مقدمة:
رحبت جمهورية
مصر العربية على لسان رئيسها عبد الفتاح السيسي باتفاق المبادئ المعروف باسم "اتفاق أبراهام"؛ الذي توسطت فيه الولايات المتحدة الأمريكية بين كل من
الإمارات والبحرين والسودان من جهة؛ وإسرائيل من جهة أخرى، لإقامة علاقات رسمية كاملة بين
إسرائيل والدول المُطبعة.
وواصلت الإدارة الأمريكية جهودها لانضمام دول عربية أخرى لاتفاق
التطبيع، ورجحت دخول عشر دول عربية جديدة قبل الانتخابات الأمريكية في 3 تشرين الثاني/ نوفمبر 2020م، ولكن العديد من رجال السياسية والأمن والاقتصاد في مصر أبدوا تخوفهم من تأثير الاتفاق على موقع ومكانة مصر دولياً وإقليمياً، وهو الموقع الذي تفردت به مصر منذ توقيع اتفاق كامب ديفيد عام 1979م، وكانت طيلة تلك الفترة حلقة الوصل بين إسرائيل والعالم العربي.
سنناقش في هذه الورقة أثر التطبيع الخليجي الإسرائيلي على موقع ومكانة جمهورية مصر العربية، من خلال قراءة بعض المؤثرات فيها، أهمها الدبلوماسية الجديدة لدولة الإمارات ودول الخليج، وانعكاسها على موقع ومكانة مصر سياسيا واقتصادياً، وكذلك مشروع خط إيلات عسقلان، أو مشروع السكك الحديدية من البحر الأحمر إلى ميناء حيفا بديلاً عن قناة السويس، وانعكاسها على الاقتصاد المصري.
الاقتصاد المصري والتطبيع:
أبدى العديد من المُتخصصين الاقتصاديين في مصر تخوفهم من اتفاق التطبيع الخليجي الإسرائيلي، وما تبعه من اتفاقيات اقتصادية قد تكون على حساب الاقتصاد المصري. فدول الخليج العربي تُعد أهم أسواق مصر، ويعتمد عليها الاقتصاد المصري بدرجة كبيرة، من هنا سيواجه الاقتصاد المصري العديد من المشاكل بعد اتفاق التطبيع، وستكون منافسة السلع المصرية بالإسرائيلية، وكذلك سيتضرر قطاع السياحة في مصر بشكل كبير، بحيث ستكون المزارات السياحية في إسرائيل منافسة بدرجة كبيرة للمصرية، حيث المسجد الأقصى باعتباره مزاراً سياحياً دينياً مرغوباً للدول العربية، بالإضافة إلى مناطق ساحل البحر المتوسط (يافا وحيفا وتل أبيب)، أما الضرر الأكبر اقتصاديا والذي سيلحق خسائر كبيرة، فسيكون في قناة السويس، والتي سنترك لها نقطة للحديث عنها.
قناة السويس والتطبيع:
بعد إعلان التطبيع بين دولة الإمارات وإسرائيل، أثار ما أعلنه موقع "غلوبس" المختص بالاقتصاد الإسرائيلي أن مسؤولين إسرائيليين قاموا بتوقيع اتفاق في تشرين الأول/ أكتوبر 2020م؛ مع الإمارات العربية لإقامة خط للنفط ومشتقاته، تساؤلات مصرية حول مدى تأثير الخط على قناة السويس المصرية، بحيث يمتد هذا الخط من الإمارات إلى السعودية إلى ميناء إيلات على البحر الأحمر، ومن ثم إلى عسقلان، فإلى أوروبا وأمريكا الشمالية، في حين تعتبر قناة السويس ممرا يُعتمد عليه دولياً لنقل البضائع والنفط من آسيا وأفريقيا إلى أوروبا وأمريكا الشمالية، بالإضافة إلى موقعها الاستراتيجي، ودخلها المالي الكبير من العملة الأجنبية.
ومعلوم أن إسرائيل قامت ببناء هذا الخط بالتعاون مع إيران في 1968م؛ بعد حرب الأيام الستة والتي نتج عنه إغلاق قناة السويس وتوقف نقل النفط إلى أوروبا، حيث سيكون هذا الخط ملائماً لنقل الخام نحو الأسواق الأوروبية، وبذلك ستكون قناة السويس أمام تحديات وجود منافس بري أقل كلفة من قناة السويس، وأقصر وقتا، ويقلل نواتج التقطير، كما سيوفر رسوم عبور السفن بقناة السويس، (350 ألف دولار لكل ناقلة).
وما يميز هذا الخط عن قناة السويس، هو قدرة المحطات في عسقلان وإيلات على استيعاب الناقلات العملاقة التي تهيمن على شحن النفط اليومي، لكنها أكبر من أن تمر من القناة. وكذلك لدى خط إيلات عسقلان إمكانية أن يعمل بالاتجاه المعاكس. وهو يبلغ طوله 254 كلم، ويتألف من مسارين واحد لنقل النفط من إيلات على البحر الأحمر إلى عسقلان على البحر المتوسط، ومسار آخر عكسي.
ميناء حيفا الإسرائيلي والتطبيع:
ستواجه مصر تحديا آخر وهو إعلان الإمارات المتحدة، عن مشاركة موانئ دبي العالمية في جهودها للاستحواذ على إدارة ميناء حيفا، حيث تشكل هذه الخطوة انهيارا كاملا لعمل قناة السويس، ويصبح ميناء حيفا بوابة دول الخليج العربي على البحر المتوسط. ولا يتوقف الأمر عند ذلك، فقد يصبح ميناء حيفا بديلاً كاملاً عن مرفأ بيروت اللبناني أيضاً، بحيث أن ميناء حيفا سيحظى بتلك الامتيازات الاقتصادية.
في ظل الحديث عن إعادة تشغيل مشروع خط إيلات عسقلان، ومشروع ميناء حيفا، يصعب على مصر التحرك لوقف تشغيله، بسبب تخلي مصر حديثاً عن جزيرتي تيران وصنافير للسعودية، لأن هذه الجزر هي التي تتحكم في مدخل خليج العقبة بين الأردن وإيلات في إسرائيل، ولهذه الجزر أهمية استراتيجية كبيرة على البحر الأحمر، بالإضافة إلى أنها طرق دخول إسرائيل على البحر الأحمر.
موقع الدور المصري السياسي بعد التطبيع:
تمتعت مصر بتفردها بالدبلوماسية الإقليمية، وكانت حلقة الوصل بين كل من الدول العربية وإسرائيل، فمنذ توقيع اتفاقية كامب ديفيد عام 1979م، وهي تعتبر الحلقة الأهم بالنسبة للنزاع الفلسطيني الإسرائيلي، وما زالت حتى هذه اللحظة تُعتبر المرغوبة إسرائيلياً وفلسطينياً للتوسط بينهما في معظم القضايا، إلا أن اتفاق التطبيع بين الدول العربية وإسرائيل، من الممكن أن ينقل مركز الثقل من مصر إلى دول الخليج العربي، وبخاصة إلى الإمارات، ما يجعل مصر تخسر رصيداً جديداً في استثنائها وموقعها، حيث أن دول الخليج العربي تتطلع من وراء هذا التطبيع إلى توسيع نفوذها، وتثبيت مكانتها في الإقليم، وتعمل على أن يتيح لها التطبيع موطئ قدم في النزاع الفلسطيني الإسرائيلي، وفرصة لإبعاد قطر وتركيا عن قطاع غزة والمنطقة. ولم يقف الأمر عند خسارة مصر الوساطة بين إسرائيل والدول العربية، بل من الممكن أن تخسر سيطرتها على القرار السوداني نتيجة تطبيع السودان مع إسرائيل حديثاً.
ما يميز اتفاق التطبيع الخليجي الإسرائيلي، هو أن الإمارات ودول الخليج لا توجد بينها وبين إسرائيل أي مشاكل أو حروب سابقة، بعكس اتفاقية مصر مع إسرائيل في كامب ديفيد، والتي كانت من موقع السلام مقابل الأرض، مع بقاء المجتمع المصري حتى هذه اللحظة في حالة عداء مع إسرائيل، دون تقبُله القيام بأي مشاريع إسرائيلية في مصر. ولا تزال تُعتبر زيارة أي مصري لإسرائيل مُحرّمة، وكذلك لا يُسمح لأي إسرائيلي أن يتجول في مصر، بل لا تزال مصر تنتج أفلاماً سينمائية ضد إسرائيل.
من هنا تختلف نفسية الشعب المصري وتقبُله للتطبيع عن نفسية الشعب الإماراتي وتقبله للتطبيع، وهذا الأمر سيمنح دول الخليج والإمارات سرعة إنجاز مشاريع امتنعت أو رفضتها مصر في السابق مع إسرائيل.
في ظل المتغيرات المتسارعة سوف تلتزم مصر الصمت والترحيب بالتطبيع في الوقت الحاضر، رغم أن هذه الاتفاقيات سوف تخنقها وتخنق اقتصادها، ولعل أبرز الملفات التي جعلت مصر تلتزم الصمت، ملف ليبيا، وتحالف الإمارات ودعمها المالي والعسكري والأمني، والملف الثاني الأخطر هو مشروع سد النهضة وتهديده اليومي لمصر، بالإضافة إلى الأزمة الاقتصادية المتفاقمة في مصر والتي تهدد عرش الرئاسة، وكذلك تركيا وتهديدها في البحر المتوسط، وملف سيناء.
لذلك ستكون مصر مضطرة في المرحلة القادمة إلى قبول التغييرات الإقليمية المهمة في المنطقة العربية، والخليجية على وجه الخصوص، وستحاول مصر في المرحلة القادمة التدخل في الملف الفلسطيني بشكل أكبر، وستحاول إقناع الولايات المتحدة باستئناف المحادثات الإسرائيلية الفلسطينية عاجلاً، لتحاول أن تتفرد بالملف الفلسطيني والذي يعتبر من الملفات الإقليمية المهمة.
انعكاس التطبيع على مصر:
هناك احتمالان لانعكاس التطبيع على جمهورية مصر، الأول توتر العلاقات بين الدول المُطبعة وجمهورية مصر، نتيجة تقليص الدور المصري في الإقليم، وخنقها اقتصادياً، وهذا الأمر يجعلها تقوم بالتقرب من إيران وتركيا باعتبارهما خصمين لدول الخليج وإسرائيل، والعمل مع تركيا للاستثمار في مصر ومحاولة الاستفادة منها أمنياً وعسكرياً، أو عمل مصر مع إيران لكسب موقفها من خط إيلات عسقلان، والذي نجحت إيران مؤخراً في الحصول على تحكيم أُممي لتعويضها فيه من قبل إسرائيل.. في المقابل ترى كل من إيران وتركيا أن هذه المرحلة فرصة لكسب مصر بموقعها الجغرافي والسياسي والاقتصادي، في ظل تهميشها في بعض الملفات؛ تضاف إلى ذلك أوراق أُخرى يمكن لمصر التأثير فيها، أهمها الملف الفلسطيني والأردني لإحداث تغيرات جوهرية في المنطقة، على الرغم من قيام الإمارات والسعودية بضخ مليارات الدولارات في الأردن حديثاً.
هذا الاحتمال غير وارد في هذه المرحلة بسبب احتياج مصر كما تحدثنا لدول الخليج العربي، وبسبب وجود عشرات الملفات المشتركة بينهما، منها ملف محاربة الإخوان المسلمين، ومواجهة تركيا في البحر المتوسط، وكذلك ملف ليبيا، وملف سد النهضة، والأزمة الاقتصادية المصرية، بالإضافة إلى المساعدات المالية المستمرة من قبل دول الخليج والإمارات لمصر.
أما الاحتمال الثاني وهو المحتمل، بقاء العلاقة في حالة من التحسن بين مصر والدول المُطبعة، وتقاسم الأدوار في المنطقة، ويكون ذلك من خلال توجه مصر للتفرد ببعض الملفات السياسية؛ أبرزها، الملف الفلسطيني، وملف السودان وليبيا والأردن، في المقابل تتفرد الإمارات بالملف الخليجي؛ وكذلك الإيراني والتركي واليمني والسوري، ويتم الاتفاق على تقاسُم جميع الملفات الأخرى بما في ذلك قناة السويس، بحيث يتم استمرار عملها بتقسيم مرور ناقلات النفط بين مصر وبين الدول المُطبعة، بحيث لا تخسر مصر جميع الناقلات التي تمر من خلال قناة السويس، مقابل تشغيل خط إيلات عسقلان وحصوله على نصف ناقلات النفط الذاهبة إلى أوروبا، أو خط السكك الحديدية من إيلات إلى ميناء حيفا مستقبلاً، يضاف إلى ذلك بقاء التعاون الأمني والعسكري بين الدول المُطبعة ومصر، مع استمرار عمل الدول المُطبعة على إبقاء مصر بحاجة دائمة إليها، وإلى مساعداتها، بحيث تصبح مصر دولة تعتمد على الخارج في عملتها الصعبة. ومن الممكن لمصر في هذه المرحلة أن تقوم بتقديم تنازلات كبيرة، تتعلق بتنفيذ خطة بناء مشاريع في سيناء لصالح إسرائيل لتوطين اللاجئين الفلسطينيين فيها، وربط سيناء بقطاع غزة، مقابل كسب ود الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل.