يقول العرب: "لم ينبس ببنت شفة" إذا لم يصدر عنه رد، ولو بتحريك شفتيه! ويقولون في بلادي
مصر: "م قالش بِمْ".. ويقولون: "لو كان الحجر نطق يبقى فلان نطق"! هذا ما كان من أمر المواطن المصري وليد صلاح الذي يعمل "كاشيرا" بجمعية "صباح الأحمد التعاونية" بالكويت، حين
صفعه مواطن كويتي (لا نعرف اسمه) ثلاث مرات دون رد، أو بالأحرى دون "بِمْ" واحدة من جانب وليد! ولو كان الحجر نطق، يبقى وليد نطق!
منظر هزني من الأعماق! ليس لأن المعتدَى عليه مصري، والمعتدِي كويتي! فهذه شعوبية لا أفهمها، ولا أومن بها، ولكنه انتصار لمظلوم! فكاميرا المراقبة سجلت كل شيء، ولا يوجد مجالٌ البتة لتبرير فعل المعتدِي، أو التماس الأعذار له! حتى زوجته لم تجد له عذرا فنهرته، ودفعته بقوة، بعد أن كرر فعلته الشنيعة مرتين!
وقد تصرف مدير فرع الجمعية ناصر ذعار العصيمي، بكل مسؤولية وشجاعة، حين قدم استقالته لعدم قدرته على ردّ حق "الوافد"، حسب تعبيره! بل ودعا موظفيه إلى تقديم استقالاتهم، احتجاجا على إهانة زميلهم! كما أدانت الناشطة
الكويتية شيخة الجاسم وآخرون هذا السلوك البدائي، ما يعني أن هذا السلوك الهمجي ليس "كويتيا"، كما يحلو لنافخي الكير أن يصفوه؛ لتأجيج مشاعر الكراهية بين الشعبين الشقيقين!
وكالعادة، اهتزت جنبات العالم الأزرق، وتزاحمت في فضائه التغريدات والمنشورات المنددة بفعل المعتدِي أحيانا، وبجلد المعتدَى عليه أحيانا أخرى؛
لفرط "سلبيته" التي جعلت كل ذي نخوة وكرامة يشعر بأن هذه الكفوف الثلاثة هوت على وجهه شخصيا، وأنا منهم! فالشاب وليد لم يفكر (حتى مجرد تفكير) في إبعاد وجهه عن يد المعتدِي؛ ليتفادى الكفين الثاني والثالث على الأقل، وكأنه تجمد في مكانه، واستحال تمثالا من شمع!
وكان مما طالعته على "فيسبوك"، منشور مُذيل بوسم "كلام صاحب الواقعة"، وقد حاولت الوصول إلى كاتب المنشور، فلم أفلح؛ لأن العشرات، وربما المئات أو الألوف من رواد تطبيق الفيس نسخوه نسخا، دون الإشارة لصاحبه، أو حتى التنويه إلى أنه "منقول" كما يجب! فبدا كل مَن نسخ المنشور كما لو كان كاتبه! بل إن كثيرا من هؤلاء لم يكلفوا أنفسهم عناء الرد على عبارات الثناء التي انهالت عليهم في التعليقات بجملة من ثلاث كلمات: "هذا منشور منقول"! وهذه مصيبة أخرى، تستحق مقالا مستقلا..
برر كاتب هذا المنشور استسلام وليد، أو استقبالة للكفوف الثلاثة بلا "بِمْ" واحدة فقال:
"كلكم بتلوموني وبتشتموني؛ عشان قبلت على كرامتي إن الكويتي يضربني، ووقفت ساكت إيدي في جنبي بعد كل قلم، مستني القلم اللي بعده!
لعلمكم! أنا م قبلتش إنه يضربني.. أنا محستش أصلا بالضرب ده! أصل انتوا متعرفوش حاجة.. متعرفوش إن أنا وقتها كنت بفكر في ايه؟ في الحلم اللي ضاع.. في السجن اللي مستنيني لو رجعت مصر.. في حسرة أمي، وصدمة أبويا.. في كسرة اخواتي!
محدش يكلمني عن الكرامة!
أنا خلصت تعليم، ومكنتش لاقي أي شغل، وأنا واحد فقير، الفقر بينهش فينا نهش الكلاب! لا عارف أشتري قميص، ولا عارف أشتري جزمة! مش لاقي أي شغل، ولما لقيت شغل، يادوب يكفي مصاريفي.. جَت (جاءت) كورونا، والراجل طردني عشان يخفف العمالة..
فجأة! واحد يعرض عليك تسافر الكويت.. عارفين المطلوب كام؟ 50 ألف جنيه! عارفين معايا منهم كام؟ ولا مليم! حلم كبير هينقلني أنا وأبويا وأمي واخواتي من الفقر.. هريّح أبويا وأمي.. هجهّز اخواتي البنات.. هشتري اللي نفسي فيه.. عارفين جبت الفلوس ازاي؟! معرفتش أجيبها طبعا! هو اللي زيي مين هيسلفه 50 ألف جنيه؟! أنا كتبت بيهم 10 إيصالات أمانة، وفوقهم واحد على بياض!
محدش يكلمني عن الكرامة!
عارفين يعنى إيه بدل ما أرجع بشنطة هدايا، أرجع بديون وهَم تقيل، لناس محليتهومش حاجة يبيعوها؟! أنا محستش بأى ضرب! أنا كنت متبنج ببنح الفقر، وخراب البيت! ضربني الراجل! هو جبان وأنا أجير.. هو قادر وأنا ضعيف.. هو في بلده وأنا غريب.. هو صاحب البيت وأنا عنده ضيف!
لا.. بس هو مضربنيش! اللي كان بيضربني الفقر والعوز.. اللي كان بيضربني الراجل اللي طردني من الشغل في مصر.. اللي كان بيضربني إيصالات الأمانة.. اللى كان بيضربني الظلم والقهر.. اللى كان بيضربني فساد بلدي والكوسة والمحسوبية.. أنا محدش ضربني! أنا جاي مضروب جاهز".. (انتهى المنشور)!
وسواء اتقفنا أو اختلفنا مع هذا الوصف لحال الشاب وليد (صاحب الواقعة)، إلا أنه (في كل الأحوال) يجسد الحالة المزرية التي وصل إليها المواطن المصري،
في ظل انقلاب عسكري دموي، أطاح بأول رئيس منتخب في تاريخ البلاد، وأطاح معه بحلم الشعب المصري (الذي لم يجد من يرفق به، أو يحنو عليه، حسب تعبير بيان الانقلاب) في العيش الكريم، والحرية، والعدالة الاجتماعية..
لقد ظل مشهد "القصاص" من المعتدِي مسيطرا على مخيلتي، وأنا أشاهد واقعة الاعتداء على وليد! فلا أتصور أن الغرامة المالية كافية لردع هذا المعتدي الأرعن عن تكرار فعلته، بل ولن تردعه عقوبة السجن، في بلد غارق (حتى أذنية) في العصبية والقبلية والمجاملات، يستطيع السجين فيه (ببعض النفوذ) أن يقضي مدة "العقوبة" دون أن يشعر بسلب حريته، وإنما الذي يردعه حقا، هو القصاص! ثلاثة كفوف بلا "بِمْ" واحدة، على مرأى من الناس، وفي المكان نفسه! وأتحدى أن يقول لي أحد: أن هذه العقوبة غير رادعة!
twitter.com/AAAzizMisr