صحافة دولية

MEE: نتنياهو يستغل الاعتراف بقتل فلسطيني تمويها للعنصرية

قتل الفلسطيني المربي يعقوب أبو القيعان في عام 2017 في قرية أم الحيران بالنقب- صفحة نتنياهو على تويتر

سلط الصحفي البريطاني جوناثان كوك في مقال نشره موقع "ميدل إيست آي" الضوء على اعتراف السلطات الإسرائيلية بأن  فلسطينيا قتل برصاص الشرطة لم يكن يشكل تهديدا عليهم وليس له صلة بالإرهاب، كما ادعت حينها.

وقتل الفلسطيني المربي يعقوب أبو القيعان في عام 2017 في قرية أم الحيران بالنقب، واتهمته السلطات الإسرائيلية حينها بأنه "ناشط إرهابي"، وتبين بعد ثلاثة أعوام أن هذا الحكم بني على "ادعاءات باطلة" قدمها عناصر الشرطة "للتغطية على جريمتهم".

ويعتبر الكاتب أن اعتراف رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو بالحقيقة الآن، متذرعا بأنه تعرض للخديعة من الشرطة، هو "جزء من الحقيقة".

ويقول الكاتب: "نتنياهو لم يكن على حق حينما ادعى أنه تعرض للخديعة من قبل مزاعم الشرطة. فمن المؤكد أنه كان يعلم منذ البداية تقريبا أن يعقوب أبو القيعان لم يكن إرهابيا، حتى حينما كان يصمه بذلك على الملأ".

وبعد تفنيد الكاتب ادعاءات الشرطة حينها، فقد أكد أن "نتنياهو لم ينخدع، بل تواطأ في عملية اغتيال شخصية يعقوب أبو القيعان بعد أن اغتالته الشرطة".

ويشير إلى أن نتنياهو في مأزق ويواجه المحاكمة، لذا فهو يستخدم الحقيقة في قضية أبو القيعان حتى يطمس الحقيقة في قضيته.

ويرى أن هذه الحقيقة "تفضح الطريقة التي يُعامل بها الفلسطينيون، حتى الذين يعتبرون رسميا مواطنين، بكل ما تنضوي عليه (هذه الطريقة) من خسة عنصرية قبيحة".

 

 

وتاليا نص المقال كاملا كما ترجمته "عربي21":

 

إنه حدث غير مسبوق. فبعد مضي ثلاثة أعوام على بدء الحكومة الإسرائيلية في شيطنة معلم فلسطيني للقيام بأثر رجعي بتبرير جريمة قتله على يد قوات الأمن الإسرائيلية، أصدر رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو اعتذاراً علنياً لعائلته الأسبوع الماضي، أقر فيه رئيس الوزراء الإسرائيلي، أخيراً، بأن يعقوب أبو القيعان لم يكن إرهابياً.

بل وكان هناك أكثر من ذلك. فقد قال نتنياهو إن الشرطة الإسرائيلية صورت يعقوب أبو القيعان البالغ من العمر خمسين عاماً على أنه "إرهابي لكي يحموا أنفسهم" ولكي يحولوا دون افتضاح أمر الجريمة التي ارتكبوها.

لقد أطلقوا عليه النار رغم أنه لم يشكل تهديداً لأحد. كان أبو القيعان أعزل، وكان حينها يقود سيارته بسرعة تقل عن 10 كيلومترات في الساعة. بعد إطلاق النار عليه تركته الشرطة ينزف لنصف ساعة، ومنعوا عنه الإسعاف الطبي الذي لو توفر لربما أنقذ حياته.

وللتستر على دورهم، ادعى الشرطة زوراً بأنه حاول دهسهم بسيارته. ولقد وجهت إلى دائرة الادعاء العام الإسرائيلية أصابع الاتهام بالتورط بعمق في هذا الأمر أيضاً، وذلك أنهم كما قيل عمدوا إلى سد الطريق على إجراء تحقيق جنائي، على الرغم من معرفتهم بما جرى بالفعل.

وقال نتنياهو إن حكومته خُدعت بسيل الأكاذيب الذي تدفق في 2017، قاصداً القول بأن ذلك كان السبب من وراء اتهامه ظلماً يعقوب أبو القيعان بتنفيذ "هجوم إرهابي".

وابل من الطلقات النارية

مثل هذ الانتقاد الذاتي والتعبير عن الأسف تجاه أمور تتعلق بانتهاك حق الفلسطيني، بل وقتله، يكاد يكون نادراً صدوره عن أي سياسي إسرائيلي. والأغرب من ذلك أن يصدر ذلك عن واحد مثل نتنياهو. فما الذي يجري هنا؟

في واقع الأمر، ما يقوله نتنياهو لا يزيد على كونه جزءاً من الحقيقة، وليس الحقيقة كلها.

من المؤكد أن يعقوب أبو القيعان لم يكن إرهابياً، ولم يكن عضواً في تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، كما ادعت الشرطة مراراً. بل كان نائب مدير مدرسة وأحد أفراد الأقلية الفلسطينية الكبيرة في إسرائيل. وهذا جعله -خلافاً لما عليه وضع الفلسطينيين في المناطق المحتلة- مواطناً إسرائيلياً، وإن كان مواطناً بحقوق أقل من تلك التي يتمتع بها أفراد الأغلبية اليهودية في البلاد، علماً بأن "المواطنين" الفلسطينيين يشكلون خمس سكان إسرائيل.

يواجه المواطنون البدو، ممن هم في مثل وضع يعقوب أبو القيعان، أقصى حالات التمييز التي يتعرض لها المجتمع الفلسطيني بأسره داخل إسرائيل. وعلى الرغم من كل ذلك، تمكن يعقوب من الحصول على شهادة الدكتوراه في الكيمياء، وكان أول بدوي يحقق هذا الإنجاز داخل إسرائيل.

كان أبو القيعان، كما لاحظ نتنياهو بحق، ضحية للقسوة الشديدة التي تمارسها الشرطة – وهو أمر بات مألوفاً لدى عامة الفلسطينيين، سواء في الأراضي المحتلة أم داخل إسرائيل.

عندما تعرضت سيارته لوابل من الطلقات النارية، أصيب مرتين بالرصاص الحي، ونتيجة لذلك فقد السيطرة على سيارته، التي انطلقت بسرعة وخارج السيطرة باتجاه الوادي، فارتطمت بضابط شرطة وقتلته. بعد ذلك تُرك أبو القيعان ينزف حتى الموت، حيث رفضت الشرطة وطواقم الإسعاف الطبية الإسرائيلية نجدته.

خلصت الدكتورة مايا فورمان، التي ساعدت في تشريح الجثة، إلى أنه "لو تلقى العلاج، لربما لم يمت". ولهذا السبب وصف أيمن عودة، المشرع الفلسطيني في البرلمان الإسرائيلي ورئيس القائمة المشتركة، في الأسبوع الماضي قتل يعقوب أبو القيعان على يد الشرطة بأنه جريمة قتل متعمدة.

وكان نتنياهو مصيباً حين قال إن الشرطة الإسرائيلية كذبت، سواء بشأن هوية يعقوب أبو القيعان أو بشأن الظروف التي مات فيها. ولكن تارة أخرى، ذلك إجراء معتاد في شغل قوات الأمن الإسرائيلية حينما يقضي المدنيون الفلسطينيون نحبهم على أيديهم، فانعدام الشفافية، والتستر والتصرف كما لو كانوا في حصانة من المساءلة والمحاسبة هي الأصل.

اغتيال الشخصية

لكن نتنياهو لم يكن على حق حينما ادعى أنه تعرض للخديعة من قبل مزاعم الشرطة. فمن المؤكد أنه كان يعلم منذ البداية تقريباً أن يعقوب أبو القيعان لم يكن إرهابياً، حتى حينما كان يصمه بذلك على الملأ.

كيف لنا أن نكون على يقين من ذلك؟ لأنني وكثيرين غيري كنا نعلم عن خداع الشرطة مباشرة بعد إطلاق النار على يعقوب أبو القيعان وتركه ينزف حتى الموت. في فبراير 2017، على سبيل المثال، بعد شهر من وفاته، كتبت مقالاً استعرضت فيه الأكاذيب التي قالتها لي الشرطة، والتي سرعان ما فضحها الدليل الذي قدمه الطب الشرعي والذي تم الحصول عليه من تسجيلات الفيديو – وهي أكاذيب يدعي نتنياهو أنه لم يعرف عنها إلا مؤخراً. فإذا كنت أنا على معرفة بالحقيقة قبل ثلاثة أعوام، فلابد أنه هو الآخر كان يعرفها.

بل لقد خلص جهاز المخابرات الإسرائيلي الشين بيت، وهو مسؤول بشكل مباشر أمام رئيس الوزراء، خلال يومين فقط من الحادث إلى أنه لم يكن هجوماً إرهابياً.

لم ينخدع نتنياهو، بل تواطأ في عملية اغتيال شخصية يعقوب أبو القيعان بعد أن اغتالت الشرطة هذا الرجل البدوي.

وبالفعل، عمد نتنياهو ووزراؤه إلى تضخيم هذه الافتراءات وتوسيع إطارها لتشمل بقية الأقلية الفلسطينية في إسرائيل. بل راح وزير الأمن العام في حكومته، جلعاد إردان، يشيطن نواب الأقلية داخل البرلمان متهماً إياهم بإقرار الإرهاب والتحريض ضد الشرطة لمجرد أنهم يرفضون القبول بأن قتل يعقوب أبو القيعان على يد الشرطة كان مبرراً.

استغلال القتل

مهما صرح به الآن نتنياهو، فإن زعمه الأسبوع الماضي أنه "بالأمس فقط وجدنا أن (أبو القيعان) لم يكن إرهابياً" لم يضع حداً للأكاذيب، بل استمر فيها ووسعها.

إن السبب الوحيد الذي جعل رئيس الوزراء يشذ عن السياسة الإسرائيلية المعتمدة منذ عقود، وهي سياسة التستر لضمان استمرار الأجهزة الأمنية الإسرائيلية في التمتع بالحصانة من المساءلة عن موت الفلسطينيين، هو مساعدة نفسه في الخروج من مأزق. من المؤكد أن ذلك لم يكن بسبب قلقه بشأن الظلم الفاحش، أو بشأن ما تعرض له يعقوب أبو القيعان وعائلته من معاناة – وكلا الأمرين ساهم هو نفسه فيهما بقدر كبير.

لم يكن هدف نتنياهو تبرئة يعقوب أبو القيعان وإنما تلطيخ سمعة الشرطة والادعاء العام في إسرائيل – ولأسباب تتعلق به شخصياً. إن جهاز الشرطة وإدارة الادعاء العام الإسرائيليين الضالعين في قتل يعقوب أبو القيعان والتستر على جريمة قتله، هما نفسهما جهاز الشرطة والادعاء اللذان سيشتغلان ضد نتنياهو في شهر ديسمبر عندما تبدأ جدياً إجراءات محاكمته بتهمة الفساد.

يواجه نتنياهو سلسلة من التهم تتعلق بارتكاب الرشوة والاحتيال وخيانة الأمانة. والآن، باتت نجاته سياسياً تتوقف على مدى قدرته على بث الروح في حكاية أن الشرطة الإسرائيلية والنظام القضائي غارقان في الفساد ويشنان حرباً ضد الديمقراطية بهدف الإطاحة به.

والحكاية التي يسعى لاصطناعها تقول إن الشرطة والادعاء إذا كان بإمكانهم خداع رئيس وزراء إسرائيل لثلاثة أعوام حول مقتل مواطن إسرائيلي، أوليس بإمكانهم خداع الشعب من خلال اتهام نتنياهو نفسه بالفساد؟

فيما نجح نتنياهو فإنه سيطالب بإسقاط جميع تهم الفساد الموجهة إليه. ولذلك فقد غردت مشرعة فلسطينية أخرى، هي عايدة توما سليمان، قائلة إن اعتذار نتنياهو لا قيمة له، ووصفته بأنه "استخدام ماكر للدم بهدف تحقيق غايات سياسية."

أصابع متهيئة لإطلاق النار

على الرغم من أن مزاعمه بأن ثمة حملة تشنها المؤسسة ضده هي مزاعم لا يقبلها العقل، فقد حصل نتنياهو، بالطبع، على مساعدة من حقيقة أنه لم يكن مخطئاً بشأن الفساد المستشري داخل أجهزة الأمن في إسرائيل ولإدارة الادعاء فيها وبشأن الطبيعة المعادية للديمقراطية لها.

إنها بكل تأكيد فاسدة، ولكن فسادها غير موجه ضده هو.

ولكن عندما يتعلق الأمر بمعاملة الفلسطينيين، سواء أولئك الذين يعيشون داخل الأراضي المحتلة أو الذين يعيشون داخل إسرائيل، فإن لدى أجهزة الأمن الإسرائيلية أصابع متهيئة لإطلاق النار وازدراء لحياة الفلسطينيين. فمن النادر أن تجرى تحقيقات، وعندما يحصل ذلك، فإن النتائج تكون معدة مسبقاً، وتتعمد النيابة غض الطرف عن تجاوزات الشرطة وانتهاكاتها، وتسارع إلى إغلاق مثل تلك الملفات، كما فعلت في حالة يعقوب أبو القيعان.

طالبت منظمة هيومان رايتس واتش يوم الاثنين بإعادة جثة أحمد عريقات، الفلسطيني البالغ من العمر ستة وعشرين عاماً، والذي أطلق عليه الجنود الإسرائيليون النار قبل عشرة أسابيع في انتهاك صارخ للقانون الإسرائيلي والقانون الدولي.

عومل موته بنفس الطريقة التي عومل بها موت يعقوب أبو القيعان. فقد قتل الجنود عريقات بعد ما تبين أنه حادث مروري عند نقطة تفتيش داخل الضفة الغربية نجم عنه إصابة جندي بجراح طفيفة. يظهر الفيديو عريقات وهو خارج من سيارته، ولم يبد أنه كان يشكل تهديداً لأحد، ومع ذلك أرداه الجنود قتيلاً. وهنا أيضاً، منعت طواقم الإسعاف من الاقتراب منه.

لم تجد كل الجهود التي بذلتها منظمة هيومان رايتس واتش لمعرفة ما إذا كان عريقات مسلحاً، أو ما إذا أجرت إسرائيل تحقيقاً، وإذا ما حصل، فماذا كانت النتائج التي توصل إليها تحقيقها.

وفي حالة مشابهة، قتلت الشرطة الإسرائيلية في أواخر شهر مايو / أيار رجلاً فلسطينياً يعاني من التوحد اسمه إياد الحلاق، حيث أطلقت عليه النار، كما ورد، من على مسافة قصيرة جداً، بعد أن طاردته في شوارع البلدة القديمة في القدس. يوجد في تلك المنطقة ما لا يقل عن عشر كاميرات، بحسب ما أشارت وسائل الإعلام المحلية، إلا أن السلطات الإسرائيلية ادعت أنها كلها كانت معطلة في لحظة وقوع الحادث.

هذه الحوادث، وغيرها من مثلها كثير، تظهر أن حياة الفلسطيني ليست فقط رخيصة، بل هي بلا قيمة في أعين الشرطة والجيش الإسرائيلي – وحتى في عيني نتنياهو نفسه. لكن حياة يعقوب أبو القيعان صار لها قيمة الآن في نظر رئيس الوزراء الإسرائيلي لأنها يمكن أن تستغل لغرض إبقائه في السلطة.

نزع الآدمية عن الفلسطينيين

حكاية يعقوب أبو القيعان ليست بحال شاذة. بل إنها تسلط الضوء على الطريقة التي ينزع بها جهاز الدولة الإسرائيلي بأسره وبانتظام الآدمية عن الفلسطينيين، الأحياء منهم والأموات على قدم المساواة.

جاء مقتل يعقوب أبو القيعان في يناير 2017 ضمن سياق ما كانت تبذله الشرطة الإسرائيلية من جهود لتنفيذ قرار قبيح اتخذته حكومة نتنياهو لهدم قريته أم الحيران جنوبي إسرائيل في منطقة النقب شبه الصحراوية. كانت القرية بأسرها، والتي يبلغ تعداد سكانها ألف فلسطيني من مواطني إسرائيل، ستهدم عن بكرة أبيها حتى يتسنى استبدالها ببلدة جديدة تقتصر على اليهود وتحمل تقريباً نفس الاسم "حيران".

كانت في الحقيقة تلك هي المرة الثانية التي يتعرض فيها أولئك البدو إلى تطهير عرقي من قبل الدولة التي يعيشون فيها. قبل ستين عاماً – وقبل وجود التغطية الإعلامية للأحداث على مدار الساعة أو وجود مواقع التواصل الاجتماعي – طردهم الجيش الإسرائيلي من ديارهم الأصلية تمهيداً لإقامة بلدة لليهود حصرياً.

لا بد من التذكير بأن قرية أم الحيران تقع داخل إسرائيل، وجميع سكانها هم رسمياً مواطنون إسرائيليون. ومع ذلك، فلا السياسيون ولا المحاكم أبدوا أدنى اهتمام بحماية حقوق هؤلاء المواطنين الفلسطينيين، لأن الأولوية من وجهة نظرهم كانت لتطبيق سياسة الدولة الرسمية بتهويد النقب من خلال إجبار المواطنين الفلسطينيين على إخلائه حتى يسكنه مواطنون يهود.

لم تثمر شيئاً سنوات طويلة من النضال خاضها أهل القرية وساندتهم فيه منظمات حقوق الإنسان المحلية والعالمية، فقد قررت المحكمة العليا في البلاد أن "سكان أم الحيران لا حق لهم في المكان."

وسعياً منها لتجنب الدعاية السلبية، أرسلت حكومة نتنياهو المئات من أفراد وحدة شبه عسكرية تابعة لما يسمى شرطة الحدود في جنح الليل لإخراج أهل القرية بالقوة من ديارهم. جاءت تلك العناصر مدججة بالسلاح ومزودة بالرصاص الحي والرصاص المعدني المكسو بالمطاط، وبقنابل الغاز المسيل للدموع وبالقنابل الصاعقة.

سيارة تنحرف بشكل غير طبيعي

قرر يعقوب أبو القيعان المغادرة قبل بدء عمليات الهدم لتجنب أي مواجهة مع الشرطة، بينما قرر آخرون من أهل القرية الاعتصام والتظاهر داخلها، جنباً إلى جنب مع أعضاء فلسطينيين داخل البرلمان الإسرائيلي ونشطاء من معسكر اليسار، بوجود قلة قليلة من الصحفيين.

عبأ أبو القيعان سيارته بما تبقى من أمتعة كانت في منزله، ثم انطلق عبر طريق رملي باتجاه الطريق الرئيسي. كما هو حال العشرات من التجمعات البدوية في النقب، لم تكن توجد طرق معبدة في أم الحيران، وذلك لأن إسرائيل، وكجزء من سياسة التهويد التي تنتهجها، منعت كافة الخدمات الأساسية عن تلك القرى.

وبينما كان أبو القيعان يوجه سيارته في الظلام الدامس بعناية فائقة عبر ذلك الطريق المنحدر من تل صغير، فتحت الشرطة الإسرائيلية النيران مستهدفة أنوار سيارته. أطلقوا عشرات الأعيرة النارية، فأصيب مرتين، كما كشف تقرير تشريح الجثة، مرة في الجسم وتارة أخرى في الركبة، مما أفقده القدرة على التحكم بالسيارة.

يظهر فيديو التقطته الشرطة للحادث من الجو بأنه بعد إطلاق النار أسرعت السيارة فجأة وانحرفت بشكل غير طبيعي في المنحدر، إلى أن اصطدمت في القعر بمجموعة من الشرطة فقتلت الضابط إريز ليفي.

النزف حتى الموت

لم يكن ثمة سبب لإطلاق النار على يعقوب أبو القيعان سوى الانطباعات العنصرية لدى ضباط الشرطة الإسرائيليين الذين كانوا متواجدين هناك في تلك الليلة. فلطالما رعى جهاز شرطتهم وجهة نظر تأسست حول الفلسطينيين، بما في ذلك من كانوا منهم مواطنين إسرائيليين، مفادها أنهم ليسوا كاملي الآدمية وأنهم العدو. وهذه الملاحظة الأخيرة لست صاحبها، بل كانت قد صدرت عن تحقيق رسمي أجرته هيئة قضائية حول سلسلة من عمليات القتل الأخرى نفذتها الشرطة الإسرائيلية بحق المواطنين الفلسطينيين.

ونظراً لأن ضباط الشرطة الذي وصلوا إلى أم الحيران كانوا يعتبرون سكانها مجرمين – وهي وجهة نظر عبرت عنها بحق البدو جميع الحكومات الإسرائيلية، بما في ذلك حكومة نتنياهو – لم يتمكنوا من تفسير انطلاق سيارة يعقوب أبو القيعان بسرعة تجاههم سوى على أنه محاولة متعمدة للدهس.

لقد عكسوا السبب والنتيجة في عقولهم بكل سهولة، إذ قتلوا أبو القيعان بلا سبب، ثم ابتدعوا الظروف التي أدت إلى موت ضابط من زملائهم. ولكن في الرؤية العنصرية المكونة لدى الشرطة الإسرائيلية، كانت الرصاصات التي أطلقت على أبو القيعان مبررة بأثر رجعي من خلال "هجوم إرهابي" متخيل تسببت فيه نفس الرصاصات التي أطلقوها.

لم ينحصر التواطؤ على ارتكاب جريمة قتل أبو القيعان في ضباط الشرطة، بل انضم إليهم طبيبان وفريق من المسعفين كانوا موجودين في الموقع إذ تركوا أبو القيعان ينزف حتى الموت، وكانوا بالكاد على بعد عشرة أمتار منه وهو يلفظ أنفاسه ببطء.

بين أحد المسعفين أنهم لم يساعدوا أبو القيعان لأنهم لم يتلقوا الأمر بذلك من الشرطة، وكأنما كانوا بحاجة إلى من يدعوهم إلى ذلك. وفي محاولة لتبرير القعود عن عمل شيء، قال أحد المسعفين للمحقق: "محزن. من السهل الحديث الآن، ولكن في الميدان كانت المؤشرات تدل على وقوع هجوم." يبدو إذن أنه في تلك الظروف فلا بأس من أن يترك أبو القيعان ينزف حتى الموت.

سياسي يصاب

تتوالى أكاذيب الشرطة بكثافة وسرعة، ولكن ما تلبث أن تفتضح سريعاً بفضل ما احتواه الفيديو وما قدمه الطب الشرعي من أدلة، والتي تشير في الخلاصة إلى أن يعقوب أبو القيعان لم يندفع نحو الشرطة منفذاً لهجوم إرهابي، وأنه لم يطفئ أنوار سيارته الأمامية، ما عمق شكوكهم كما يقال، ولكنهم لم يطلقوا النار في الهواء ولا على إطارات سيارته.

نشرت صحيفة هآريتس الإسرائيلية مؤخراً تقريراً تضمن نصوصاً من مقابلة مع الضابط الذي بادر أولاً بإطلاق النار، وعرفته فقط بالحرف إس. اعترف الضابط بأن حياته لم تكن في خطر وأنه لم يطلق النار على عجلات السيارة – كما ورد في الرواية الرسمية – وإنما على المركز منها.

زعمت الشرطة أن لديها ما يثبت أن يعقوب أبو القيعان كان من أنصار القاعدة، ولكن لم يثبت شيء من ذلك. فيما بعد، قام جهاز المخابرات الشين بيت بإغلاق الملف بهدوء، بعد أن لم يتمكنوا من إيجاد دليل على أنه كان هجوماً إرهابياً.

وقعت الشرطة في شر أعمالها بسبب خديعة سافرة أخرى ذات علاقة بأحداث تلك الليلة. تمخضت الأحداث عن إصابة أيمن عوده، رئيس البعثة البرلمانية للأقلية الفلسطينية التي كلفت برصد التطورات في أم الحيران، بجرح في رأسه كان ينزف دماً.

زعمت الشرطة أنه أصيب بحجر ألقاه أحد أبناء القرية، ولكن في الواقع، وكما زعم عوده وأثبتت ذلك الأدلة المصورة فيما بعد، أطلقت الشرطة عليه رصاصاً معدنياً مطلياً بالمطاط، كما فعلوا بحق أبناء القرية. ولو أن تلك الرصاصة التي أصابت عودة استقرت على بعد مليمترات قليلة إلى أسفل لربما فقد بصره.

تُظهر صور موقع الحادثة مجموعة من الشرطة المسلحة في حالة استرخاء وهم يتبادلون الأحاديث بجانب عودة بينما كان يتلوى على التراب، مصعوقاً، ورأسه ينزف دماً بغزارة. وعلى الرغم من امتيازاته النيابية إلا أن عودة أصيب هو الآخر بينما كان يحاول مساعدة يعقوب أبو القيعان. ولقد لاحظ إيال وايزمان، رئيس وحدة الطب الشرعي الهندسي، والتي استخدمت الفيديو وغير ذلك من الأدلة لمعرفة ما الذي جرى بالضبط في تلك الليلة، بأنه لو سُمح لعودة بأن يصل إلى يعقوب أبو القيعان فلربما أمكن إنقاذ حياة معلم المدرسة.

"أياديكم ملطخة بالدم"

في الأيام التالية، تزعمت حكومة نتنياهو الحملة التي استهدفت أبو القيعان بالشيطنة والتشهير – بل واستهدفت كذلك جميع الزعماء الفلسطينيين مثل عودة لأنهم شككوا في رواية الشرطة.

وصف إردان، سفير إسرائيل لدى الأمم المتحدة، أبناء قرية أم الحيران باللصوص الذين يمارسون العنف، واتهم عودة وغيره من المشرعين الفلسطينيين بأنهم أيضاً يتحملون المسؤولية عن موت ضابط الشرطة ليفي كما يتحملها "الإرهابي" أبو القيعان. وكتب السفير في وسائل التواصل الاجتماعي يقول: "أياديكم ملطخة هي الأخرى بدمه."

في منشور له في 2017 يشيد بإريز، قال نتنياهو إن أولئك "الذين يدعمون الإرهاب ويحرضون عليه" – وهي شيفرة يُقصد بها القادة الفلسطينيون في إسرائيل – سوف يواجهون "بكل القوة الضرورية"، بما في ذلك حرمانهم من المواطنة.

وفرت حملة الشيطنة التي شنتها حكومة نتنياهو مبرراً لمزيد من الإهانات التي تعرضت لها عائلة أبو القيعان وقريته. حرمت العائلة من الحصول على أي تعويض، ويقال إنهم مازالوا اليوم يعيشون في بيوت متنقلة بعد أن هدمت السلطات منزلهم بعد حادثة 2017.

وانسجاماً مع سياستها في التعامل مع "الإرهابيين"، أجلت السلطات الإسرائيلية الإفراج عن جثة أبو القيعان ورفضت السماح بتنظيم جنازة له. وكما أخبرني ابن أخيه رائد غاضباً بعد خمسة أيام من القتل، وقد شارك في جنازة لجثمان لم يصل بعد: "لم تكتف الشرطة بقتله بدم بارد، بل ها هم الآن يحتجزون جثمانه رهينة سعياً منهم لإضفاء شيء من المصداقية على روايتهم السخيفة التي تقول إنه كان إرهابياً."

من الواضح أن نتنياهو احتاج إلى ثلاثة أعوام لكي يعرف ما كان يعلمه رائد أبو القيعان منذ البداية.

دائرة التواطؤ

لم يكن شيء مما وقع ليعقوب أبو القيعان في تلك الليلة – أو في الأسابيع والشهور التي تلتها – استثنائياً. لا أكاذيب الشرطة ولا تستر الدولة يعتبران شذوذاً عن القاعدة، ولا حتى التحريض الذي مورس فيما بعد ضد الأقلية الفلسطينية من مواطني إسرائيل. فكل هذه المسالك هي الأصل وليست الاستثناء.

إنما يكمن الاستثناء في الظروف التي سمحت للحقيقة أخيراً بأن تطفو على السطح – الأمر الذي جعل هذه القضية تختف عن حالات أخرى مثل تلك التي ورد ذكرها آنفاً كحالة أحمد عريقات وحالة إياد الحلاق.

نظراً لأن يعقوب أبو القيعان قتل داخل إسرائيل وليس في المناطق المحتلة، فقد جرى التحقيق بادئ الأمر في تصرفات الشرطة، حتى وإن كان من المفترض ألا ترى النتائج النور على الإطلاق. ونظراً لأن الشهود كانوا موجودين، بما في ذلك الصحفيون والسياسيون، كان أيسر معرفة ما جرى بالضبط وبالتالي تكذيب رواية الشرطة.

والآن، ولأن نتنياهو في مأزق ويواجه المحاكمة، فإنه على استعداد لإراقة الحساء من أجل أن ينجو بنفسه. ولذا فهو يستخدم الحقيقة في قضية القيعان حتى يطمس الحقيقة في قضيته.

ومع ذلك لابد من التوقف عند هذه اللحظة من البوح بالحقيقة لأغراض غير نزيهة، لأنها تفضح، ولو لبرهة قصيرة، الطريقة التي يُعامل بها الفلسطينيون – حتى أولئك الذين يعتبرون رسمياً موطنين – بكل ما تنضوي عليه من خسة عنصرية قبيحة.

يتضح من ذلك مدى اتساع دائرة التواطؤ في جريمة قتل مثل تلك التي راح ضحيتها يعقوب أبو القيعان وما تلاها من تستر. تضم الدائرة الشرطة والادعاء العام والأطباء والسياسيين وكذلك، بالطبع، رئيس الوزراء نفسه.