أغلب مسؤولي الدولة الأردنية، هذا الزمن، من خريجي الجامعات الغربية، لكنهم حين يتولون المسؤولية، ينسون كل ما تعلموه، ويطبقون وصفات غريبة جداً في هذه البلاد.
لم أسمع عن بلد غربي واحد، يقوم أي مسؤول فيه، بتوزيع قسائم مواد غذائية بقيمة خمسة وثلاثين دينارا، أو دولارا، أو جنيها إسترلينيا، على نواب بلاده، من أجل توزيعها على بعض الفقراء والمساكين والمؤلفة قلوبهم في دائرته الانتخابية، بذريعة التكافل الاجتماعي.
تخيلوا لو قام رئيس الحكومة البريطانية بتوزيع هذه القسائم على نواب البرلمان البريطاني، ووقف النواب مصفقين شاكرين في Westminster، على هذه اللفتة الحكومية.
قد تسمع مثلا في الولايات المتحدة عن قسائم للمشردين، في حالات محددة، لكن الأصل، هو تحسين مخصصات الدعم الاجتماعي، نقداً ومباشرة، عبر رفع مخصصات هؤلاء، لا توزيع قسائم، وإثارة الشقاق والخلاف بين النواب وناخبيهم، حين يختار كل نائب، مَن يحبّ مِن جماعته للحصول على منحة الخمسة وثلاثين دينارا، والتي يستبدلها بمواد غذائية.
لا تعرف ما هي هذه اللعنة التي تحل على خريجي الجامعات الغربية، حين يصبحون في المسؤولية، إذ إن أغلبهم يتعلم بطريقة، ويتأثر بطريقة، لكنه في هذه البلاد يصبح متحولا سياسيا، فإذا انتقدته ألقى بك في السجن، مثلا، وكأنه يكتشف أننا كشعب لا نستحق أن نعيش بالمثل العليا التي وجدها في تلك الأمم التي عاش بينها، بل إن أكثر المسؤولين عرفية في تاريخ الدولة الأردنية، تعلموا أساسا في أكثر الدول حرية، لكنهم هنا درسوا الفروق بين طريقتين، وربما اكتشفوا سرا أنه لا يصلح معنا الأخذ والعطاء ويليق بنا التشدد والتجبر.
كيف يصح هذا الأمر، أن يتحول الشعب إلى مجاميع بشرية متناثرة تتنافس على طرود الخير الرسمية، وعلى منح الغذاء، وعلى صناديق الزكاة، والجمعيات الخيرية، ونسب الفقر الحقيقية أعلى من تلك المعلنة، والإنسان في هذا البلاد، تعرض إلى إعادة هندسة اجتماعية، فالذي كان يرفض طرد المؤونة، صار يبحث عن واسطة حتى يحصل على الطرد، والإنسان الذي كانت عزة نفسه، تمنعه من الوقوف في طابور جمعية خيرية، لأجل عشرة دنانير، صار يقبل، لأن ظروف حياته باتت مستحيلة وشاقة جدا.
أحسن أيام الأردن، تلك التي كانت فيها هوية المسؤولين فيها قومية محافظة متشددة يمينية من الأساس، وأغلبهم تخرجوا من جامعات الأردن أو القاهرة أو بغداد أو دمشق، وهؤلاء كانوا أقرب إلى الناس، يدركون بحق أن هذه حلول لا تليق بشعبهم، بل إن زمنهم، كان أكثر بركة، وحلولهم أكثر منطقية، حلول تعالج المشاكل من جذرها وأساسها، ولم نكن نسمع عن قسائم الغذاء، ولا طوابير الجمعيات الخيرية، ولا طرود المؤن.
ربما المقارنة هنا غير عادلة وجائرة، وكأننا نقول إن خريجي الغرب، لا يصلحون في الشرق، وهذا ليس القصد تماما، بل إن القصد، هو المقارنة بين زمنين، الزمن الأول كان فيه غالبية المسؤولين من خريجي المشرق العربي وجامعات أنظمته الشمولية القمعية، والحزمة التي ينتمون إليها فكريا واجتماعيا، كانت تجبرهم أخلاقيا على حلول تحترم البنية الاجتماعية، وطبيعتها، فيما الزمن الثاني، يتسم فيها بعض المسؤولين بضعف الاتصال بالشارع، بل واتهام المواطن انه متطلب، كثير الشكوى، كسول، لا يريد ان يعمل، وانه لا حلول متوفرة سوى تلك الاطفائية، طرد غذائي من هنا، وعشرة دنانير زكاة من هناك.
أليس عيبا في العام 2021 ونحن نحتفل ببدء المئوية الثانية، أن نكرس هذه الأنماط المؤذية من شيكات النواب سابقا، إلى طرود الغذاء، وقسائم المؤونة، فوق ما نعرفه من قصص طوابير الجمعيات الغذائية، والبحث عن حبة دواء، فيما كان الأصل إصلاح كل النظام الاقتصادي والاجتماعي والصحي، وبحيث نحفظ كرامة الناس، ونمنحهم حقوقهم، بطرق محترمة، بدلا من هذه الإساءات التي جعلتنا عبرة لمن لا يعتبر في شرق المتوسط.
كل هذه الهندسة الاجتماعية الجديدة لا تتم على يد المحافظين المتشددين من خريجي الأردن، أو جامعات البعث في سورية والعراق، أو جامعات مصر الناصرية وما بعدها، بل على يد خريجي الغرب، بما يعنيه من تأصيل لحقوق الإنسان، ومنحه حقوقه، بدلا من التصدق عليه.
أصلحوا أنظمتنا الاقتصادية والاجتماعية، بدلا من التصدق علينا في العام 2021.
انقلاب في الأردن أم في أمريكا؟
الأردن بين الأساطير الانقلابية والحقائق الثورية