تبدو المعركة بين الإسلاميين وخصومهم في المنطقة العربية معركة أبدية. قد تتوقف أحيانا، وينشغل أحدهما عن الآخر، لكن سرعان ما يعود الاشتباك بينهما لسبب أو لآخر. وعندما يحصل ذلك يعود الطرفان إلى نقطة الصفر، دون مراعاة تطور الأزمان واختلاف المكان. يعيد كلاهما إنتاج منظوماتهم السابقة من خلال العودة إلى تاريخ الإخوان ومعاركهم السابقة والراهنة، أو تاريخ
اليسار والأحزاب "العلمانية" وغيرها، ويرفعون الشعارات نفسها، ويتبادلون ذات الاتهامات بالعمالة والرجعية والظلامية، وغير ذلك من مفردات القاموس الأيديولوجي المشحون.
هناك قوم لم يحسنوا حتى الآن إدارة المعركة مع الإسلاميين، سواء على الصعيد السياسي أو الفكري؛ فهم يسقطون بسرعة في مستنقع التضخيم والكذب والتشنيع، ولم يدركوا حتى الآن أن مثل هذه الأساليب تؤدي إلى نتيجة معاكسة لما يريدون الوصل إليه، فهم بدل أن يضعفوا الإسلاميين يعمدون إلى تقويتهم، ويعطونهم فرصة للرد على هذه الاتهامات الباطلة أو الفاقدة لسند قوي ومقنع. أحيانا يختلقون قصصا لا يصدقها العقل ولا يستسيغها الذوق، ظنا منهم بأن الشعار الذي رفعه وزير دعاية أدولف هتلر سلاح ناجع، عندما قال: "اكذب اكذب حتى يصدقك الناس". قد يصدقوك مرة أو مرات قليلة، لكنهم في النهاية يكتشفون الخدعة، ويتعاطفون مع الضحية.
هناك قوم لم يحسنوا حتى الآن إدارة المعركة مع الإسلاميين، سواء على الصعيد السياسي أو الفكري. فهم يسقطون بسرعة في مستنقع التضخيم والكذب والتشنيع، ولم يدركوا حتى الآن أن مثل هذه الأساليب تؤدي إلى نتيجة معاكسة لما يريدون الوصل إليه.
في مقال نشر بصحيفة "الأنوار"
التونسية،
ادعى كاتبه أن ثروة راشد الغنوشي السرية تبلغ 2700 مليار دينار، أي في حدود مليار دولار، وهو مبلغ لا يملكه البنك المركزي التونسي حسب الأرقام المنشورة والمتعلقة بحجم العملات الصعبة. وأن مصادر هذه الثروة التي على ذمة الغنوشي تتمثل أساسا في تجارة السلاح والمخدرات. كل ذلك بسبب كون رئيس حركة
النهضة يشكل خصما سياسيا، ومن ثم يجب تحويله إلى رئيس عصابة، ويحق القول فيه مثلما قال مالك في الخمرة، أي يجوز العمل على تدميره أخلاقيا وسياسيا، وإن لزم الأمر، التخطيط لتصفيته جسديا.
لم يدرك هؤلاء أن سياسة القصف المتواصل للخصوم سياسة عقيمة، لا ينجر عنها سوى الانتقال من المنافسة السياسية إلى تنمية الحقد، وترويج خطاب الكراهية، قبل الوصول إلى رفع السلاح وإشعال الحروب الأهلية.
صحيح أن حركة النهضة غنية مقارنة بأحزاب أخرى عديدة، فعمرها الآن يتجاوز نصف قرن، وأعضاؤها يتجاوزون المائة ألف على الأقل، وقد يصبح الموضوع المالي محل جدل داخل الحركة في يوم من الأيام، لكن الانطلاق من هذه المسألة لتغذية الإشاعات،
وترويج الأكاذيب، والقدح في سلوك الآخرين وفي ذمتهم، أمر لا يجوز في عالمي السياسة والأخلاق. فالذين يتاجرون بالمخدرات أو السلاح معروفون في العالم، قد يختفون عن الأنظار فترة، لكن سرعان ما تكتشفهم أجهزة المخابرات المتعددة الجنسيات.
للغنوشي أخطاء كبرى وفادحة، ومن يبحث يجد الكثير مما خفي أو ظهر، لكنه بقي سياسيا يناور في حدود معقولة، ولم يصبح منافسا لعصابات المافيا.
للغنوشي أخطاء كبرى وفادحة، ومن يبحث يجد الكثير مما خفي أو ظهر، لكنه بقي سياسيا يناور في حدود معقولة، ولم يصبح منافسا لعصابات المافيا. وقد سبق لنظام ابن علي وأجهزته الأمنية البحث والنبش وراء قيادة النهضة وكوادرها، ولم تعثر على أدلة مقنعة. لهذا؛ ركز النظام السابق على اتهام الحركة بكونها "إرهابية"، وذلك للضغط على المخابرات الأوروبية والأمريكية من أجل إقناعها بضرورة تسليم الغنوشي وأنصاره، لكن تلك الجهود لم تثمر بسبب غياب الدليل.
يجب أن يرتقي الصراع مع الإسلاميين إلى مستوى صراع الأفكار والبدائل، حتى تكون الحصيلة ثرية وعميقة، وتحقق إضافة نوعية للفكر السياسي والديني. حجة مقابل حجة، ورأي مقابل رأي، عندها يتجدد الخطاب، وتتعدد الزوايا، وتتحسن معدلات الذكاء العام، ويخرج السياسيون من غرفهم المظلمة وحساباتهم الصغيرة، وتتحرر الشعوب من الغوغاء ومربي الثعابين ومخططات اللوبيات الخبيثة.
اللجوء إلى وسائل أخرى غير شرعية وليست نظيفة سيكون مجرد تحايل، مما يؤدي إلى قيادة حرب باطلة، من شأنها أن تفسد عملية الانتقال السياسي، وتفتح الباب أمام حكم المتغلب.
بما أن المعركة ضد الإسلاميين لن تتوقف في تونس أو في غيرها من البلدان، فالمطلوب في هذا السياق مراجعة الأولويات ومحاور الجدل معهم. ليس في قدرة حركة النهضة الآن السيطرة على الدولة، واحتكار الحكم، وفرض إرادتهم على الجميع. ميزان القوى لا يسمح بذلك، وقواعد اللعبة التي وضعت بعد الثورة تجعل أيديهم مقيدة. كل ما يقدرون عليه هو البقاء داخل المشهد السياسي، ومقاومة كل دعوة تهدف إلى إقصائهم وحرمانهم من حقوقهم السياسية، ومن ضمنها الحق في المشاركة في السلطة حسب الأحجام التي تفرزها أجسامهم الانتخابية، وهو مطلب مشروع في كل الأنظمة الديمقراطية.
من يريد تحجيم دورهم، عليه أن يستعد لكي يقنع التونسيين بعدم التصويت للمرشحين الإسلاميين. أي طريق آخر لن يكون مفيدا ولا شرعيا، وتغيير موازين القوى يمر حتما عبر صناديق الاقتراع التي تترجم عن إرادة الشعب، وتحدد رغبة الأغلبية. اللجوء إلى وسائل أخرى غير شرعية وليست نظيفة سيكون مجرد تحايل، مما يؤدي إلى قيادة حرب باطلة من شأنها أن تفسد عملية الانتقال السياسي، وتفتح الباب أمام حكم المتغلب. ليس هذا دفاعا عن الإسلاميين، إنما دفاع عن الديمقراطية.