من المرجّح أن يُطوى ملف اغتيال الباحث العراقي هشام الهاشمي، وسيتم تقييد الجريمة ضد مجهول، رغم الوعود الكثيرة بتقديم الجناة إلى العدالة، والتي أطلقها المسؤولون عشية الجريمة.
نقول ذلك لأن هناك عددا كبيرا من الجرائم المشابهة التي تم تسجيلها ضد مجهول، وإن كانت لأناس أقل شهرة من الهاشمي. أعني تلك الجرائم التي طالت رموز الاحتجاجات التي سبقت جائحة كورونا، والتي كان التخلص من النفوذ الإيراني من أهم شعاراتها، رغم أنها كانت تمثل المناطق الشيعية، وليس "السنيّة" التي حسمت موقفها من إيران سابقا، وإن ركّعتها الآلة الأمنية ومليشيات "الحشد" (بغطاء الطيران الأمريكي!!) بعد أن تم ربطها بتنظيم الدولة، لا سيما حين سيطر التنظيم على كثير منها لبعض الوقت.
المصيبة أن قتلة الهاشمي، وكما مرتكبي الجرائم المشابهة ضد رموز الاحتجاجات، ليسوا مجهولين إلا بالهوية الشخصية (في حالة الهاشمي لم يغطّوا وجوههم!!)، مع أن معرفتها ليس صعبة. أما هوية المجرم الأكبر فهي معروفة.
إنه ذلك الذي يدير (بأوامر خامنئي) مليشيات "الحشد" التي تتمرّد على الدولة، وتمنّ على العراقيين بـ"حمايتهم من داعش"، مع أن الكل يعرف أن العامل الأكبر في سحق التنظيم هو الطيران الأمريكي الذي كان يحرق المناطق التي يسيطر عليها، فيما تتقدم المليشيات إياها دون عناء يُذكر.
نفتح قوسا كي نشير إلى أن هذا البعد طالما كان نقطة إحراج لإيران وأدواتها، فهي ترفع شعارات "الموت لأمريكا وإسرائيل"، وتعتبر عداء أمريكا عامل الدعاية الأهم
الأمر الذي يجعل من لقائها مع الأمريكان ضد تنظيم الدولة نقطة سوداء، يتم إخفاؤها عبر أكاذيب سخيفة ومفضوحة، ولتغدو النتيجة أن عداء أمريكا لا يجعل المسار صحيحا، لأن هناك تقييمات أخرى تدخل في السياق في مشهد إقليمي بالغ التركيب والتعقيد.
وحالة صدام حسين الذي تم استهدافه من أمريكا وناصبته إيران وأدواتها العداء؛ هي مثال صارخ على ذلك.
نعود إلى اغتيال الهاشمي الذي يمثل رسالة بالغة الأهمية لرئيس الوزراء (الكاظمي) الذي قبلته إيران على مضض بعد أن كانت تتهمه بالعمالة لأمريكا. والرسالة تقول إن من يحلم باستهداف الحشد، وهو أداة إيران الأهم في العراق، سيكون مصيره الموت، حتى لو رفع شعار استعادة الدولة، والذي لا يمكن أن يُفهم إلا في سياق جعل السلاح حكرا عليها، وتفكيك "الحشد" تبعا لذلك.
على أن الدلالة الأهم لعملية الاغتيال، هي تلك التي تتجاوز العراق، لتشمل النفوذ الإيراني في كل المنطقة، بل تشمل الداخل في إيران أيضا، والذي يعاني من بؤس اقتصادي غير مسبوق؛ بسبب العقوبات من جهة، وبسبب استمرار مغامرات الخارج المكلفة من جهة أخرى.
الدلالة التي نتحدث عنها هي أن إيران لم تعد تملك في الدول التي تعتبرها مناطق نفوذ لها سوى المليشيات والسلاح، أما الحاضنة الشعبية، فقد انتهت إلى أقلية صغيرة.
من احتجوا ضدها في العراق كانوا من الشيعة، وليس لها هناك سوى المليشيات وسلاحها. وفي اليمن ليس لديها سوى الكتلة الحوثية الصغيرة وسلاحها، بينما الغالبية ضدها، ومن ضمن ذلك نسبة كبيرة من "الزيدية". ولولا خطايا "التحالف"، لكان الوضع أسوأ بكثير. وفي لبنان، ليس لها سوى حزب الله وسلاحه، مع فارق أن أكثرية الكتلة الشيعية معها، وغالبية الشعب الباقية ضدها.
أما في سوريا، فليس لديها سوى مليشياتها، بجانب جزء من الطائفة العلوية التي يفضل الجزء الأكبر منها روسيا التي كانت عامل الإنقاذ الأكبر برأيها؛ ولأنها في الأصل طائفية بمفهوم العصبية القبلية أكثر من المذهبية الدينية. ولك أن تضيف هنا الداخل الإيراني الذي تصطف غالبيته الشعبية ضد المحافظين، فيما يتم تركيعه بسطوة السلاح والقوة العسكرية و"الباسيج".
هكذا يكون حال قيادة إيران بعكس "الحسين الشهيد"، الذي يُروى أنه سأل الفرزدق عن حال أهل الكوفة حين لقيه وهو متوجّه إليها، فرد عليه الشاعر بالقول" "قلوبهم معك وسيوفهم عليك"، أو "سيوفهم مع بني أمية".
قيادة إيران اليوم تملك السيوف، لكن القلوب ضدها. لا أعني قلوب الغالبية السنية وحسب، بل أجزاء مهمة من الكتلة الشيعية أيضا، تماما كما أن الغالبية السنية تقف ضد محور "الثورة المضادة"، المحسوب على السنّة والمعادي لإيران (أصبح عداء تركيا عنده أكثر أهمية راهنا كما قلنا مرارا).
واللافت أن هذا المحور قد التقى مع إيران على حرب ربيع العرب، وأشواق شعوبنا في الحرية والتحرر، وحيثما مدّا أذرعهما، فليس ثمة غير الموت والدمار والتهجير والمعاناة، مع فارق أن "الثورة المضادة" تغازل الكيان الصهيوني، بينما تعاديها إيران، وإن فعلت ذلك كجزء من الدعاية لمشروع التمدد المذهبي.