لم يعاصر المؤرخ الفلسطيني الراحل محمد روحي الخالدي، وعد بلفور ولا عام النكبة واحتلال فلسطين، لكنه كان شاهد عيان على مراحل الإعداد لاحتلال فلسطين، من خلال مشاريع الهجرة الصهيونية إلى فلسطين، لذلك كتب عنها وحذر منها، ودعا إلى رؤية عربية وإسلامية مشتركة لمواجهتها، وخلف إرثا فكريا هو جزء من تشكل الوعي العربي والإسلامي بفلسطين.
كان الكاتب والمؤرخ الفلسطيني الراحل محمد روحي الخالدي واسع الثقافة في مجالات كثيرة، نظراً لأنه أجاد لغات عدة؛ ومن بينها التركية والعبرية والفرنسية، الأمر الذي كان مقدمة حقيقية أيضاً للاطلاع على السياسات الدولية وإدراك مطامع وخفايا الحركة الصهيونية؛ ولهذا يعتبرمن أوائل الذين نبهوا إلى أخطارها ومطامعها في فلسطين.
وتعتبر مخطوطته غير المنتهية (المسألة الصهيونية)، والتي أنجزها الراحل قبل وفاته سنة 1913، والمحفوظة بين أوراقه الشخصية وكتبه في أرشيف المكتبة الخالدية في مدينة القدس، تعتبر من أهم المخطوطات على الإطلاق، نظراً لتلمسه مبكراً للمخاطر الصهيونية والمؤامرات التي تحاك لاحتلال فلسطين وسبل المواجهة.
المخطوطة والكتاب
ولد الكاتب والمؤرخ الفلسطيني الراحل محمد روحي الخالدي في القدس عام 1864 م وترعرع في جنبات الوطن الفلسطيني المختلفة، وتوفي في الأستانة عام 1913، له كتب في السياسة والأدب والتاريخ من بينها "رحلة إلى الأندلس" و "المقدمة في المسألة الشرقية"، لكن الأهم كانت مخطوطته حول الصهيونية ومخاطرها قبل مائة وثمانية أعوام خلت، والتي تمّ نشرها بكتاب في بداية العام الحالي 2021، بعنوان "السيونيزم أي المسألة الصهيونية" صادر عن مؤسسة الدراسات والمكتبة الخالدية، حيث قدمّ له وقام أيضاً بالتحقيق والتدقيق في المخطوطة وجمعها وضبط نسخها، المؤرخ الفلسطيني الدكتور وليد أحمد سامح الخالدي. ويعتبر الكتاب الإصدار الثالث ضمن "سلسلة منشورات المكتبة الخالدية" التي تصدر عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية والمكتبة الخالدية في آن.
وفي تقديمه للكتاب، أشار الدكتور وليد الخالدي، إلى أن تحليل الراحل محمد روحي الخالدي عكس نظرة رجل دولة عربي، يعتدّ بعروبته وعثمانيته وولائه للخلافة الإسلامية، وفي تلمسه لمطامح الحركة الصهيونية قبيل اندلاع الحرب العالمية الأولى. وقد أدرك محمد روحي الخالدي مدى وأهداف النشاط الصهيوني في فلسطين وتنوعه، بل كان أول من قام برصده منهجياً، وأدرك كذلك مدى فساد الأجهزة التنفيذية المحلية وتواطئها مع سماسرة الحركة الصهيونية في التحايل على سياسة الدولة المعلنة للحد من الهجرة اليهودية والسيطرة المتدرجة على أراضي الفلسطينيين، وانتقال الأرض العربية إلى أيديهم، وعزم على فضح هذا كله.
ومع إدراك الخالدي هذه السلبيات، رأى في استعادة الدستور العثماني سنة 1908 بداية عهد عثماني جديد، قادر على التصدي لهذه التحديات. كما اعتبر استقبال الولايات المتحدة للملايين من يهود روسيا القيصرية، وإيثارهم الجماعي للهجرة إليها على هجرتهم إلى فلسطين، المؤشر الأكبر إلى إمكان حصر الصهيونية في فلسطين ضمن حدود تحول دون استطراد تقدمها. وبهذا اعتبر المؤرخ الراحل محمد روحي الخالدي من أوائل من تلمسوا المخططات الصهيونية ـ الغربية للتسلل إلى فلسطين عبر دعم الهجرة اليهودية إليها من بقاع الأرض ومن ثم العمل الديبلوماسي للحصول على موافقة الدول الغربية وخاصة بريطانيا لجعل فكرة إنشاء دولة صهيونية في فلسطين وعلى حساب شعبها أمرا مقبولا.
مواجهة الهجرة اليهودية إلى فلسطين
نشأ محمد روحي الخالدي وترعرع في حارة باب السلسلة في القدس القديمة، جوار الحرم الشريف وحائط البراق مسقط رأسه، وفي المسجد الأقصى حضر حلقات التدريس وتابع دراساته العليا في "المكتب السلطاني" في إسطنبول، ثم في جامعة السوربون في باريس، قبل أن يُعيّن سنة 1900 قنصلاً عاماً للدولة العثمانية في مدينة بوردو في فرنسا. وفي سنة 1908 انتُخب الخالدي نائباً عن القدس في البرلمان العثماني الذي انتخبه، بدروه، سنة 1912 نائباً لرئيسه.
نشر الراحل محمد روحي الخالدي أبحاثاً مهمة في السياسة الدولية والأوضاع الإسلامية والأدب المقارن، أهلته لاعتباره رائد البحث التاريخي الحديث في فلسطين. وقد تأثر محمد روحي الخالدي أيضاً بجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وغيرهما من رجالات الفكر التنويري العربي في عصره، ودعاة إصلاح المجتمع وتجديد الفكر والانفتاح على الثقافة الانسانية؛ وكان قد اتصل الراحل الخالدي برضا الصلح في بيروت وشكري العسلي في دمشق لمواجهة أطماع واهداف الحركة الصهيونية في فلسطين التي اكتشفها باكراً، ودعا إلى إنشاء وتأسيس عمل عربي مشترك لمواجهة "الهجرة اليهودية" إلى فلسطين، التي تعتبر نقطة ارتكاز ديموغرافية وقوة بشرية للحركة الصهيونية ومشروعها لإقامة الوطن الصهيوني المنشود على حساب وطن الشعب الفلسطيني الوحيد فلسطين.
ويمكن الجزم بأن الراحل المؤرخ والكاتب محمد روحي الخالدي تلمس بشكل مبكر أخطار الحركة الصهيونية وتناقضها وعروبة فلسطين التي كانت تعتبر جزءاً من بلاد الشام. ومن أهم نتاجاته البحثية:
- رسالة في "سرعة انتشار الدين المحمدي". طرابلس: مطبعة جريدة طرابلس الشام.
- "المقدمة في المسألة الشرقية". القدس: مطبعة مدرسة الأيتام الإسلامية.
- "تاريخ الأدب عند الإفرنج والعرب". القاهرة: مطبعة مجلة "الهلال"، 1912.
- "الكيمياء عند العرب". القاهرة: دار المعارف، 1953.
فضلاً عن ثلاث مخطوطات هي: "رحلة إلى الأندلس"، و"علم الألسنة أو مقابلة اللغات"، و"السيونزم أو المسألة الصهيونية" وقد نشرت وأصدرت في كتاب عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية في بيروت والمكتبة الخالدية في القدس في بداية العام الجاري 2021 .
*كاتب فلسطيني مقيم في هولندا
كيف دخل عصفور دائرة الصراع العربي-الإسرائيلي؟!
سيرة العلامة اللغوي الغزي أبو المعالي أحمد بسيسو (1825- 1911)
أكاديمي تونسي: الصدام الناصري ـ البورقيبي منطلق وعينا بفلسطين