من وحي الحديث الشريف: "هلك المتنطعون" أجد هذه المفارقة العظيمة. المتنطعون هم المُتشدّدون في غير مواضع التشدّد، فما بالنا في المتميّعين المتراخين المنبطحين المسالمين المتنازلين المتحالفين الداعمين المؤازرين المتماهين المتراحمين الموالين المحبّين، وكل هذا نراه يندرج في صفات المطبّعين، وبالتأكيد في غير مواضعها الصحيحة، بل في الموضع الذي ينبغي أن يكون فيه المرء متشدّدا دون أن يوصف بالتنطّع، لأنه حينها يكون التشدّد في موضعه المطلوب.
لماذا هلك المطبعون؟
لأن الإنسان يخرج بذلك عن كلّ مضامينه الإنسانية الطيبة، ويستبدلها بمضامين شرّيرة خبيثة بعيدة كل البعد عن القيم الإنسانية التي فطر الله الناس عليها وأودعها أرواحهم على سجيّتها الطيبة، قبل أن تعبث بها أيدي من خرجوا عن هذه الفطرة الإنسانية السويّة. إنه انسلاخ كامل من كلّ الصفات الحميدة والتصاق كامل بكلّ الصفات الذميمة وهذا من دواعي الهلاك والفناء، وبيان ذلك في الآتي:
• في هذا
التطبيع مع دولة احتلال مدمنة على
الاحتلال على حدّ مقولة "جدعون ليفي"، وحتى لو أنها لم تمارس الاحتلال علينا ومارسته على شعب آخر لا علاقة له بنا، فإنها تمارس الظلم مع سبق الإصرار والترصّد، وبالتالي فإنّ هذا التطبيع دعم وإسناد للظالم وتقوية له في ظلمه، وخذلان للمظلومين المقهورين الذين يعانون من سطوة ظلمه وجبروت قهره. وهذا انسلاخ من خلق إنساني نبيل يُدعى "نُصرة المظلوم". وليس هذا فحسب، وإنما الانسجام مع الظالم والتأييد له في ظلمه. وفي هذا سرّ من أسرار الهلاك لأن شريك الظالمين ظالم، وقد جرت سنة الله في خلقه أنه لا يفلح الظالمون، وأن من أعان ظالما سلّطه الله عليه.
• سنجد من دوافع التطبيع الدفينة في نفوس المطبعين الشعور بالضعف، وقد ضُربت عليهم الذلّة والمسكنة دون أن يكون لها وزن أو إرادة أو حتى نيّة لتكون ذات قدرة على تحقيق شيء من الذات. هم أشياء سريعة الذوبان وقابلة للالتهام من قبل الآخرين، سائغة للشاربين ولقمة رخوة سهلة البلع والهضم، وهذا يمكّن روح الهزيمة من أن تبسط نفوذها على روحها واستلام زمامها، ووضع اللجام في فمها لسوقها إلى حيث يريد القادر على ركوبها وامتطاء سرجها. وهل هناك طريق أسرع للهلاك والفناء من هذا الطريق؟ طريق الرضى بالضعف والذلّة والمهانة وسيطرة روح الهزيمة والحياة على قارعة الأقوياء أو تحت أقدام موائدهم اللئيمة انتظارا لفتاتها.
• وسبب هلاك المطبعين أيضا يكون عدا عن هذه، تمتعه الشديد واستغراقه الكامل بالشعور بالخيانة لأمته وانتهاكه الصارخ لروحها وثقافتها وتاريخها وعزّتها وشرفها وأملها، وطموحها بمستقبل مشرق يقيم الحرية والكرامة والسيادة والريادة الحضارية ووجودها على خريطة الأمم والشعوب ذات الاستقلال والهوية. ولو لم يكن إلا هذا الشعور لكفاهم هلاكا نفسيّا ودمارا، وستجد من يقول إنهم قد فقدوا الأحاسيس الإنسانية النبيلة، فتراهم لا يشعرون بمشاعر الخيانة، وهذا أيضا يشكّل حالة خربة مدمّرة هالكة، فسواء شعر أم فقد أدوات الاستشعار فقد هلك هلاكا وبيلا.
• ويهلك المطبعون مرّات ومرّات عندما يرون من طبّعوا معهم أقوياء يكيلون لهم شتى أنواع المهانات ويستحقرونهم ودوما يخفضون سقف سياساتهم وتوقعاتهم من أدنى إلى أدنى، ويرون آمالهم الزائفة في التطبيع وقد تكشّفت وأصبحت سرابا، وتتكشّف يوما بعد يوم أنياب المطبّع معه الصفراء ويبقى ينهش بمقدرات بلده "وعلى عينك يا تاجر" دون أن يجرؤ على التراجع خطوة إلى الوراء، لأنهم يجيدون ربطهم في فلك صغير كما يدور الحمار حول الرحى، وكلما تناهى لسمعه خبر من اختاروا طريق العزّة والتمكين رغم ما بينه وبينهم من فارق الإمكانات من أموال ومقدرات، يسمع ويرى كيف يرتقي المرتقون وكيف يتهاوى هو في مهاوي ردى التطبيع والارتكاس في رذيلة العمالة والاستخدام البشع في خدمتهم، سيذوق وبال أمره ويتجرّع زقوم التطبيع هذا بكل ما أوتي من ذلّة ومهانة.
• ويهلك المطبّعون عندما يكتشفون أن التطبيع كان مجرّد الخطوة الأولى التي خطّها لهم الشيطان، بينما الخطوات التالية هي أدهى وأمرّ. هناك الأخطر وهو الخطوة الأمنية التي تفتح ملفّاتهم كلّها وتدعهم مكشوفي الظهر، ومن ثمّ يجري توظيفهم ليقوموا بخدمة التنسيق والتبليغ والتوصيل "ديلفري لأمن المنطقة الله وكيلك"، وخطوة الاستثمار والتبعية الاقتصادية للجشع الصهيوني الذي لا حدود له، وخطوة العبث والتخريب الثقافي والذي يستهدف النسيج الاجتماعي والاختراق العضوي والنفسي لبنية الشخصية التي يجري تدجينها وأسرلتها وفتح كلّ قنواتها لأيديهم العابثة والماكرة. لا يدري المطبع إلى أين هو ذاهب به، ليكتشف جهنم التطبيع في الدنيا قبل الآخرة.
• ويهلك المطبعون أيضا عندما يرون شعوبهم تنظر إليهم بازدراء واحتقار، بعد ما أصاب وجوههم من خزي التطبيع ومذلّته، ذلك أن شعوبنا قاطبة تكره المحتلّ من أعماقها، إلا المنتفعين منهم المتملّقين، وهؤلاء الأسرع في التخلّي عنهم عندما تدور عليهم الدوائر وتلتفّ حول رقابهم حبال التطبيع الآثمة. فالموروث الثقافي المركوز في أعماق الشعوب لا يمكن أن ينسجم مع ظالم أو احتلال أو استعمار، فعندما ترى حكامها يطبعون ويستقبلون صاغرين في قصورهم هؤلاء المحتلين بكل ما يحملون من صور بشعة، عندئذ يرتد البصر وتتجه نظرات الاحتقار والاشمئزاز إلى هذا المجرم الذي رضي بالدنيّة في دينه ودنياه، وفي وطنيّته وأخلاقه وهدر إنسانيته على مذبح الاحتلال البغيض.
• ولا بدّ أخيرا من أن يهلك كلّ يوم عندما ينظر في المرآة باحثا عن وجهه الذي ولدته أمّه، فيجد وجها آخر قد عبث فيه المحتل الذي طبّع معه ومسخه مسخا، ضيّع فيه كل معالمه فأصبح بسحنة لا هي عربية ولا أعجمية ولا غجرية ولا شركسية، لا لون لها ولا شكل، لا ماء في وجهه ولا روح.
بالفعل هلك المطبعون وبأسرع مما يتوقّعون.