواد الحريات وحرية التعبير، دون أن يمنع ذلك من استمرار تعطيلها بل والتغول في انتهاكها، كذلك لا يمكن التعويل على قيام البرلمان أو وسائل الإعلام بتخفيف أو تعديل نطاق تطبيق القرار.
بل إن إبداء الرأي المخالف للقرار عبر وسائل التواصل الاجتماعي يمكن أن يتسبب في إلحاق الضرر؛ بهؤلاء الذين انتقدوا تقديم مساعدات طبية لإيطاليا والولايات المتحدة والصين وغيرها من الدول، وقيام الموظفين وأصحاب المعاشات والعمالة المؤقتة بدفع جانب من تكلفة تلك المساعدات.
59 مليار جنيه للضريبة على المرتبات
وتمثل فئة الموظفين العاملين في الجهاز الحكومي الشريحة الأكبر المستهدفة من القرار الجديد، رغم فتوى بعض العلماء قبل سنوات باستحقاقها للزكاة نظرا لمعاناة أصحابها وسط الغلاء المستشري. وإذا كانت حصيلة الضرائب تمثل حوالي 70 في المئة من إيرادات الموازنة الحكومية، فإن فئة الموظفين العاملين في الحكومة تمثل الفئة الوحيدة التي تدفع ما عليها من ضرائب بشكل كامل ومسبق، مقابل تهرب وتأخر معظم الفئات الأخرى بدفع ما عليها من ضرائب.
وتشير بيانات وزارة المالية حول الحساب الختامي للعام المالي 2018/2019 إلى تحصيل 59.2 مليار جنيه كضريبة على المرتبات، حيث يتم استقطاعها من المنبع وقبل حصول الموظفين على أجورهم الشهرية.
وفي المقابل، كانت حصيلة الضريبة من إيرادات المهن الحرة، من مهندسين ومحامين ومحاسبين وفنانين وأطباء وصيادلة وغير ذلك من المهن الحرة، 2.5 مليار جنيه فقط، نظرا لتهرب الكثيرين من هؤلاء من دفع ما عليهم من ضرائب للدخل، رغم بلوغ عدد أعضاء النقابات المهنية الخمس والعشرين حوالي ثمانية ملايين شخص.
بل إن ضرائب الدخل على إيرادات النشاط التجاري والصناعي بلغت أقل من 25 مليار جنيه، أي أقل من نصف ضرائب المرتبات. كذلك بلغت حصيلة الضرائب على أرباح الشركات العامة والخاصة (باستبعاد قناة السويس وهيئة البترول) والبالغ عددها آلاف الشركات؛ أقل من 86 مليار جنيه.
وهكذا قدرت وزارة المالية إيرادات الضريبة على المرتبات في العام المالي الحالي، الذي ينتهى آخر شهر حزيران/ يونيو، بنحو 61.5 مليار جنيه. كما تضمن البيان المالي التمهيدى لموازنة العام المالي الجديد، الذي يبدأ بشهر تموز/ يوليو القادم، توقعات ببلوغ حصيلة الضريبة على المرتبات 77.5 مليار جنيه.
وكان وزير المالية قد أشاد بزيادة مخصصات الأجور للعاملين في الحكومة بنسبة 11.3 في المئة خلال العام المالي الجديد 2020/2021، بينما يشير قرار مجلس الوزراء (الذي دعا إليه وزير المالية، بل وطلب بدء تنفيذه من بداية أيار/ مايو) إلى خصم ما مجموعه نسبة 12 في المئة من الأجور على مدار 12 شهرا.
وهو ما يتناقض أيضا مع ما ظل المسؤولون في النظام المصري يشيدون به، من حماية اجتماعية وتخفيف عن الفئات المطحونة، بتقديم علاوة بنسبة 7 في المئة من الأجر الوظيفي للموظفين المخاطبين بقانون الخدمة المدنية، وعلاوة بنسبة 12 في المئة من المرتب الأساسي للموظفين غير المخاطبين بقانون الخدمة المدنية.
القطاع الخاص يقترض الأجور بفائدة
وهكذا نجد العلاوة الجديدة التي سيبدأ سريانها من تموز/ يوليو القادم ترتبط نسبتها بالأجر الأساسي، بينما الخصم من الأجر الذي سيبدأ سريانه بنفس التوقيت، يرتبط بصافي الدخل بعد خصم الضريبة والتأمينات الاجتماعية، أي بقيمة أعلى من الدخل الأساسي، في ضوء محدودية نصيب الأجر الأساسي بالقياس لكامل الأجر، والذي تمثل فيه المكافآت والبدلات النصيب الأكبر.
وإذا كان قرار الخصم الجديد من الرواتب يشمل العاملين في الحكومة وفي القطاع الخاص، فإنه من السهل تطبيقه على العاملين في الحكومة بالخصم من المنبع قبل صرف الأجور الشهرية، إلا أن ذلك صعب فيما يخص القطاع الخاص، نظرا للظروف الصعبة التي يمر بها، حتى أن المصرف المركزي المصري، قد خفض الفائدة لشركاته للاقتراض لسداد الأجور، فكيف يتم التبرع بنسبة من أجور مقترضة بفائدة 8 في المئة ؟
وإذا كان متوقعا أن تضغط الحكومة على منشآت القطاع الخاص المنظم لاستقطاع تلك النسبة من أجور العاملين بها، مستفيدة من أجواء الخوف المهيمن على الساحة، فإن هذا الاستقطاع سيكون صعبا مع القطاع الخاص غير الرسمي داخل المنشآت، والبالغ عدد منشآته مليونا و983 ألف منشأة، يعمل فيها 3.9 مليون شخص، حسب بيانات التعداد الاقتصادي الرسمى الأخير.
كما سيكون أصعب مع القطاع الخاص غير الرسمي الذي يعمل خارج المنشآت والذي يعمل فيه حوالي أربعة ملايين شخص، مما يشير للاستقطاع من أجور من يتم استقطاع ضريبة الدخل وضريبة الدمغة على مرتباتهم، بينما لا يتم الاستقطاع من مرتبات من لا يدفعون ضرائب على دخولهم. كما سيساهم ذلك من ناحية أخرى في نفور القطاع الخاص غير الرسمي؛ من الانضواء تحت المنظومة الرسمية التي تعني في رأيه المزيد من الجباية دون تحقق استفادة له مقابل ذلك.
مطلوب إعفاء المعاشات المحدودة
ومن الغريب أن ينص قرار مجلس الوزراء المصري على الخصم الشهري من أجور كل من العمالة الدائمة والمؤقتة، حيث أن العمالة المؤقتة وغير المنتظمة تعد من أكثر الفئات تضررا من تداعيات الفيروس، نظرا لتوقف كثير من الأعمال، كالمقاهي والكافيهات وعربات بيع الطعام والصالات الرياضية والأندية الرياضية ومراكز الشباب والشواطئ والمعارض والمؤتمرات والموالد، وغيرها من الأنشطة.
وإذا كان قرار مجلس الوزراء المصري قد أعفى من الخصم الشهرى أصحاب الدخول الذين لا يزيد صافي دخلهم الشهرى عن ألفي جنيه، فإنه لم يشر إلى إعفاء مماثل لأصحاب المعاشات الصغيرة، وبما يعني شمول القرار لكل أصحاب المعاشات، فهناك معاش الضمان الاجتماعي البالغ قيمته 323 جنيها شهريا للفرد، ويصل حده الأقصى إلى 450 جنيها شهريا للأسرة المكونة من أربعة أفراد فأكثر، ومعاش كرامة لكبار السن والمعاقين البالغ قيمته 450 جنيها شهريا.
كما أن عددا كبيرا من المعاشات المقدمة من قبل صندوق التأمينات الاجتماعية قيمتها أقل من ألف جنيه، بدليل تخصيص يوم خاص لهم عند صرف المعاشات من قبل مكاتب البريد، ويوم خاص لمن يتقاضون معاشاتهم من مكاتب التأمينات الاجتماعية في المحافظات، في ضوء تقسيم أيام الصرف حسب قيمة المعاش منعا للزحام مع انتشار فيروس كورونا.
وكان مسؤولو الحكومة قد تباهوا بزيادة المعاشات التي تصرف من خلال صندوق التأمينات الاجتماعية بنسبة 14 في المئة مع بداية تموز/ يوليو القادم، في حين أن قرار الخصم الجديد من المعاشات بنسبة نصف في المئة شهريا لمدة 12 شهرا، سيخصم منها نسبة 6 في المئة على مدار اثني عشر شهرا.
أما معاشات التضامن الاجتماعي ومعاش تكافل ومعاش كرامة المحدودة القيمة؛ فلن تلحق بها أية زيادات، حتى أن معاش الضمان الاجتماعي ثابت القيمة منذ نيسان/ أبريل عام 2014.
ويمثل أصحاب تلك المعاشات المحدودة، الشريحة الأكثر حاجة للعلاج والدواء والغذاء لتقوية المناعة لمواجهة الفيروس.
قناة السويس وأثر تحول سفن لرأس الرجاء الصالح