تملك الولايات المتحدة أضخم آلة للدعاية الناعمة عرفها التاريخ المدون، كترياق مضاد للدعاية الخشنة والمستحقة التي تجلبها لها البلطجة العسكرية في مختلف القارات، ويتعرض بنو البشر في كل القارات لسيل يومي من الدعاية الأمريكية الذكية، التي تجعل الولايات المتحدة في نظر كثير من الناس أرض الميعاد والأحلام الزاهية، فمن الصعب مقاومة سحر هوليوود ومدائن ديزني وأنجلينا جولي وتوم كروز ومايكل جاكسون، وهناك طائرات بوينغ وسيارات كاديلاك وغوغل وسيليكون فالي قلب الإنترنت النابض، ومقر الأمم المتحدة في نيويورك، وكذا بليون شخص يسبحون يوميا في بحار واتساب وفيسبوك ويوتيوب وإنستغرام التي توجد غرف التحكم فيها في الأراضي الأمريكية.
ثم كان ما كان من أمر اجتياح عشرات الآلاف من البيض الأمريكان مباني البرلمان الأمريكي (الكونغرس) في السادس من كانون الثاني (يناير) الجاري لمنع النواب من اعتماد فوز جو بايدن بالرئاسة، مما عنى ضمنا إشهار سقوط الرئيس الحالي دونالد ترامب في الانتخابات الأخيرة؛ وكان مشهدا مهيبا سقطت فيه ورقة التوت الرفيعة كاشفة سوأة أمريكا، عندما هجمت جموعهم على المبنى واقتحمته، وتصدى لهم شرطي واحد من بين المئات الذين كانوا يحرسون المبنى وكان جزاؤه الموت، واضطرت السلطات الأمنية إلى تهريب النواب عبر شبكة أنفاق إلى غرف ضيقة مكثوا فيها لأربع ساعات، وهم يرتعدون خوف التعرض للفتك من قِبل أولئك الأوباش.
وبعدها جاء دور الآلة الإعلامية، وانبرى صحفيون وقادة سياسيون للتبرؤ من تلك الأحداث، بزعم أنها غريبة على المجتمع الأمريكي، وأنه "لا يليق بمواطني الدولة التي تبشر بالديمقراطية وتشجع الممارسة الديمقراطية في كل القارات"، أن ينقلبوا على الديمقراطية برفض النتائج التي أسفرت عن ممارسة ديمقراطية؛ ولكن أصواتا خافتة ذكرت تلك الفئة من الصحفيين بالقسوة التي تبديها الشرطة الأمريكية، كلما سير السود موكبا ليحتجوا على استهدافهم على نحو منهجي، وقالت إنه لو كان مقتحمو الكونغرس من السود لجرت الدماء أنهارا.
ولم يكن غائبا إلا على شخص يعاني من إعاقة إدراكية، أن دونالد ترامب لم يكن يصلح حتى لإدارة ناد لكرة السلة به عشرون لاعبا معتمدين من الرابطة التي تدير شؤون تلك اللعبة، ومع هذا فاز بولاية رئاسية، لم يمر يوم واحد خلالها دون ان يثبت ترامب أنه جاهل ومغرور ونرجسي وعنصري وطائش ويندفع في كل اتجاه بلا روية أو كوابح، ومع هذا نال 74 مليون صوتا في الانتخابات الأخيرة، وإن لم تكن كافية لاستمراره في كرسي الحكم، مما يعني ان هناك عشرات الملايين من الأمريكان يعانون من عمى البصيرة، ولم ينتبهوا لاختلال عقل ترامب ونزقه، أو ـ وهو الأرجح ـ يعرفون مواطن العلة فيه ومع هذا يريدونه رئيسا لولاية أخرى لأنهم يشاركونه كل تلك الخصال المرذولة لدى الأسوياء.
الولايات المتحدة نتاج حمل غير شرعي، وولدت بعمليات قيصرية متعاقبة استنزفت دماء سكانها الأصليين، ثم جيء بعبيد من إفريقيا سامهم أسيادهم سوء العذاب، وطوال قرنين من الزمان ظل البيض الذين وفدوا من أوروبا إلى الأراضي التي صارت تعرف بـ"الأمريكية" يقاتلون بعضهم البعض بالحديد والنار
ولم يكن الاقتحام الدموي لمبنى الكونغرس عفويا، بل جرى التخطيط له استجابة لمناشدات بذلك من ترامب وبعض هيئة أركان حكمه، ومن بينهم نواب في الكونغرس ظل بعضهم يبرر الاقتحام حتى بعدما ارتعدت له فرائص ممثلي حزب ترامب (الجمهوري) في الكونغرس، بعد أن أدركوا في تلك اللحظات الحرجة أن ديماغوجيتهم وتهريجهم السياسي بإنكار نزاهة الانتخابات التي أسفرت عن سقوط ترامب، أعطى غوغاء الحزب الضوء الأخضر كي يمارسوا العنف الأهوج.
الولايات المتحدة نتاج حمل غير شرعي، وولدت بعمليات قيصرية متعاقبة استنزفت دماء سكانها الأصليين، ثم جيء بعبيد من أفريقيا سامهم أسيادهم سوء العذاب، وطوال قرنين من الزمان ظل البيض الذين وفدوا من أوروبا إلى الأراضي التي صارت تعرف بـ"الأمريكية" يقاتلون بعضهم البعض بالحديد والنار للفوز بمناجم الذهب أو الأراضي الزراعية، بل إنه وفور إعلان استقلال الولايات المتحدة انفجرت حرب أهلية بين شمال وجنوب البلاد هلك فيها عشرات الآلاف.
والشاهد: العنف الدموي أمر أصيل في الوجدان والمزاج الأمريكي، ورغم كل الجعجعة عن "الإنجاز الباهر" للآباء المؤسسين الذين صاغوا ما يصفه الأمريكان بالدستور الأكثر رقيا في العالم، فإن عددا من الرؤساء الأمريكان المنتخبين ديمقراطيا قتلوا على أيدي من لم يكونوا راضين عما أسفرت عنه الانتخابات التي أكدت فوزهم، وهكذا اغتيل أبراهام لنكولن (اللام الثانية في الاسم تكتب ولا تُنطق) وجيمس غارفيلد، ووليام ماكينلي، وجون كينيدي، ونجا من الموت بعد التعرض للرصاص غيلة كل من ثيودور روزفلت، ورونالد ريغان.
وفي تشرين أول (أكتوبر) الماضي انكشف مخطط لبعض أنصار ترامب لاختطاف واغتيال حاكمة ولاية ميتشيغان غريتشن ويتمير، لأنها تطاولت على مقام ترامب وظلت تؤكد أن فيروس الكورونا خطر داهم على البلاد، في الوقت الذي كان فيه ترامب يستخف بالفيروس ويعتبر التهويل من أمره مؤامرة ضلعت فيها عناصر محلية وأجنبية لمنح معارضيه ذخيرة يرمونه بها.
والشاهد مرة أخرى هو أن اقتحام مبنى الكونغرس لاختطاف وإجهاض انتخابات أسفرت عن فوز بايدن وسقوط ترامب أمر ليس بالمستغرب أو الغريب على السلوك الأمريكي العام، في بلد يعتبر فيه حيازة سلاح ناري سريع الطلقات حرية شخصية.