كان الاتفاق النووي يعيش وضعية شبه انهيار، على مدى أكثر من عامين، إثر الانسحاب الأمريكي منه، يوم الثامن من أيار/ مايو 2018، وما تبعته من تطورات مستمرة جمة، أهمها، إعادة فرض العقوبات على إيران على أوسع نطاق، ورد الأخيرة على ذلك بوقف جميع "القيود العملياتية" المفروضة على برنامجها النووي بموجب الاتفاق نفسه، إلا أن هذه الوضعية لم ترض الإدارة الأمريكية، لكونها لم تحقق لها أهداف استراتيجية "الضغوط القصوى" التي تمارسها على إيران منذ أكثر من عامين، والمتمثلة في إجبارها على الجلوس على طاولة التفاوض للوصول إلى اتفاق شامل، يطاول جميع الملفات المثارة معها بالشروط الأمريكية الـ12.
وعليه، أرادت إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، خلال الفترة الأخيرة، سحب جهاز الأوكسجين عن المريض المقبل على الموت (الاتفاق النووي) في غرفة العناية المركزة، من خلال اتخاذ خطوات ستقضي في نهاية المطاف على الاتفاق وتدخله في مرحلة الانهيار التام.
وفي السياق، حاولت واشنطن، في خلال الأسابيع الأخيرة، تمرير قرار بمجلس الأمن لتمديد الحظر التسليحي على إيران، ينقض القرار الـ2231، المتمم للاتفاق النووي، الداعي إلى إنهاء هذا الحظر اعتبارا من الثامن عشر من تشرين الأول/ أكتوبر المقبل، لكن خطوتها هذه لم تتكل بالنجاح، إثر تجنب 13 دولة في مجلس الأمن، بما فيها جميع الشركاء المتبقين في الاتفاق النووي من الأوروبيين والصين وروسيا، التصويت لصالح قرارها، ما عدى جمهورية دومينيكان.
خطوة أمريكية محسوبة
لكن يبدو أن هذه الخطوة الامريكية كانت محسوبة بعناية، حيث أن واشنطن على الرغم من علمها المسبق بأن قرارها لن يُمرر، وأن تداعيات تترتب على ذلك، تمس سمعة أميركا وموقعها على الساحة الدولية، لكنها طرحتها للتصويت، وذلك لاستغلال هذا الإخفاق وجعله ذريعة لانطلاقة نحو الانتقال إلى بلان بي، أي القضاء نهائيا على الاتفاق النووي، وذلك من خلال تقديم طلب إلى مجلس الأمن الدولي، الخميس الماضي، لتفعيل آلية "فض النزاع" المنصوص عليها في الاتفاق النووي لحل الخلافات بين طرفي الاتفاق على مجلس الأمن، في خطوة وصفها حلفاؤها الأوروبيين قبل الصين وروسيا، بأنها غير قانونية بسبب الانسحاب الأمريكي من الاتفاق النووي، لكن واشنطن التي تتعامل مع الملف بمنطق القوة وليس قوة المنطق، تقدم تفسيرها الخاص لنصوص القرار الـ2231 والاتفاق النووي، محاولة استغلال ثغرات فيها، إذ تقول إن ما ورد بشأن تفعيل الآلية في الاتفاق ينص على أنه يحق لأي من الأطراف "المشاركة" فيه اللجوء إليه لحل الخلافات، وأنها دولة مشاركة فيه، رغم انسحابها منه، بينما شركاء الاتفاق من الترويكا الأوروبية (فرنسا وألمانيا وبريطانيا) والصين وروسيا، يؤكدون أن مدلول البند المتعلق بالآلية، يؤكد أن الطرف الذي يريد استخدامه، عليه أن يكون عضوا فيه. فضلا عن ذلك، تلجأ الإدارة الأمريكية، إلى تبريرات أخرى لدعم موقفها، لا حاجة لتناولها في هذا المقام، لكن من الطريف أن الولايات المتحدة المنسحبة من الاتفاق النووي والناقضة له بفعل هذا الخروج، عزت طلبها تفعيل الآلية إلى انتهاك إيران لهذا الاتفاق، لكن لا غرابة في هذه التصرفات في عالم يحكمه منطق القوة والقوي يملي فيه قراءته لمجريات الأحداث والقوانين.
لابد من التأكيد أن عودة العقوبات الأممية عمليا لا تضيف شيئا إلى العقوبات الأمريكية، لجهة تأثيرها على اقتصاد إيران، إذ أن واشنطن فرضت تطبيقها على المجتمع الدولي بشكل ليس سهلا حتى على دول مثل الصين وروسيا تجاوزها
عموما، أمام مجلس الأمن 30 يوما ليتخذ قرارا بشأن مواصلة تعليق العقوبات الأممية على إيران، أو إعادة فرضها، وبعد هذه المهلة بحسب البندين 36 و37 بالاتفاق النووي، يتم طرح مشروع قرار، لكن صياغته وعنوانه "استمرار رفع العقوبات عن إيران"، كما ينص عليه البندان، تكون بطريقة تجعل استخدام حق النقض ضده من قبل الدول المعارضة لصالح القرار. رغم إعلان بقية أعضاء مجلس الأمن ما عدا دومينيكان معارضتهم للتوجه الأمريكي، لكن وفق خبراء القانون الدولي، لا يمكن عمليا التصدي لذلك، إلا اذا قدمت الدول المعارضة مثل الصين وروسيا، مشروعا منفصلا لمجلس الأمن، ينص على أن أمريكا لا يمكنها اتهام إيران بنقض الاتفاق النووي، لكونها لم تعد عضوا بالاتفاق. ووفق هذا الرأي، يمكن أن يمنع أصحاب المشروع واشنطن من استخدام حق النقض ضد المشروع، باعتبار أن الموضوع الخاضع للتصويت لا يشمله ذلك. وفي المقابل، يرى خبراء آخرون أن واشنطن بإمكانها أن ترفض هذا التفسير وتستخدم حق "النقض المزدوج" (Double Veto).
إلى ذلك، لا شك أن لجوء واشنطن إلى تفعيل آلية فض النزاع في ظل الإشكالية القانونية التي أثارها انسحابها من الاتفاق النووي، وسعيها إلى فرض ذلك بتفسيراتها الخاصة، تنقضها تفسيرات قانونية أخرى لبقية أعضاء مجلس الأمن الدولي، يضع الأمم المتحدة أمام مأزق قانوني غير مسبوق، ليتجاوز تداعيات تفعيل الآلية إلى ما هو الأبعد بشأن مستقبل الاتفاق النووي وتبعاته، حيث يضع هذا الأمر علامات استفهام كبيرة أمام مستقبل مجلس الأمن ومكانته كأهم مؤسسات الأمم المتحدة، فضلا عن أنه يطيح بالمسارات المتبعة في المجلس منذ نشوئه.
عقوبات هدفها عزل إيران
أما بعيدا عن هذه التعقيدات والتناقضات القانونية، وتأثيراتها على مصداقة مجلس الأمن الدولي، وعما إذا نجحت الصين وروسيا والترويكا الأوروبية في التوصل إلى حلول وسط تمنع الوصول إلى هذه المرحلة، سواء من خلال ما طرحه الرئيس الروسي فيلاديمير بوتين بشأن عقد قمة أعضاء مجلس الأمن مع إيران، في محاولة لإجلاس الرئيسين الأمريكي والإيراني على طاولة حوار واحدة، أو عبر غير ذلك من مشاريع قد تتبلور خلال مهلة الشهر الواحد قبل تفعيل آلية "فض النزاع".
وأخيرا، لابد من التأكيد أن عودة العقوبات الأممية عمليا لا تضيف شيئا إلى العقوبات الأمريكية، لجهة تأثيرها على اقتصاد إيران، إذ أن واشنطن فرضت تطبيقها على المجتمع الدولي بشكل ليس سهلا حتى على دول مثل الصين وروسيا تجاوزها، وهذا ما تعلمه الإدارة الأمريكية، لذلك، فإن الهدف من إعادة فرض العقوبات الأممية، أن تضع الأمم المتحدة في مواجهة إيران، لكي لا يقتصر الأمر بينها وبين طهران، فضلا عن أن ثمة أهداف أخرى، أكثر أهمية، تقف وراء الحراك الأمريكي، منها وضع إيران مجددا تحت الفصل السابع، للحصول على "مسوغات قانونية" في حال اتخذ الصراع مع إيران بعدا عسكريا خلال المرحلة المقبلة، أو بغية ممارسة المزيد من الضغوط السياسية والنفسية عليها من خلال إدراجها تحت هذا الفصل.
الخطوط الحُمر لواشنطن وبكين في السعودية وتايوان
عن استقالة المبعوث الأمريكي لإيران