رغم كثرة المشاكل الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي ستواجه الحكومة التونسية الجديدة برئاسة هشام المشيشي، فإن العملية الإرهابية الغادرة التي استهدفت رجلي أمن بجهة أكّودة الساحلية (استشهد أحدهما وما زال الثاني في حالة صحية حرجة) أعادت الملف الأمني إلى واجهة السجال العمومي.
وكالعادة، فإن هذا السجال العمومي (سواء أكان بين النخب السياسية أم كان في فضاءات التواصل الاجتماعي) قد تحوّل إلى مناسبة لتعميق الاستقطابات الحدّية وتغذية "الهويات القاتلة" التي تُهدد بتحويل الصراع (في أية لحظة) من مستوى العنف الرمزي إلى مستوى العنف المادي بين المواطنين، مع ما يعنيه ذلك من إشارة واضحة إلى هشاشة "المشترك الوطني" أو "الكلمة السواء" التي من المفترض بها توحيد التونسيين في مواجهة التهديدات الأمنية وغيرها.
لقد جاءت العملية الإرهابية الأخيرة لتؤكد أن "كشف الحقيقة" والتعامل المسؤول الذي يتجاوز الخطابات الإنشائية والتوظيفات السياسوية؛ هما آخر ما يهم الأغلب الأعم من الشخصيات الاعتبارية المهيمنة على إدارة الشأن العام وصناعة الوعي الجمعي، كالسياسيين والإعلاميين والمثقفين والناشطين المدنيين وغيرهم. ورغم توازن خطاب الرئيس قيس سعيد وابتعاده عن المفردات الملتبسة أو المثيرة للجدل، فإن الغالب على تعاطي النخب هو محاولة توظيف الظاهرة الإرهابية لتحقيق مكاسب سياسية وتصفية حسابات أيديولوجية؛ عجز مسار الانتقال الديمقراطي عن تحريرها من سلطتها التي تكاد أن تتحول إلى وسواس قهري لا علاقة له بمنطق الجمهورية الثانية ولا بفلسفتها السياسية.
"كشف الحقيقة" والتعامل المسؤول الذي يتجاوز الخطابات الإنشائية والتوظيفات السياسوية؛ هما آخر ما يهم الأغلب الأعم من الشخصيات الاعتبارية المهيمنة على إدارة الشأن العام وصناعة الوعي الجمعي
النخب"الحداثية" والمقاربة الاختزالية المؤدلجة لظاهرة الإرهاب
وبحكم آفتي التسييس والأدلجة وجد التونسيون أنفسهم يتراوحون في الموقع ذاته الذي كانوا فيه منذ بداية العمليات الإرهابية واحتدام الصراع الهوياتي، بين
النهضة وحلفائها وبين ما يُسمّى بـ"العائلة
الديمقراطية". فأغلب "الديمقراطيين" لا يدّخرون جهدا في الربط بين الإرهاب وحركة النهضة، وهو ربط يجد تعبيراته الأساسية في اتهام الحركة بقضية "التنظيم السري" المسؤول (حسب رواية بعض القوى اليسارية والقومية التي لم يؤكدها القضاء) عن اغتيال المرحوم الحاج محمد براهمي والقيادي اليساري شكري بلعيد، كما يجد ذلك الربط بين النهضة والإرهاب شعاره الأساسي في الشعار الأثير عند أغلب "الديمقراطيين" ألا وهو: "يا غنوشي يا سفاح يا قتّال الأرواح".
وفي هذا الربط "البافلوفي" بين النهضة والإرهاب (حيث تصبح أي عملية إرهابية مناسبة لتحميل النهضة دون سواها المسؤولية السياسية والأخلاقية أو حتى القانونية عن الإرهاب بعد الثورة، كما تصبح أي عملية إرهابية مناسبة لتبييض المنظومة القديمة وترسيخ أساطيرها التأسيسية)، لا يجب أن نبحث عن أي أثر للعقل النقدي أو لمنهج الشك أو للنسبية أو غيرها من مكاسب الحداثة والتنوير التي يزعم سدنة "النمط المجتمعي التونسي" بمختلف مشاربهم الأيديولوجية احتكارها دون سواهم. فهدف الخطاب ليس بناء حقيقة مطابقة لموضوعه، بل بناء حقيقة مطابقة لرغبته أو لمصالح منتجيه المادية والرمزية.
ولذلك لن نجد تساؤلا عن دور سياسات تجفيف المنابع في تصحير الواقع الديني في تونس، وجعله نهبا لمنابر التطرف الوهابية وقنواته الفضائية ومواقعه الالكترونية ومراكزه الثقافية، ولن تجد تساؤلا عن الدور الممكن للدين في بناء المشترك المواطني، ولا تساؤلا عن التورط الممكن لبعض مكونات المنظومة القديمة ومن يقف وراءها من جهات أجنية مجاهرة بعدائها للثورات العربية ولإمكانية
الحكم المشترك والاعتراف المتبادل بين الإسلاميين والعلمانيين، ولن تجد أخيرا تساؤلا عن العلاقة بين الإرهاب والتهريب والتهرب الضريبي، وعلاقة ذلك كله ببعض مراكز القوى واللوبيات المتنفذة قبل الثورة وبعدها (أي ما يُسمّى بـ"الدولة العميقة").
في ضرورة التفاوض المستأنف على المشترك المواطني
لقد أثبتت العديد من الدراسات الجادة في قضية الإرهاب انتماء أغلب أفراد المجاميع الإرهابية إلى بلدان فرانكفونية الثقافة (مما يطرح قضية العلاقة بين الدين والسياسة في هذه البلدان بما فيها تونس)، كما أثبتت تلك الدراسات أن المساجد ليست هي المكان الأهم في دمغجة المتدينين أو تجنيدهم (فالأهم هو المواقع الالكترونية والتواصل المباشر)، وأثبتت العديد من الدراسات التونسية أن الإرهاب أعقد من أن يُختزل في العامل الديني بحكم ارتباطه بمتغيرات اقتصادية واجتماعية وتربوية عديدة.
ولكنّ "الديمقراطيين" عندنا لا يأبهون لهذه المعطيات، وهي بالتالي عاجزة عن تعديل مقاربتهم الاختزالية والتسطيحية للظاهرة الإرهابية. فالخيارات الثقافية والدينية الكبرى للمنظومة القديمة (بلحظتيها الدستورية والتجمعية) هي مقدس مُعلمن لا يجوز الاقتراب منها أو التفاوض مجددا بشأنها، ولذلك تبقى المساجد هي المشتبه الأول في تفريخ الإرهابيين، كما تبقى أي منظومة سلوكية أو خطاب سياسي يستلهمان المرجعية الدينية محل اشتباه ووصم وتحريض أمني صريح، كثيرا ما يدار (بين من يدعون أنهم نخب البلاد) بمنطق الاستئصال ومفردات الحرب الوجودية وروح التنافي. وهو ما ولّد إحساس نسبة كبيرة من التونسيين بالغُبن والتهميش و"الاحتقار" بحكم إقصائهم الممنهج من عملية بناء الفضاء العمومي، ومنعهم من ممارسة قناعاتهم الدينية وتفعيلها في الفضاء العمومي بعيدا عن رقابة النخبة العلمانية واستعلائها، بالرغم من ضحالة المحصول الواقعي للخيارات الكبرى لتلك النخب منذ الاستقلال الصوري عن فرنسا.
الإسلام السياسي ومأزق الهوية
ولكن حصر التقصير في القوى "الحداثية" سيكون هو الآخر مقاربة اختزالية منحازة. فالإسلاميون (وخصوصا حركة النهضة) مسؤولون هم أيضا عن غياب خطاب ديني جامع يتجاوز منطق الحزب والجماعة الإيمانية بالمعنى التراثي.
فالنهضة التي انتقلت (دون تأصيل نظري معمم بين القواعد) من وضع البديل للقوى العلمانية إلى وضع الشريك؛ لم تنجح في تجاوز التسييجات المذهبية، وبقيت حركة "سنّية" شبه سلفية في مستوى مواقفها من الهويات الدينية الأخرى، كالشيعة أو الصوفية، بل ظلت عاجزة (خاصة في فترات الأزمة والتهديدات الوجودية النابعة من خطابات الاستئصال) عن تجاوز مفردات التجييش الدينية وعن إدارة الصراع السياسي من خارج الثنائيات الدينية "اللامتكافئة" والخطيرة.
ونحن لا نوافق على اتهام النهضة بالتواطؤ مع التكفيريين خلال فترة الترويكا، وذلك لأن عجز الدولة عن مواجهة مظاهر الانفلات كان عاما ولا يقتصر على التعامل غير المسؤول مع مخاطر الوهابية التكفيرية. فالانفلات الأمني وتحدي سلطة الدولة كانا ينطلقان من البناء الفوضوي، ويمرّان عبر إعادة هندسة شبكات التهريب وتفعيل سلطة لوبيات التهرب الضريبي، لينتهيا إلى عجز بنيوي عن مواجهة الخطر الإرهابي الزاحف.
ولكننا نرى أن الإشكال الأكبر الذي يجب على الحركة مواجهته مهما كانت كلفته الانتخابية هو التالي: كيف يمكن إدارة الشراكة مع العلمانيين بحركة سياسية ذات مرجعية إسلامية؟ أي كيف يمكن تجاوز التوتر في العلاقة بين الطرفين دون الانتقال بالنهضة إلى "حركة سياسية محافظة" لا تستبعد المرجعية الدينية، ولكنها تديرها ضمن المرجعية الدستورية والمشتركات الوطنية الكبرى دون أن تتماهى بالضرورة مع خرافات النمط المجتمعي ومنطقه الفكري العام؟
كيف يمكن محاربة الإرهاب في ظل هيمنة الخيارات اللاوطنية؟
ختاما، قد يكون من العبث البحث عن مخرج من مخاطر الإرهاب المعولم دون الاعتراف بأنه جزء من أزمة مجتمعية تتجاوز المستوى الديني الخالص إلى مستويات الخيارات التربوية والثقافية والاقتصادية المؤسسة لما يُسمّى بالدولة- الأمة أو الدولة الوطنية.
طرح موضوع الإرهاب خارج مقاربة إصلاحية شاملة لن يكون إلا مجهودا عبثيا، لا دور له إلا تغذية الصراعات السياسية وتأمين محاور انتخابية لا يتجاوز دورها ضمان موقعٍ ما في إدارة التخلف والتبعية وإعادة إنتاج شروطهما الفكرية والموضوعية
كما قد يكون من لغو الحديث أيضا أن نبحث عن حلول "توافقية" (بحكم استحالة الوصول الآن وهنا إلى إجماع وطني حقيقي) لهذه الأزمة، في ظل هيمنة خطابات "ضرائرية" تحكمها الانفعالات والمشاعر أكثر مما تضبطها أحكام العقلانية أو حتى الواقعية.
ففي ظل دولة يبلغ فيها مستوى الأمية بين من يلغون 15 سنة فأكثر 19 في المئة، بواقع 1743000 أمي وأميّة في عام 2019، منهم 12 في المئة بين الذكور (550400 أمي) و26 في المئة بين الإناث (1192600 أميّة)، وفي ظل واقع يولد فيه الفرد وهو مطالب بتسديد ثمانية آلاف دينار من ديون الدولة (حيث تبلغ نسبة الديون 94 مليار دينار تونسي، منها 75 في المئة هي ديون خارجية)، وبنسبة بطالة ارتفعت في منتصف هذا العام إلى 18 في المئة من إجمالي عدد السكان القادرين على العمل، وبنسبة فقر مدقع قدّر البنك الدولي عدد ضحاياه بـ340 ألف تونسي (أي نسبة 0.3 من مجموع السكان)، بكل هذه النسب المفزعة يبدو أن طرح موضوع الإرهاب خارج مقاربة إصلاحية شاملة لن يكون إلا مجهودا عبثيا، لا دور له إلا تغذية الصراعات السياسية وتأمين محاور انتخابية لا يتجاوز دورها ضمان موقعٍ ما في إدارة التخلف والتبعية وإعادة إنتاج شروطهما الفكرية والموضوعية.
twitter.com/adel_arabi21