كتاب عربي 21

الناصري إذا تاب..!

1300x600
يتوب الناصري عن المعارضة، فيصبح سلطوياً، يجهر بالمعصية، ويردد خطاب النظام، ويرمي من استمروا في خندق المعارضة بذات الاتهامات التي وجهتها السلطة له قبل أن يلتحق بها!

فمن خصائص الكائن الناصري أنه سلطوي بالفطرة، ولأنه لا يتصور نفسه بعيداً عن دائرتها ولو على الهامش، فإن معارضته لا تقوم على مبادئ، وإن بدت كذلك، فمردها أنه لم تُتح له الفرصة لتحقيق رغباته المكبوتة! ولعل هذا كان أزمة نظام مبارك، لأنه وإن كان قد استوعب في البداية أعداداً غفيرة من اليسار بشكل عام، (كانت معارضة للسادات لأن حكمه حرمها من الميراث الناصري من السلطة)، فإنه لما طال عليه الأمد، جاء جيل جديد لم يستوعبه النظام، فانطلق بعيداً، ومع المعاداة المتبادلة، اتسعت الهوة، وتفرقت السبل، فصار "الناصري" هو الأكثر ازعاجاً للنظام، والأعلى صوتاً.. عبد الحليم قنديل نموذجا!
وعند المقارنة بين مبارك وعبد الفتاح السيسي، فإنه وبالثوابت الناصرية نفسها، فإن مبارك يكسب في هذا السباق، وفي كل الميادين، فالرئيس المخلوع لم يفرط في التراب الوطني، ولم يفرط في مياه النيل

وعند المقارنة بين مبارك وعبد الفتاح السيسي، فإنه وبالثوابت الناصرية نفسها، فإن مبارك يكسب في هذا السباق، وفي كل الميادين، فالرئيس المخلوع لم يفرط في التراب الوطني، ولم يفرط في مياه النيل. والسيسي هو الأكثر تبعية للغرب وللهيئات الدولية ممثلة في صندوق النقد الدولي، والأكثر اغراقا لمصر في مستنقع الديون. ثم إن مبارك وإن كان كنز إسرائيل الاستراتيجي، فلم تكن علاقته بـ"العدو الإسرائيلي"، في قوة علاقة السيسي بها، الذي رأى أن مهامه الوظيفة تتلخص في حماية أمن المواطن الإسرائيلي.

لاحظ أننا هنا لم نستدع معيار الديمقراطية عند المقارنة، لأن الناصرية بطبيعتها تقوم على الاستبداد، وحكم الرجل الواحد، تماماً كما لا يجوز لناصري أن يرفض حكم العسكر. فعبد الناصر نفسه ضابط في الجيش، وثورة يوليو 1952 ليست أكثر من انقلاب عسكري، حملت منذ البداية اسم "الانقلاب" بدون خجل أو وجل، قبل أن تصبح "الحركة المباركة"، وتطور الحال فصار اسمها ثورة!

وعندما يكون السيسي هو النسخة الأكثر رداءة من مبارك وفي كل شيء، ثم يتحول عبد الحليم قنديل وغيره من الناصريين إلى مؤيدين له، فإن الأمر مرده إلى أن الرغبات المكبوتة تحققت ولو في حدها الأدنى.
عندما يكون السيسي هو النسخة الأكثر رداءة من مبارك وفي كل شيء، ثم يتحول عبد الحليم قنديل وغيره من الناصريين إلى مؤيدين له، فإن الأمر مرده إلى أن الرغبات المكبوتة تحققت ولو في حدها الأدنى

فقنديل، هو الأقل حظاً من غيره من الذين وقفوا على أبواب السلطة، وكما استخدم مهاراته اللغوية في معارضة مبارك، فقد استخدمها في تأييد السيسي. لكن السلطة الجديدة لم تختره عضواً في أي هيئة من هيئاتها، فلم تمنحه عضوية البرلمان بغرفتيه، تعييناً أو انتخاباً هو والتعيين سواء، ولم يعين عضواً في أي هيئة من الهيئات الإعلامية، ولم يعين - كذلك - رئيساً لتحرير أي صحيفة من الصحف التي وضع العهد الجديد يدها عليها، بل إنه دخل السجن في عهد السيسي ولم يدخله في عهد مبارك، صحيح أن عفواً رئاسياً شمله دون غيره من المتهمين في نفس القضية، التي بدأت وقائعها قبل الانقلاب، لكن في النهاية سجن، ثم إن غيره كانوا الأكثر كرامة لأنهم وإن بقوا بضعة شهور بعده في السجن، فقد خرجوا بحكم قضائي قضى ببراءتهم!

وقد خرج من سجنه ليجد صحيفة "صوت الأمة" التي كان يرأسها تحريرها بيعت للسلطة الحاكمة، وقد خسر بهذا البيع منصبه، رغم أنه لم يقصر في التأييد وفي التواصل مع السلطة، بل إنه كان قد سخرها للنيل من الفريق أحمد شفيق، في الفترة التي كان يمثل له بديلاً، ولم يعد سراً أن هذا الهجوم كان يتم بتنسيق يعلمه كل محرري الجريدة!

ولم يخرج "قنديل" من هذا المولد إلا ببرنامج تليفزيوني يذاع يومياً على احدى القنوات يحلل فيه الأحداث، بئس الثمن، لكن في النهاية فقد أشبع العهد الجديد رغبته كناصري لا يجد مكانه إلا في دائرتها، ولو بعيداً عن بؤرتها، وهو الذي تتم دعوته في لقاءات السيسي التي كان يعقدها قبل كورونا، ثم إنه كان على رأس وفد التقاه لتأييده عندما أعلن ترشحه للرئاسة في المرة الأولى.

وهناك صورة تحتاج إلى قراءتها؛ من لقاء جمع أعضاء المجلس الأعلى للصحافة وقيادات نقابة الصحفيين وعدد من الصحفيين، وكان في الصورة- الفيديو يزاحم من أجل أن يقف بجوار السيسي، مع أنه ليس رئيساً للمجلس أو نقيباً للصحفيين، وهي صورة كافية لقراءة الحالة النفسية لـ"ناصري" يرضيه من السلطة ولو مجرد صورة في الجوار!

عماد حسين ومعارضة الخارج:

النموذج الثاني، تمثله حالة "عماد الدين حسين"، رئيس تحرير جريدة "الشروق"، وهو "ناصري"، وإن كان أوفر حظاً من عبد الحليم قنديل، ربما لأنه لم يعرف عنه خطاباً معارضاً لمبارك، كقنديل، لأنه سافر للعمل في إحدى الصحف الإماراتية في فترة حكم مبارك، وظل هناك للسنوات طويلة هناك، ليعود مع تأسيس جريدة "الشروق" في سنة 2009، وكان ثاني اثنين تقاسما وظيفة "الرجل الثاني" بالصحيفة الواعدة، التي أتاح لها مؤسسها الناشر "محمد المعلم" درجة من الاستقلال التحريري والرصانة المهنية، وكانت قيمتها في أن عدداً من كتابها مستقلين بدرجة أو بأخرى!

وعندما وقع الانقلاب العسكري كان "عماد" قد تولى منصب رئيس التحرير، وكان عليه أن يقوم في المرحلة الأولى بدور "الرقيب"، ثم تطورت المسؤوليات مع العهد الجديد، فكان هو الوسيط في إبلاغ عدد من الكتاب بالتوقف عن الكتابة، ومنهم من ضاق بتدخلات "الرقيب" فاعتذر عن مواصلة الكتابة، مثل الدكتور علاء الأسواني!

وقد ثقلت موازينه، فكان الثمن مناسباً وهو تعيينه عضواً في مجلس الشيوخ، ضمن من يختارهم عبد الفتاح السيسي. ومن المفيد أن نذكر أن غيابه في الخليج أفاده فلم يكن جزءاً من حالة المعارضة، التي أضرت بموقف "عبد الحليم قنديل، حيث يقلق السيسي من كل من كانوا ضد مبارك، ومن شاركوا في الثورة، حتى وإن كانوا يؤيدونه قبل الأكل وبعده!
بهذا "الجوار" للسلطة، استدعى الناصريون مبكراً تراثها في الهجوم على معارضي النظام العسكري من الخارج، وهو التراث الذي أنتجته مرحلة الرئيس السادات، الذي كان يهاجم معارضيه في الخارج، ويتهمم بأنهم يهاجمون مصر، وقد توحدت مصر في شخصه الكريم

وبهذا "الجوار" للسلطة، استدعى الناصريون مبكراً تراثها في الهجوم على معارضي النظام العسكري من الخارج، وهو التراث الذي أنتجته مرحلة الرئيس السادات، الذي كان يهاجم معارضيه في الخارج، ويتهمم بأنهم يهاجمون مصر، وقد توحدت مصر في شخصه الكريم. وكان يقصد بالمعارضين هؤلاء ليس فقط الذين هربوا من حكمه، وعاشوا في بلاد الله، ولكن من يكتبون في صحف أجنبية ضد سياساته وإن كانوا يعيشون في الداخل!

وهؤلاء جميعهم كانوا من اليسار بتنويعاته، ولم يكن الإسلاميون أو الليبراليون منهم حتى عندما قرروا الدخول في مواجهة مع نظام السادات. وأسماء معتبرة من اليسار سافرت للخارج، ومن العراق إلى ليبيا، إلى سوريا، ومن باريس إلى لندن! وانطلقت اذاعتا "مصر العربية" و"مصر العروبة" من الخارج، لتسلخ نظام السادات بألسنة حداد، وإن كان "محمود السعدني" لم يستقر في بلد واحد، وعمل رحالة أضاف لعدد من البلاد التي زارها ومكث فيها بعض الوقت؛ بعض دول الخليج. وقد التقى بالرئيس السادات في الكويت، وعرض عليه عثمان أحمد عثمان العودة للقاهرة إلا أنه رفض!

وفي بدايته كان نظام مبارك حريصاً على حل هذه المعضلة، التي أرقت السادات، وأوفد نقيب الصحفيين لهذه العواصم لإقناعهم بالعودة، وقد سبق هذا اجتماع لمجلس نقابة الصحفيين، أقر ضمان عودتهم إلى مؤسساتهم الصحفية، وليس هذا هو الموضوع!

ريا وسكينة:

فاليسار، وناصريون من بينهم، هم الذين كانوا يعارضون في الخارج، وأن التراث السلطوي كان يرى في هذه المعارضة خيانة وطنية، بيد أن الناصريين عندما صاروا في دائرة السلطة صدق فيهم قول الشاعر رمتني بدائها وانسلت، فقد تغيرت المواقع، وأصبحوا كما "ريا وسكينة" في المسرحية الشهيرة، وقد تزوجت احداهن الشاويش عبد العال، فغنتا معاً: "نسبنا الحكومة وبقينا حبايب"!
اليسار، وناصريون من بينهم، هم الذين كانوا يعارضون في الخارج، وأن التراث السلطوي كان يرى في هذه المعارضة خيانة وطنية، بيد أن الناصريين عندما صاروا في دائرة السلطة صدق فيهم قول الشاعر رمتني بدائها وانسلت

وفي حالة الانصهار هذه، كتب "عماد الدين حسين" من موقعه الجديد، مقالاً حمل عنوان: "الذين باعوا أنفسهم للشيطان"، يقصد بهم المعارضة في الخارج، الذين راهنوا "على القوى والدول وأجهزة المخابرات الأجنبية"، وإن كان يوجه حديثه لـ "كل المعارضين".

فالذين "تركوا وطنهم وارتضوا أن يضعوا أنفسهم في خدمة حكومات وأجهزة..".. وحدد هذه الأجهزة بانها "مخابرات إقليمية ودولية"، بهدف تحقيق حلمهم في الحكم أو التغيير، "ولذلك رهنوا أنفسهم لخدمة هذا الحاكم أو ذاك الأمير أو صاحب الجلالة"!

وهو هنا يلمح، دون أن يصرح، ويعمم من حيث يريد أن يخصص، بما حدث لرموز عدد من القنوات التليفزيونية في تركيا، والذين طلبت منهم السلطات هناك التوقف عن معارضة النظام المصري، ومرة أخرى يكون في حكم من رمتني بدائها وانسلت!

فالذي يعمل لخدمة أهداف مخابرات إقليمية ودولية، ولصالح هذا الحاكم أو ذاك الأمير أو صاحب الجلالة، هي سلطة الحكم التي فرطت في التراب الوطني، لأسباب من بينها تثبيت سلطة الأمير محمد بن سلمان، وقزمت مصر لتقبل ملابس مستعملة، ووجبات طعام، من الإمارات، وتجعل الكفيل العام لجمهورية مصر العربية هو محمد بن زايد، ثم إن الانقلاب العسكري كان برعاية وزير الدفاع الأمريكي، وعليه أن يراجع تصريحات السيسي القديمة من أنه كان على اتصال يومي به!
إن المعارضين المصريين في الخارج هم أصحاب قضية، وإذا كانوا في الخارج فلأننا أمام نظام فاشي، لم يرحم حتى رئيس أركان الجيش المصري السابق الفريق سامي عنان

هذا أولاً، وثانياً، فإن المعارضين المصريين في الخارج هم أصحاب قضية، وإذا كانوا في الخارج فلأننا أمام نظام فاشي، لم يرحم حتى رئيس أركان الجيش المصري السابق الفريق سامي عنان، كما لم تأخذه شفقة برئيس الجهاز المركزي للمحاسبات، وخطط لقتله، وعندما فشلت المحاولة التي كانت في وضح النهار، قام بسجنه ظلماً وعدواناً، ناهيك عن زملاء لعماد الدين حسين في السجون، فهل يستطيع أن يقول ماذا فعل زميله هشام فؤاد، لكي يحبس عامين ولا يزال يجدد له؟! وهل يجرؤ أن يكتب مقالاً للدفاع عنه، أو يطلب وساطة من عينوه في مجلس الشيوخ لكي يفرجوا عنه؟ ولم يكن هشام من الاخوان، لكنه معروف لزملائه بأنه يساري، وكل جريمته أن شارك مع آخرين ليس بينهم اخواني واحد، لخوض الانتخابات، فالإخوان ضد هذا المسار برمته، فهل يمكن لـ"عماد" أن يصدق الاتهام لـ"هشام" بأنه يتعاون مع جماعة إرهابية من أجل تنفيذ أهدافها؟!

وفي وطن يسجن فيه من أيدوا الانقلاب العسكري، ومن خرجوا ضد الحكم المدني المنتخب، هل يلام الآخرون لأنهم تحملوا مرارة الغربة، وهربوا للخارج؟! وليس من بينهم من هم جزء من أداء أي جهاز مخابراتي، لأنني لا أعتقد أن أجهزة المخابرات لديها فائض من الوقت لتبدده في الاهتمام بالسيسي، وإذا شغلها فليس من هم في الخارج من يملكون خططاً لإسكاته، بل إن وقف الحراك الثوري قبل ست سنوات كان بقرار من الخارج، فهل أجهزة المخابرات هذه تعمل لتثبيت حكم السيسي؟!

معاملة أطفال:

لقد ختم "عماد" مقاله بالتأكيد على وجود معارضين في الداخل عارضوا وتحركوا وتم القبض عليهم ودخلوا السجن وكسبوا احترام الكثيرين لأنهم لم يبيعوا أنفسهم للخارج، رغم أنهم دفعوا ثمناً غالياً من حريتهم!
في اعتقادي إن أي جهاز مخابرات معاد لمصر لا بد وأن يدعم السيسي، لأنه يلحق أضراراً بالأمن القومي المصري يتعذر تداركها

هكذا بدون إدانة لعملية سجنهم، ودون ادانة لنظام يسجن معارضيه، وكأنه يحمل شهادة "معاملة أطفال" وقد رفع عنه القلم، فلا يستحق معارضة لسلوكه هذا، أو تنديداً به!

إن المعارضة في الخارج ليست بدعة مصرية، فالإمام الخميني قاد ثورته على الشاة وإجرامه من فرنسا، والقائد العسكري الفذ شارل ديجول قاد النضال من لندن وقد شكل من هناك حركة "فرنسا الحرة"!

إن ما لا يدركه "عماد حسين" ولن يدركه لموقعه الجديد، أن معارضة الخارج ليست جزءاً من حسابات أي دولة، ولم تكن إقامات كثيرين مريحة في دول المهجر، ومجرد الحصول على إقامة سياحية كانت نصراً كبيراً، وقد رماهم على المر هو الآمر منه، وفي اعتقادي إن أي جهاز مخابرات معاد لمصر لا بد وأن يدعم السيسي، لأنه يلحق أضراراً بالأمن القومي المصري يتعذر تداركها، وكل هذا لا يشغل "عماد"، لأنه صار في دائرة الحكم، فليستدع تراث الأنظمة المستبدة في مواجهة المعارضين من أهل اليسار!

الناصري إذا تاب...!

twitter.com/selimazouz1