تعتبر باكستان القوّة النووية الأولى والوحيدة في العالم الإسلامي. وبالرغم من محاولات العديد من الدول كالعراق وليبيا ومصر وإيران تطوير قدرات نووية عسكرية خلال العقود الماضية، إلاّ أنّ إسلام أباد لا تزال تحتكر هذه الوضعية منذ نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات من القرن الماضي وحتى اليوم. لقد كان الصراع مع الهند أحد الدوافع المهمّة لشحذ همم الباكستانيين لتطوير قدراتهم العسكرية.
القنبلة النووية الباكستانية
وفي هذا السياق، يُنسب إلى ذو الفقار علي بوتو، رئيس وزراء باكستان الأسبق، قوله "إذا حصلت الهند على قنبلة نووية فسيكون علينا أن نقتات الأعشاب والأوراق ونعاني من الجوع وآلامه إذا لزم الأمر ولكننا سنحصل على قنبلة من صنع أيدينا لأنّه ليس لدينا بديل آخر عن ذلك". وبالفعل، ما أن امتلكت الهند سلاحاً نووياً حتى سارعت باكستان، ثاني أكبر دولة في العالم الإسلامي في عدد السكّان، إلى مضاعفة جهودها العلمية والتقنية واستطاعت في نهاية المطاف امتلاك قنبلة نووية.
لقد حاولت باكستان مساعدة الدول الإسلامية قدر المستطاع حينما كان ذلك بمقدورها وإن تطلّب التفافاً على القيود والضغوط الدولية. الطيارون الباكستانيون شاركوا بالنيابة عن عدد من الدول العربية في محاربة إسرائيل نظراً لافتقار الدول العربية إلى الخبرات والقدرات البشرية والتقنية المطلوبة وسجّل بعضهم أساطير لا تزال خالدة إلى يومنا هذا على رأسهم الطيّار المقاتل سيف الله أعظم (باكستاني بنغالي) والذي يعتبر الطيّار الوحيد في العالم الذي خدم لصالح أربعة جيوش مختلفة.
شارك سيف الله في الحرب العربية-الإسرائيلية في الجيش الأردني والعراقي، حيث أسقط عدداً من المقاتلات الإسرائيلية، وجرى تكريمه في العام 2000 من قبل الولايات المتّحدة كواحد من أفضل 22 طيّارا في العالم على قيد الحياة. توفي سيف الله في حزيران (يونيو) الماضي في وضع يعاني فيه العالم الإسلامي واحدة من أسوأ فتراته. وبالرغم من قوتها، فقد كانت ولا تزال باكستان تعاني من نقاط ضعف قاتلة لعلّ أبرزها قدراتها الاقتصادية، وافتقادها إلى الثروات الطبيعية كالنفط والغاز، ووقوعها في واحدة من أعقد المواقع الجيوسياسية في العالم بين الهند والصين وإيران وأفغانستان.
رفضت الاعتراف بإسرائيل
كانت ولا تزال باكستان واحدة من الدول القليلة جداً في العالم التي لا تعترف بإسرائيل، ونظام الفصل العنصري الذي كان قائماً في جنوب أفريقيا سابقاً. ونظراً لموقفها هذا، فقد حاولت إسرائيل خلال العقود الماضية تطويق إسلام أباد والضغط عليها من خلال تطوير تحالفات مع القوى المحيطة بها، فكان التحالف مع الهند العدو الأوّل لباكستان، وإيران كالكمّاشة، وسرعان ما ازداد هذا الضغط بعد عام 2001 حينما احتلت واشنطن أفغانستان وسمحت للنفوذ الهندي والإيراني بالتغلغل بشكل غير مسبوق هناك، تلاه تخلّي واشنطن عن باكستان وتطوير علاقاتها مع الهند.
لقد أدّت هذه التحوّلات إلى جعل باكستان رهينة لتحالفها مع الصين، وكانت تعتمد إلى حد بعيد على علاقاتها مع دول الخليج العربي لتخفيف وطأة الوضع الاقتصادي من خلال ما ترسله العمالة الباكستانية من أموال إلى العائلات في الوطن الأم، بالإضافة إلى حصول باكستان على قروض وعقود للنفط والغاز. لكن مع صعود محمد بن زايد ومحمد بن سلمان إلى الحكم في الإمارات والسعودية بدأ وضع باكستان يتدهور بشك جدّي. حاول الثنائي توريط باكستان في حرب اليمن، وعندما رفضت ذلك بطريقة دبلوماسية تمّت معاقبتها وابتزازها بمواطنيها الذي يعملون في الخليج.
الإمارات كانت قد أوقفت إصدار التاشيرات للباكستانيين، والسعودية أصرّت مؤخراً على استرجاع قرض بقيمة مليار دولار، ما دفع إسلام أباد للاستنجاد بالصين لإعادة المبلغ إلى السعودية. باختصار
وفي خطوة تالية، حاول الثنائي تخييرها على طريقة "إمّا معنا أو ضدنا" في الأزمة الخليجية المفتعلة ضد قطر. تمّ إغراؤها بعشرات المليارات من الدولارات على شكل منح وقروض مسيرّة واستثمارات مع إشارات واضحة إلى نيّة أبوظبي والرياض تطوير العلاقات مع الهند. وبالفعل، حصلت زيارات متبادلة رفيعة المستوى بين مسؤولين هنود ومسؤولي الإمارات والسعودية، وجرى الحديث عن تعاون أعمق مع الهند، لدرجة أن أبوظبي رفضت طلب باكستان الامتناع عن استقبال رئيس الوزراء الهندي في آب (أغسطس) 2019، نظراً لعمليات القمع والقتل التي شنتها القوات الهندية ضد الكشميريين، وقامت بالمقابل بمنحه أعلى وسام في الدولة وبالتصريح بأنّ كشمير شأن داخلي هندي!
وبالرغم من استجابة باكستان لضغوط الإمارات والسعودية، فلم تر إسلام أباد إلاّ جزءًا يسيراً من الأرقام التي وُعِدت بها، وما أن تمّ ربطها حتى بدأت المرحلة الثالثة من الابتزاز. تمّ الضغط على رئيس الوزراء الباكستاني بطريقة مذلّة ومهينة لكي لا يجتمع مع قادة تركيا وقطر وماليزيا وإندونيسيا في القمّة التي جمعتهم في كانون الأول (ديسمبر) من العام الماضي. وبالرغم من اعتذاره عن المشاركة، كان لدى الحكومة الباكستانية طلب بسيط وهو قيام السعودية بإثارة ملف كشمير في منظمة التعاون الإسلامي، لكن الرياض رفضت ذلك مراراً وتكراراً.
حروب بالوكالة ضد باكستان
في المرحلة الحالية، يجري الضغط على باكستان من قبل الثنائي الخليجي لكي تعترف بإسرائيل وتطبّع العلاقة معها. الرياض تريد من إسلام أباد أن تطبّع العلاقة مع إسرائيل كي يفتح لها ذلك المجال لاتخاذ المزيد من الخطوات العلنية على اعتبار أنّه إذا كانت أكبر الدول الإسلامية قد طبّعت فستصبح قدرة ابن سلمان على تبرير تطبيع السعودية مع إسرائيل أسهل مستقبلاً. أمّا الإمارات فهي تعمل على تقويض الدول الإسلامية الواحدة تلو الأخرى، وبعد أن نجحت في سلخ السعودية ومصر عن عمقهما العربي والإسلامي،فهي تحارب بالوكالة الدور التركي في المنطقة بكل ما أوتيت من قوّة، وتقوّض في نفس الوقت من دور باكستان.
هناك ضغوط الآن على باكستان للاعتراف بإسرائيل، ويتم ابتزازها بأبشع الطرق. رئيس الوزراء خان كان قد قال بأنّه أيّاً كان الموقف الذي ستتخذه الدول الأخرى، فلا يمكننا أبدا الاعتراف بإسرائيل ما لم يحصل الفلسطينيون على حقوقهم. أمّا وزير الخارجية محمود قرشي فقد صرّح بأنّه أوضح للجانب الإماراتي أنّ باكستان لا تستطيع إقامة علاقة مع إسرائيل حتى يتم التوصل إلى حل ملموس للقضيّة الفلسطينية.
الإمارات كانت قد أوقفت إصدار التاشيرات للباكستانيين، والسعودية أصرّت مؤخراً على استرجاع قرض بقيمة مليار دولار، ما دفع إسلام أباد للاستنجاد بالصين لإعادة المبلغ إلى السعودية. باختصار، لقد قوّضت هذه الحركة من وضع باكستان على رقعة الشطرنج الإقليمية ليس أمام الهند وإيران فقط، بل حتى أمام حليفتها الصين التي باتت هي الأخرى تمتلك أداة ضغط مستقبلي على باكستان يمنعها حتى من إصدار موقف تجاه المسلمين الإيغور، ويدفعها بشكل أكبر باتجاه مستنقع التطبيع.
المصالحة الخليجية.. والاستعادة النسبية للعقل
هل من الحكمة هزيمة الأغلبية في اليمن؟