كانت معركة بلعا التي وقعت في الثالث من أيلول / سبتمبر 1936، من المعارك المنظمة في ثورة فلسطين الكبرى (1936 ـ 1936) ومن أكبر معارك ثورة فلسطين. وكان طرفاها، المقاتلون العرب بقيادة القائد العربي فوزي القاوقجي، والجيش البريطاني في فلسطين.
نموذج للعمل الشعبي المنظم
وكثيرا ما يعتبر المؤرخون العرب هذه المعركة نموذجا للعمل العسكري الشعبي المنظم، حيث هاجم مسلحون عرب قافلة صهيونية كانت ترافقها قوة بريطانية لحمياتها، وحدثت المعركة على الطريق من حيفا إلى تل أبيب قرب قرية بلعا، التي تبعد نحو 7 كيلومترات عن مدينة طولكرم.
وفي تفاصيل العملية فقد بلغ عدد الثوار الذين اشتركوا في المعركة نحو 50 متطوعا، قدموا من أنحاء فلسطين وبلاد الشام والعراق، مسلحين بالبنادق والرشاشات الخفيفة وبعض الألغام.
وعلى ضوء هذه الاستعدادات العربية صدرت أوامر للجيش البريطاني بحماية القافلة الصهيونية، فخرجت لهذه الغاية 20 سيارة عسكرية بريطانية مصحوبة بالدبابات ومحملة بالجند، وطلب منها أن ترابط على الطريق بين طولكرم ونابلس للحفاظ على القافلة الصهيونية، التي كانت تمر يوميا وتتعرض لعلميات مسلحة مباغتة من الثوار العرب.
قام الثوار بتثبيت الألغام في طريق الوحدة العسكرية البريطانية، وحين هرب الجنود مفزوعين من الانفجار، أطلق الثوار رصاصهم عليهم وابتدأت معركة كبرى، وكان الثوار يرابطون على جبلين متقابلين، وكان الجنود يحتمون بالسيارات وحواجز الأشجار وخلف الدبابات.
ووصلت في أثناء المعركة قوة عسكرية من نابلس، وأصبح عدد الجنود يقارب 5 آلاف جندي، واشتركت 15 طائرة في المعركة، واستعمل الجيش البريطاني مدافع الميدان، وتوافد القرويون يساعدون المجاهدين، وأُسقطت فيها طائرتان بريطانيتان، وأُحرقت اثنتان واستشهد نحو 16 من المجاهدين، كان من بينهم عدد من مقاتلي العراق والشام، وبحسب بعض المصادر الفلسطينية، فقد أسفرت هذه المعركة عن قتل 80 ضابطا وجنديا بريطانيا، وإسقاط ثلاث طائرات وتعطيل طائرة رابعة.
بعد نهاية هذه المعركة قررت الحكومة البريطانية اتخاذ إجراءات أكثر صرامة وشدة في التعامل مع رجال المقاومة من أجل إعادة النظام، ومنها إعلان حالة الطوارئ وتعيين الجنرال جون ديل قائدا عاما للقوات البريطانية في فلسطين وشرق الأردن، وأرسلت إلى فلسطين تعزيزات كثيرة من الجنود والمعدات.
أكبر معركة في تاريخ ثورة فلسطين
وقد عنونت صحيفة فلسطين في تناولها للخبر بالعنوان التالي: "أكبر معركة في تاريخ ثورة فلسطين الحالية، عدد كبير من الثوار يقوده فوزي بك القاوقجي القائد العسكري السوري المعروف".
وكتب مندوب الصحيفة يصف ما جرى بأسلوبه الخاص التالي: "ما بزغت شمس هذا النهار حتى كانت الجبال تعج بالثوار الذين ألفوا جبهة حربية تمتد من نور شمس حتى شرق رامين، وقد لوحظ أن الثوار كانوا منظمين تنظيما عسكريا، إذ كانوا منقسمين إلى فرق هجوم وفرق دفاع ومرابطين في استحكاماتهم، ومعهم الأسلحة النارية والمدافع الرشاشة والبنادق السريعة الطلقات، وكان يقودهم البطل السوري المعروف القائد فوزي بك القاوقجي".
وأضاف: "ولما علمت السلطة بنبأ تجمع الثائرين، أرسلت إليهم قوة كبيرة من الجند مصحوبة بالدبابات والمدافع الثقيلة والرشاشات، وعند وصولها إلى مكانهم انصبت على الجند النيران كالمطر، واشتبك الفريقان في معركة هائلة جدا، تبادلت فيها إطلاق العيارات النارية بكثرة، ودوت فيها القنابل، وكانت الطائرات تلقي قنابلها على الثوار بشدة، فكنا نشاهد الدخان يتصاعد من الجبال إلى السماء ونسمع دوي القنابل وأزيز الرصاص من هنا، حتى حطمت قنابل المدافع أشجار الزيتون، وهشمت الصخور الكبيرة في الجبال، وقد اشتركت في القتال 15 طيارة ألقت على الثائرين القنابل بدون حساب، وكانت تأتي طورا إلى المدينة وتهبط في المطار لأخذ الذخيرة أو إصلاح ما طرأ عليها من عطب، أو تأتي لإعطاء الإشارات المختلفة للجند المرابط هنا".
ويتابع: "وكانت السيارات تروح وتغدو إلى مكان المعركة مليئة بالجند المسلح، كما كانت سيارات الإسعاف تذهب وتعود حاملة المصابين، وقد شاهد الأهالي الذين هرعوا إلى خارج البلدة وراقبوا حركة القتال من مكان شاهق أربع طائرات، سقطت إحداها في مكان المعركة واحترقت، وسقطت الثانية في جوار عنبتا واحترقت أيضا، وسقطت الثالثة في راس عامر، والرابعة في المطار، ويعزى سقوطها ـ كما قيل ـ إلى البنادق السريعة الطلقات التي استعملها الثوار ضدها، وقد نقلت طائرتان إلى مطار الرملة بعد تفكيكهما."
وفي البلاغ الرسمي الذي أصدرته حكومة الانتداب البريطاني قالت: "بينما كانت مفرزة من فرقة لنكولن شاير تأخذ مراكزها على طريق طولكرم ـ نابلس في ساعة مبكرة من صباح هذا اليوم، أطلقت عليها النار بكثرة من الجبال من قبل عصابة مسلحة من العرب يقدر عدد أفرادها بين 40 ـ 50 رجلا، وقد تمكن الجنود بمساعدة الطائرات من إخراج المعتدين من مراكزهم ودحرهم إلى جهة بلعا، وفي الوقت ذاته وصلت إلى موقع الحادث مفرزات من فرقة رويال "سكوتش" فيوزيليرز من نابلس، كانت قد تعطلت عن السير من جراء سدود مقامة على الطريق بالقرب من رامين، وأخذت الطائرات التي لحقت بالعصابة وهي مندحرة إلى ما وراء قرية بلعا تعمل عملها من الجو، وبعد ذلك تعقبت هذه المفرزات والطائرات العصابة من الجهة الشمالية الغربية من بلعا وفرقتها.
ويأسف المندوب أن يعلن أن ضابط الطيران (هنتر) والطيار (لنكولن) قتلا عندما اضطرت طائرتهما إلى الهبوط من الجهة الغربية الجنوبية من بلعا في الأدوار الأولى من العمليات، ويأسف المندوب السامي أن يعلن أيضا وفاة الأمباشي (ويلكس) من فرقة (لنكولن شاير)، متأثرا بجراحه، وقد جُرح ضابطان آخران وجنديان، وكانت جراح أحد الضابطين خطرة، والمعروف أنه قد قتل عشرة أشخاص من العرب، والمعتقد أن ست إصابات أخرى قد وقعت من جراء أعمال الطائرات، وعند نهاية العمليات العسكرية هدمت ستة بيوت في قرية بلعا، أطلقت منها العيارات النارية على الجنود".
مشهد قومي وحدوي
ويقول شيخ المجاهدين الراحل بهجت أبو غربية في مذكراته التي نشرها قبل رحيله: "كان منظر الشبان العرب العراقيين والسوريين والأردنيين يبعث الأمل والثقة بالمستقبل. رأيت فيهم الرباط القومي الوحدوي مجسما، كما أن منظرهم المميز يثير الإعجاب؛ فالعراقيون مسلحون برشاشات شاهدتها لأول مرة مع الثوار، وكان لها الفضل في إسقاط عدد من طائرات الجيش البريطاني في معركة بلعا الثانية. ورجال حي الميدان وجبل العرب معظمهم خيالة، وألبستهم وسلاحهم وذخيرتهم وشواربهم تثير الإعجاب".
يضيف أبو غربية: "أما فوزي القاوقجي فقد كان مهيبا في ثيابه العسكرية، وفيما يبدو عليه من رجولة وثقة بالنفس. لقد لمست بنفسي دور الفلاح الفلسطيني في الثورة؛ حيث كان معظم المقاتلين (الثوار) الفلسطينيين من أهالي القرى. ورأيت كيف كان سكان القرى يوفرون الإيواء والطعام والماء والاستطلاع والحراسات، وغير ذلك من الخدمات وخاصة للجرحى".
يتابع أبو غربية: "رأيت القرويات الباسلات يساندن الثورة بكل بسالة. رأيتهن جماعات، يحملن على رؤوسهن الماء والطعام ويتبعن المقاتلين من مكان إلى مكان. وأخيرا سمعت الكثير من الأحاديث عن مشاركة النساء العربيات والفتيان في مساندة العمليات العسكرية، حيث كان جميع سكان القرى يهرعون إلى الطرق التي تدور فيها المعارك، فيغلقونها في وجه الجيش البريطاني بالحجارة لعدة كيلومترات".
"أيقونة" الكاريكاتير ناجي العلي.. رحيل بطعم "الحنظل"
إحراق المسجد الأقصى.. جريمة لا تزال حاضرة بأشكال مختلفة
"يافا".. هل كانت الطعنة الغادرة في القلب؟ لاجئة تجيب