الكتاب: "النظم التربوية في البلدان المغاربية (تونس- الجزائر- المغرب)"
المؤلف: د. مصدّق الجليدي
النّاشر: مجمّع الأطرش للكتاب المختص
الطبعة الأولى: 2020
عدد الصفحات: 224 صفحة.
إنّ ما تشهده المنطقة العربيّة منذ 14 كانون الثاني (يناير) 2011، والمغاربيّة على وجه الخصوص، من تحوّلات سياسية واجتماعية متسارعة، وما اتسمت به من مناخات اجتماعية وسياسية يغلب عليها التوتّر والارتجاليّة، ألقت بظلالها على مُجمل المناحي التعليمية والتربويّة، يفرض الحاجة الماسّة لتأهيل النظم التعليمية والبحث في طبيعتها ومناويل نهضتها المنشودة، سعيا حثيثا لفكّ لوغارتمات التواصل المعدومة وشيفرتها بين المثقف-المتعلّم وقوى المجتمع الحيّة، على أمل تفعيل أدوارها المغيّبة داخل المناخ الانتقالي الجديد ورتق الأخاديد والتشوهات المخيفة داخل الشخصية العربيّة.
في ذات السياق، فإنّ التفكير الوطني المسؤول حول مستقبل التعليم ومخرجاته التقنية والثقافيّة، يستدعي مواجهة مشكلاته البنيويّة والحضاريّة المستعصية، ضمن عمليّة إعادة إنتاج مجتمعية هادئة، تأخذ بعين الاعتبار الأرضية الهووية وغايات التعليم المستقبلية، كي لا يظلّ مجرّد دلتا لجيوش من العاطلين، منبتة حضاريا ومفتقدة للمتطلبات التقنية الدّنيا لسوق الشغل، خاصّة في ظلّ ارتباط معظم النظم التربوية لدولة الاستقلال العربيّة، ارتباطا قويا للغاية بإنتاجات المجتمعات الرأسمالية الاستهلاكيّة وخلفياتها الثقافية والعقديّة.
في هذا الإطار يتنزّل المؤلف الجديد للباحث التونسي في الشأن التربوي، الدكتور مصدّق الجليدي، وهو أستاذ باحث أكاديمي بمركز البحوث والدّراسات في حوار الحضارات والأديان المقارنة بسوسة وخبير دولي في التّربية، رام الاشتغال، في مستوى أوّل، على فهم العوامل التاريخية المركّبة التي أدت إلى الوضع الراهن للمدرسة التونسية، وهي في معترك التجاذب بين الوافد والأصيل، ومن ثمّة محاولة رسم الملامح العامة لفلسفة بديلة للنظام التربوي التونسي، من خلال الاستفادة من التجربة التاريخية للمدرسة التونسية ومن تراثها الوطني الأصيل ومن الفكر الإنساني الكوني، ليخلُص إلى اشتقاق ملامح خريجي المدرسة التونسية المنشودة وليعمل على مقارنة متعددة الجوانب بين المنظومة التربوية التونسية مع نظيرتيها في كلّ من الجزائر والمغرب، شملت غايات تلك الأنظمة وأهدافها ومهامّها، ومبادئها ومرجعيّاتها وبنياتها ومنظومات تكوينها وتقييمها وإشهادها وحوكمتها وتجديدها.
ضرورة الجمع بين الأبعاد البنيوية والتاريخية الحضارية
لئن استهلّ مصدّق الجليدي بحوثه في علوم التربية بما هو مُعالج لمشكلات الفضاء الداخلي لفصول التدريس وما يتّصل بها من مقاربات "ميكروسكوبيّة" ـ جزئيّة للشأن التربوي داخل الفصول التعليمية أو حتى في سياقات مؤسسية تربوية بصفة أوسع، وهو ما اتضح في كتابه "في علوم التربية" (2002)، ليتناول بالدّراسة لاحقا المقاربة "الماكروسكوبيّة"، التي تتعدّى الاقتصار على تطوير الممارسات التعليميّة للمدرّسين إلى ما هو أشمل وأكثر علائقيّة، مثلما جاء في كتابه "تربية المستقبل" (2014). أو تُوثّق لتاريخ العمليّة الإصلاحيّة التربوية في كتابه "روّاد الإصلاح التربوي في تونس" (2009)، فإنّ كتاب الحال جاء جامعا بين البعدين الأخيرين معا: البنيوي والتاريخي الحضاري، مع توسّع في الامتداد الجغرافي ليتجاوز الحيّز القطري إلى المدى المغاربي، بالتركيز خاصّة على روح النّظام التربوي وبنيته وعوامل نموّه وتجدّده.
يمثّل الجمع بين الأبعاد البنيوية والتاريخية الحضارية، تحوّلا مهمّا في ملامح الباحث مصدّق الجليدي، الذي عرج ببحث الحال من خبير تربوي في الممارسة التعليميّة إلى خبير في النّظم التربويّة تقييما وإصلاحا. وهذا ما يجعل من قراءة كتاب "النظم التربوية في البلدان المغاربية (تونس ـ الجزائر ـ المغرب)"، فرصة سانحة لشهود هذا التطوّر البحثي لأكثر الملفات الوطنية حساسية وأهميّة.
دراستان في كتاب واحد
يحتوي الكتاب على دراستين اثنتين: الدراسة الأولى بعنوان: "النظام التربوي التونسي: جدليّة الأصيل والوافد"، والدراسة الثانية بعنوان: "النظم التربوية المغاربيّة: التقاطعات والفروق وإمكانات التكامل". وقد اجتهد المؤلف في الدراسة الأولى في النّظر معمّقا في توجّهات النظام التربوي واختياراته عبر العصور، من العهدين الروماني والعربي الإسلامي إلى الفترة المعاصرة خلال الحقبتين الاستعماريّة والوطنيّة، محاولا تقويم تلك التوجّهات تقويما موضوعيّا، منظورا إليها في سياق جدليّة "الأصيل والوافد". سعيا دؤوبا منه في فهم العوامل التاريخيّة المركّبة التي أدّت إلى الوضع الراهن للمدرسة التونسيّة، وهي في معترك التجاذب بين الوافد والأصيل.
في تونس الاستقلال، تونس العربية المسلمة المالكية والأشعرية، أي المتجانسة مذهبيا والموحّدة طائفيا، تعامل المشرّع مع مسألة الهوية العربية الإسلامية في مطلع الاستقلال تعاملا ازدواجيا مع تأثّر واضح بإملاءات المستعمر الفرنسي
بالإضافة إلى هذه الدّراسة المستقلّة للنظام التربوي التونسي، فإنّ سعي المؤلف إلى تجاوز القطرية الضيقة المفوتة لفوائد جمّة على كل قطر من الأقطار المغاربية، جعله يهتمّ بالنظم التربوية في الدّول المجاورة، على وجه الخصوص بالجزائر والمغرب، والتي اختارها نماذج لمجمل النظم التربوية المغاربية، لما بين هذه البلدان من صلات تعليمية وعلمية تاريخية، نذكر منها تلقي بعض الزعماء الجزائريين تعليمهم في تونس (دراسة هواري بو مدين في الزيتونة على سبيل المثال)، وتتقل بعض العلماء التونسيين للتدريس بالمغرب (تدريس الشيخ الفاضل ابن عاشور في القرويين بفاس، على سبيل المثال)، وللتشابه الكبير الحاصل في تاريخ التربية والتعليم في هذه البلدان، فكلّها قد عرفت التعليم الأصيل والتعليم الحديث زمني الاحتلال الفرنسي وفترة دولة الاستقلال الفتيّة.
قاد الاهتمام بما يجري في الثلاثة نظم تربوية، المؤلف إلى إجراء مقارنة متعدّدة الجوانب فيما بينها، شملت غايات تلك الأنظمة وأهدافها ومهامّها، ومبادئها ومرجعيّاتها، وقضيّة التعريب، وبنية التعليم في تلك الأنظمة، والهياكل والتسيير والحوكمة، وتكوين المدرّسين، والتجديد البيداغوجي.
مرجعيّات النظام التربوي التونسي وغاياته
تتنزّل دراسة مرجعيات النّظام التربوي التونسي وغاياته في إطار فلسفته الحضارية. ومن المعلوم أن الفلسفة تعتني بمسألة المرجعيات والغايات، بينما تعتني العلوم بالكيفيات والوسائل. وقد اهتم المؤلف بمرجعيّات النظام التربوي وغاياته بخلفية حضارية: أيّها الأصيل وأيّها الوافد؟ وهل أمكن إيجاد توليفة طريفة بين الأصيل والوافد؟ علما بأنّ الأصيل قد عاش أطوارا وجرت عليه تطورات وتطويرات، من التعليم الزيتوني الأول، إلى حدود إصلاحات المدرسة الصادقية والإصلاحات التي قام بها الشيخ محمّد الطاهر بن عاشور على التعليم الزيتوني (الشعبة العصرية)، مرورا بإصلاحات العهد الحفصي (627 ـ 982هـ/ 1228 ـ 1573م)، زمن كان الآبلي (من شيوخ بن خلدون) على سبيل المثال يدرّس العلوم العقلية بالجامع الأعظم، من رياضيات وفلك وعلوم طبيعية وغيرها، إلى جانب القلصادي، صاحب دروس الحساب أو الصقلّي، صاحب المعارف الطبية، ثم إصلاحات الطّور الحسيني الأول (مدة القرن 18 تقريبا وبداية القرن 19) الذي كان يعتبر العصر الذهبي لجامع الزيتونة. وكذلك الشأن بخصوص الوافد، من التعليم الروماني وصولا إلى التعليم الحديث زمن الاحتلال الفرنسي لتونس، ثم إصلاحات النظام التربوي في دولة الاستقلال، بداية من إصلاح 1958.
القصور عن تحقيق الأهداف التنموية المرسومة
يرى المؤلف أنّ الباعث على التناول الجدلي الحضاري لمنظومة مرجعيات النظام التربوي التونسي وغاياته، هو انفتاح هذا الأخير، عبر التاريخ، على مرجعيات متعددة متعاقبة أو متزامنة، انفتاحا أثّر في غاياته وفي نوعية مخرجاته. وقد نتج عن هذا الانفتاح مشكلٌ يتمثل في تأثر غايات النظام التربوي ومخرجاته بالنظم التربوية والسياقات الثقافية التي انفتح عليها، إن طوعا أو كرها.
لئن قاد البحث عن مرجعيات النظام التربوي التونسي إلى استنتاج رئيس مفاده تأثّر هذا الأخير بما سبقه من نظم تربويّة، على وجه الخصوص في العهدين الروماني والعربي الإسلامي وما رسخ من الحقبة الاستعمارية الفرنسية طيلة النصف الأوّل من القرن الماضي، فإنّ الاستنتاج الأهم الذي اهتدى إليه نفس هذا البحث هو أنّ هذا التأثّر لم يكن في كل الأحوال في صالح خريجي المدرسة التونسية من النواحي المعرفية والقيمية والمهارية، بما يعنيه ذلك من قصور المجتمع والدولة عن تحقيق الأهداف التنموية المرسومة.
مع تخصيص نظام التعليم الزيتوني بقدر من الدراسة، ليتوقف بعد ذلك عند مرجعيات التعليم وغاياته في الحقبة الاستعمارية، وليعمّق النظر أكثر في نهاية المطاف في مدرسة الاستقلال بمختلف المراحل والإصلاحات التي مرت بها مركزا بصفة خاصة على غاياتها ومرجعياتها وما ارتبط بها من خيارات تعليمية ومؤسسية ضمن خلفياتها الثقافية والسياسية المحلية والدولية.
اللّغة والدين في قانون الإصلاح التربوي "4 تشرين الثاني/ نوفمبر 1958"
يُشدّد الباحث على أنّ اللّغة والدّين من المقوّمات الأساسية للهوية الحضارية والوطنية. وقد تعاملت معهما الدساتير والنظم التربوية الحديثة على أنحاء مختلفة بحسب خلفياتها التاريخية والإيديولوجية الرسمية وبحسب البنيات الطائفية والمكوّنات العرقية لمجتمعاتها. وفي تونس الاستقلال، تونس العربية المسلمة المالكية والأشعرية، أي المتجانسة مذهبيا والموحّدة طائفيا، تعامل المشرّع مع مسألة الهوية العربية الإسلامية في مطلع الاستقلال تعاملا ازدواجيا مع تأثّر واضح بإملاءات المستعمر الفرنسي (الاتفاقية الثقافية، ومجمل الاتفاقيات بين تونس وفرنسا الممضاة بباريس في تاريخ 3 جوان 1955)، رغم المقاومة الوازنة لمشائخ الزيتونة وأنصار العربية (جلولي فارس، لامين الشابي، محمد مزالي...الخ).
يُذكِّر الباحث بأنّ محمّد مزالي وزير التربية التونسي أواسط سبعينيات القرن الماضي، لم يُخف نقده الشّديد للنهج الذي اتبعه المسعدي في الإصلاح التربوي الذي جاءت نتائجه "كارثية" بعد سنوات من التطبيق، بعبارة مزالي نفسه. ومما جاء في هذا النقد اللاذع قوله: "وعوضا عن هذه السياسة التعليمية المتوازنة الأصيلة، اندفع المسعدي، بلا هوادة، في عملية "تمدرس" محمومة، لا تخلو من مغالاة. فكان مخطّطه العشري للتعليم الذي وضعه ـ في الحقيقة ـ خبير فرنسي هو السيّد دابياس وجماعة من المتفقدين الفرنسيين".
"..وبدأت الشروخ تظهر في بناء المسعدي إلى الحدّ الذي دعا الرئيس بورقيبة إلى تكوين لجنة وطنية لتقييم "عشرية المسعدي"[الكارثة، كما نعتها مزالي نقلا عن الشعور العام إزاءها في تلك الفترة] وانتقد [بورقيبة] "إصلاحه" في خطاب على العموم". حيث كان "يطرد سنويا بين 80000 و100000 تلميذ من الابتدائي والثانوي". وهو ما أدّى إلى إقالة المسعدي وتسمية أحمد بن صالح مكانه.
بعد عقدين من الزمان من استقلال البلاد تولى وزارة التربية محمّد مزالي فوضع سياسة في تعريب التعليم امتدّت على عشر سنوات، أي إلى حين عزله من الوزارة الأولى بسبب ذهابه بعيدا في سياسته هذه بحسب تقييم الرئيس بورقيبة.
السياسات المالية في الإسلام.. المغرب الإسلامي نموذجا (2من2)
السياسات المالية في الإسلام.. المغرب الإسلامي نموذجا (1من2)
الأوصاف التجسيدية للخالق في اليهودية والمسيحية والإسلام