نجحت السلطات
المصرية في تحويل دفة الحوار العام بين
المصريين، من الحديث عن استمرار حالة الركود في الأسواق، والتي زادت حدتها نتيجة
تداعيات فيروس كورونا وزادت من معدلات البطالة بشهادة الجهاز الحكومي المعني بالإحصاء،
ومن الحديث عن منع القطارات القادمة من محافظات الجنوب (صعيد مصر) مستقبلا من
الوصول إلى ميدان رمسيس وسط القاهرة، مثلما تعودوا منذ عشرات السنين، وتخصيص محطة
لهم بمنطقة بشتيل بمحافظة الجيزة.. بل ومن الحديث حول توقعات الموجة الثانية
لفيروس كورونا، ومباريات الدورى العام وانتقالات اللاعبين بين الأندية، والخلافات
بين إدارة نادي الزمالك والنادي الأهلي، صاحبي أكبر شعبية كروية، ليصبح الحديث
الأهم حاليا هو فرض
غرامات على الأشخاص الذين لم يشاركوا في
في انتخابات مجلس
الشيوخ الأخيرة، نظرا لبلوغ عدد المهددين بدفع
الغرامة المالية البالغة 500 جنيه
للفرد نحو 54 مليون شخص، أي أكثر من نصف سكان البلاد.
وهو أسلوب تتبعه النظم الشمولية عادة باصطناع قضية
لشغل الرأي العام عن قضايا أخرى تكشف قصور أدائها.
ورغم ورود غرامة التخلف عن التصويت بالانتخابات
بقانون مباشرة الحقوق السياسية رقم 73 لسنة 1956 بالمادة 40 منه، والذي لحقته عدة
تعديلات خلال السنوات التالية حتى أصبحت قيمة الغرامة 100 جنيه، إلا أن التهديد
بالغرامة ظل يتم استخدامه لتحفيز المواطنين خاصة البسطاء منهم، على المشاركة بالانتخابات،
لكنه لم يتم تنفيذ ذلك التهديد مع المتخلفين عن التصويت.
حتى جاء قانون تنظيم
الانتخابات الرئاسية 22 لسنة
2014، الصادر في الثامن من آذار/ مارس، بالنص في المادة 43 منه على أن يعاقب
بالغرامة التي لا تجاوز 500 جنيه، من كان اسمه مقيدا بقاعدة بيانات الناخبين،
وتخلف بغير عذر عن الإدلاء بصوته في انتخاب رئيس الجمهورية.
غرامة للتخلف بأية انتخابات
لكن قانون تنظيم مباشرة الحقوق السياسية رقم 45 لسنة
2014 الذي صدر في الخامس من حزيران/ يونيو، قد نص في المادة 57 منه على أن "يعاقب
بغرامة لا تجاوز خمسائة جنيه من كان اسمه مقيدا بقاعدة بيانات الناخبين، وتخلف
بغير عذر عن الإدلاء بصوته في الانتخاب أو الاستفتاء".
وهكذا أصبح تطبيق الغرامة على التخلف عن التصويت بكل
الانتخابات والاستفتاءات وليس الانتخابات الرئاسية فقط. ورغم تلويح الهيئة الوطنية
للانتخابات في آذار/ مارس 2018 بتوقيع الغرامة على المتخلفين عن الإدلاء بأصواتهم
في الانتخابات الرئاسية حينذاك بغير عذر، تطبيقا للمادة 43 من قانون الانتخابات الرئاسية،
لكنه لم يتم التنفيذ العملي لتلك الغرامات.
إلا أن المشهد هذه المرة مختلف، حيث قرر مجلس إدارة
الهيئة الوطنية للانتخابات في السادس والعشرين من آب/ أغسطس، إحالة جميع الناخبين
الذين تخلفوا عن التصويت في الجولة الأولى من انتخابات
مجلس الشيوخ إلى النيابة
العامة لاتخاذ اللازم، وأعلنت عن إعدادها كشوفا بالمتخلفين وبحثها آليات تطبيق تلك
الغرامة، بعد بلوغ نسبة المشاركة 14.2 في المئة، بحضور حوالي تسعة ملايين ناخب، من
إجمالي عدد الناخبين المقيدين بجداول الانتخابات البالغ حوالي 63 مليون شخص.
ويرى كثير من المصريين أن العدد المذكور رسميا للحضور
يتنافى مع مشهد العزوف العام عن المشاركة في انتخابات لمجلس منزوع الصلاحيات، وبعد
إحباطهم من
أداء البرلمان الحالي المعني بالتشريع والرقابة، والذي لم يمارس الدور
الرقابي، واكتفى بتلقي القوانين من الحكومة غالبا. وحتى في الحالات النادرة للاعتراض
على بعض المواد في النصوص الحكومية للقوانين، داخل لجان البرلمان، كان التصويت
بالجلسات العامة للبرلمان لصالح النصوص الواردة للحكومة كما هي بلا أي تعديل.
تحفظ على نسبة المشاركة المعلنة
ومن هنا، فإن هؤلاء يتحفظون على نسبة المشاركة المعلنة
من الجهات الرسمية، خاصة وأن نسبة المشاركة في انتخابات مجلس الشورى عام 2012، والذي
كانت له صلاحيات أعلى من مجلس الشيوخ، وتمت في ظل أجواء تنافس حزبى حرة، كانت 12.5
في المئة.
وها هي نتائج الجولة الأولى من انتخابات مجلس الشيوخ
تؤكد رؤية الممتنعين عن الذهاب لانتخاباته، حيث فازت القوائم الأربع التي تمت من
خلال الأحزاب المؤيدة للنظام الحاكم، والتي خُصص لها 100 مقعد تمثل ثلث مقاعد
المجلس، والتي لم تكن أمامها قوائم منافسة في أي من الدوائر الأربع التي شملت كل
المحافظات، بما يشبه التعيين المقنّع.
أما الانتخابات الفردية والتي خصص لها 100 مقعد تمثل
ثلث مقاعد المجلس، فقد فاز بغالبية مقاعدها حزب مستقبل وطن، الذي تم تأسيسه ورعايته
من قبل الأجهزة السيادية في مرحلة ما بعد تموز/ يوليو 2013، بالإضافة إلى 100 مقعد
يتم تعيين أصحابها من قبل رئيس الجمهورية، ليصبح مجلسا حكوميا بامتياز.
ويتعلل أنصار النظام الحاكم بأن الغرامة للمتخلفين
عن التصويت موجودة في دول أخرى وليست بدعة مصرية. وبالفعل هناك 23 دولة تفرض
عقوبات على المتخلفين عن التصويت، لكن قياس 23 دولة إلى إجمالي أكثر من 194 دولة في
العالم يعني أن غالبية دول العالم تخلت من تلك العقوبات.
وحتى الدول التي فيها عقوبات تضع ضوابط لذلك. فبعضها
مثل بيرو والأرجنتين يوقف العقوبات للأشخاص فوق سن السبعين، وبعضها توقفها بالنسبة
للأميين، مثل الإكوادور، ولوكسمبرج تطبق العقوبات في الانتخابات الإقليمية فقط،
إلى جانب أن عشر دول منها لا تطبق تلك العقوبات، ومنها بلجيكا وبوليفيا وكوستاريكا
والدومينكان ولبنان وليبيا والمكسيك وبارجواى وتايلاند وتركيا.
ضمان مشاركة أكبر بانتخابات البرلمان
ويظل السؤال المطروح: لماذا لوحت الهيئة الوطنية للانتخابات،
بتوقع غرامة
على المتخلفين عن المشاركة بانتخابات مجلس الشيوخ؟ هل تأمل الحكومة في
تحقيق حصيلة يمكن أن تصل في حالة التحصيل الجماعي إلى 27 مليار جنيه، يساهم أى قدر
منها، مع استبعاد من يتم قبول أعذار تغيبهم، في استيعاب جانب من تكاليف مواجهة
تداعيات فيروس كورونا أو عجز الموازنة الضخم؟
أم هل تجهز السلطات لاستفتاء معين ترغب في حضور شعبي
كبير به؟ وهو ما
ألمح إليه السيسي في حديثه الأخير في الاسكندرية، عند الحديث عن
مخالفات البناء في القرى والاستعانة بالجيش لمنعها، وربط ذلك باستمراره في الحكم.
لكن الظن الغالب حاليا للتلويح بالغرامة هو تحفيز
القطاعات الشعبية على المشاركة في انتخابات البرلمان القادمة، التي تردد من مصادر
غير رسمية أنها ستتم في الخامس والعشرين من تشرين الأول/ أكتوبر القادم، وسيتم فتح
باب الترشيح لها في العشرين من أيلول/ سبتمبر القادم.
ففي مجتمع بلغت نسبة الفقر الرسمية فيه 32.5 في
المئة من السكان عام 2018، وهي النسبة التي زادت عن ذلك نتجة الركود في الأسواق
وتداعيات فيروس كورونا، من الطبيعي أن يتحرك كثير من هؤلاء الفقراء للمشاركة في أية
انتخابات، سواء اقتنعوا بها أم لم يقتنعوا، لتفادي غرامة التخلف عن الانتخابات، خاصة
مع بلوغ نسبة الأمية (15 سنة فأكثر) عام 2017 نحو 29 في المئة، وترتفع النسبة بين النساء
لأكثر من ذلك. كما سيسعى كثير من أصحاب المعاشات التي يتم صرفها من هيئة التأمينات
الاجتماعية، البالغ عددهم 10.3 مليون شخص، للإفلات من تلك الغرامة مستقبلا، ونفس
الأمر لأصحاب المعاشات التي يتم صرفها من قبل وزارة التضامن، والبالغ عددهم 3.6
مليون شخص.
فقيمة الغرامة البالغة 500 جنيه عن التخلف عن كل استحقاق
انتخابي، أكبر من قيمة المعاش الشهري لأصحاب معاش كرامة، المخصص للمعاقين غير القادرين
على العمل، والبالغ شهريا 450 جنيها، كما تزيد قيمة الغرامة عن معاش تكافل البالغ
325 جنيها للفرد شهريا، وتزيد عن الحد الأقصى لمعاش الضمان الاجتماعي للأسرة المكونة
من أربعة أشخاص فأكثر، والبالغ 450 جنيها شهريا.
كما تماثل الغرامة قيمة المنحة التي قررتها وزارة
القوى العاملة للعمالة غير المنتظمة لثلاث مرات خلال أزمة كورونا.
ولهذا نتوقع استمرار السلطات في التهديد بفرض تلك الغرامة
(في حالة عدم تنفيذها لصعوبات إدارية) حتى تتم انتخابات البرلمان القادم، حتى تضمن
قدرا من المشاركة الإجبارية من قبل الفقراء وأصحاب المعاشات والعمالة غير المنتظمة،
البالغ عددها حوالي 14 مليون شخص، لتستند إليه في مزاعمها بوجود قبول شعبي لذلك
البرلمان، حيث أنها تدرك وعي الجمهور بأنه سيستمر اختيار أعضاء البرلمان القادم من
قبل الأجهزة السيادية، كما حدث مع البرلمان الحالي المستمر حتى كانون الثاني/
يناير القادم.
وسيتسمر أداء البرلمان الجديد منفذا لما تطلبه منه
الحكومة، دون تفعيل لدوره الرقابي والتشريعي. ولهذا، لا بد من استمرار أجواء التهديد
بالغرامة لضمان مشاركة أكبر عدد من البسطاء، خشية دفع الغرامة وليس اقتناعا بجدوى
التصويت والمشاركة في العملية الانتخابية.
twitter.com/mamdouh_alwaly