قد لا تُطرح مسألة السلطة في البلاد العربية كما يمكن أن تُطرح في المسار السياسي والفكري الذي أعقب ثورات الربيع. السلطة وممارستها لم تعرف تغيّرا كبيرا في أدائها وفي آلياتها وأوجه ممارستها خلال نصف قرن أو يزيد من عمر الدولة الاستبدادية أو الدولة الوطنية كما اصطلح عليها في الخطاب الرسمي. ففي الجمهوريات المدنية أو العسكرية أو حتى الأنظمة الوراثية كانت ممارسة السلطة تقوم على نفس النسق الاقتصادي والاجتماعي والثقافي الذي تأسست عليه التطبيقات السياسية للسلطة المركزية.
فرغم بعض الفروقات التطبيقية تكاد الأنساق تكون نفسها من جهة تغييب الفاعل الشعبي أو الجماهيري عن المشاركة في الممارسة السياسية ولم تكن البرلمانات العربية أو مكونات المجتمع المدني إلا أصداء باهتة تردد شعارات السلطة الحاكمة وتزكيها. لكنّ اندلاع الثورات غيّر من طبيعة توزيع السلطة وممارستها وهي الثورات التي قامت أساسا من أجل إسقاط النظام، أي شكل الحكم من أجل فرض المشاركة الشعبية فيها.
سقوط الأنظمة
نجحت الثورات العربية في إسقاط عدد من أخطر الأنظمة القمعية في تونس وليبيا ومصر. وهو أهم حدث عرفته المنطقة في دلالته المزدوجة فهو حدث قد كشف قابلية هذه الأنظمة للسقوط من ناحية أولى وبيّن من جهة ثانية قدرة الشعوب على إسقاطها. صحيح أنّ السلطة القديمة نجحت في استعادة مجالها في مصر عبر الانقلاب العسكري وفي ليبيا عبر المحاولة الانقلابية التي لا تزال أطوارها تتفاعل هناك، وكذلك في سوريا حيث عمد النظام إلى إحراق البلاد في سبيل المحافظة على السلطة. لكنّ الواقع الجديد قد تغيّر بشكل جذري من ناحية إثباته هشاشة المنوال الحاكم وعدم قدرته على التواصل بنفس الآليات القديمة، خاصة على المستويين المتوسط والبعيد.
لا بد في هذا السياق من ملاحظة قدرة النظام الرسمي العربي على التكاتف وعلى السعي إلى إحياء نفسه بالتوقي من مواجهة الموجة الشعبية وهو الأمر الذي ظهر في إسناد أنظمة الخليج الغنية لعمليات إحياء الاستبداد عبر دعم الانقلابات. نجحت السعودية والإمارات في تمويل موجة الانقلابات منعا لانهيار النظام العربي برمته وهي العملية التي لا تزال أطوارها تتفاعل في تونس وليبيا وسوريا واليمن ومصر.
إن انهيار صورة الزعيم في المخيال الجمعي العربي اليوم وتلاشي الهالة التي أحاطت بها عبر عقود من الزمن يمثّل أعظم مكاسب الوعي اليوم. هذا التقدّم الكبير يتجلى في عجز النظام السياسي الرسمي عن إعادة ترميم الصورة في مصر أو في ليبيا أو في سوريا مثلا.
صحيح أيضا أن هاته الأنظمة قادرة على إنجاح الانقلابات كما حدث في مصر لكنها عاجزة عن توفير بدائل ناجعة بإمكانها الاستجابة لشروط الانفجارات الاجتماعية ومنع تجددها. أمكن للإمارات والسعودية بتوجيه خارجي الانقلاب على السلطة المنتخبة في مصر لكنها لا تستطيع حماية الانقلاب وضمان صيرورته مدّة طويلة. لا يقتصر الأمر هنا على انحسار الضخ المالي المتأثر بأزمة جائحة كورونا والكساد الكبير الذي يتهدد العالم، لكنه مرتبط ببقاء منوال القمع والفساد اللذين قامت الثورات بسببهما.
بناء على ما تقدّم تكون السنوات العشر المنقضية من عمر التغيير السياسي في المنطقة العربية الموجة الأولى لبداية نهاية أشكال الحكم في المنطقة العربية. وليست الأحداث المتسارعة مشرقا ومغربا إلا مؤشرا على ثبات مبدأ المطالبة بالتغيير وإعلانا عن أن شكل النظام السياسي قد وصل إلى منتهاه.
وهم الزعامة
تأسس الحكم في ما سُمّي بالدولة الوطنية على منطق الزعامة وعلى صورة الزعيم وهو الفرد الخارق المنقذ القادر وحده دون غيره على الإبحار بسفينة الوطن بين الأمواج المتلاطمة. تأسس الحكم زمن عبد الناصر والقذافي وبورقيبة والأسد وصدام وغيرهم، على نحت صنم كبير لبطل خارق لا ينطق عن الهوى ولا يسير على ضلال.
لكنّ حجم القمع الذي واجهت به المنظومات الاستبدادية ثورات الشعوب وحجم المجازر التي ارتكبت كشفت زيف الصنم وزيف الشعارات التي كان يتغطى بها. كما ساهمت الوسائط الرقمية ومواقع التواصل الاجتماعي في سرعة انتشار المعلومة والصورة والخبر بشكل سارع من تعرية جرائم الأنظمة القمعية وساهم في سقوطها.
إن انهيار صورة الزعيم في المخيال الجمعي العربي اليوم وتلاشي الهالة التي أحاطت بها عبر عقود من الزمن يمثّل أعظم مكاسب الوعي اليوم. هذا التقدّم الكبير يتجلى في عجز النظام السياسي الرسمي عن إعادة ترميم الصورة في مصر أو في ليبيا أو في سوريا مثلا. ففي مصر لم ينجح الجنرال الانقلابي في تقمص صورة الزعيم رغم كل الضخّ الإعلامي والأذرع التواصلية التي اجتهدت في صناعة بطل خارق جديد. بل صار الرئيس المصري أضحوكة المواقع الافتراضية بسبب التصريحات الغريبة والمتناقضة التي تصدر عنه كلما أخذ الكلمة في مكان رسمي أو عام.
في ليبيا أيضا لم تتمكّن البزة العسكرية من صناعة قذافي جديد رغم الإمعان في استنساخ نموذج قائد الثورة وملك ملوك إفريقيا. أما في سوريا فقد غطّت بشاعة المجازر المرتكبة على كل محاولات إنقاذ النظام الذي يسير إلى حتفه مهما كانت مخارج الصراع على الأرض.
بناء على ما تقدّم فإن إعادة إنتاج نفس النظام السياسي القديم صار أمرا مستحيلا وهي خلاصة يدركها كل المنخرطين في المشهد العربي. بل إن المنظومات الخليجية اليوم صارت على وعي تام بأن التحوّل أصبح أمرا لا مناص منه وهو ما يؤكده المشهد الليبي المتحول بعمق أو المشهد المصري الممعن في الاحتقان أو المشهد السوري واليمني حيث يهيمن الانسداد على كل مخارج الحرب الأهلية.
لن يكون تجديد النظام السياسي العربي ممكنا لأنه فقد كل أسباب وجوده ولن يكون بإمكان كل ثروات الأرض إنقاذه لأنه أصبح مثل الثقب الأسود الذي يلتهم كل ما يقترب منه. هذه الخلاصة هي التي تجعل من ولادة نظام سياسي عربي ولو في شكله المتردد مثلما هو الأمر في تونس إعلانا عن بداية مرحلة جديدة في تاريخ المنطقة برمتها. وهي مرحلة قد تمتدّ في الزمن لكنها ستفرض حتما واقعا جديدا مختلفا عمّا سبقه.
أزمة النخبة الليبية.. مسلسل التضليل والتزييف مستمر
الفلسطينيون والعرب عموما يعرقلون حل القضية الفلسطينية