ثمَّة مُسلَّمة دوغمائيَّة مركزيَّة، مُهيمنة على الأوساط الفكريَّة في العالم الإسلامي، وذلك منذ هيمَنَت الحداثة على تقاليدنا الثقافيَّة والسياسيَّة قبل أكثر من قرن من الزمان. وقد زاد ثقلها النسبي مع "النُخَب الجديدة" في الدول ما بعد الكولونياليَّة، حتى صارَت شيئاً أشبه بالبنية التحتيَّة اللازمة في كافَّة الأنساق الفكريَّة التي أنتجها عالم الإسلام -تقريباً - خلال القرن الماضي. وخلاصة هذه المسلَّمة أننا نعيش ونتحرَّك ونُعاني، من خلال استقطاب أيديولوجي بين قُطبي ثُنائيَّة برانيَّة مُستمرة: تاريخنا في مواجهة هجمة الحداثة، أو الإسلام الذي يتصدى للعلمانية، أو التقاليد التي تحارِب التغريب.. إلخ، أو أيّاً كانت التنويعة التي يصطنع منها المشتَغِلون بالفكر ثنائيَّة صلبة "جديدة"، ويتخذونها مُسلَّمة تحكم تكوين أنساقهم الاختزالية المشوهة، وتجري من خلالها أفكارهم وتصبغ جملة إنتاجاتهم.
وعندي أن هذه المسلَّمة - التي تتَّخذُ صورة الثنائيَّة - قد اكتملَت هيمنتها الخبيثة على واقع "الفكر الإسلامي الحديث" مع اليسار المتحوِّل للإسلام، الذي ترك بصمة رِدَّته الغائرة على فكرنا، إبَّان الثلث الأخير من القرن العشرين؛ إذ انتقل إلى الإسلام مُحمَّلاً بإخفاقاته الأيديولوجية القديمة، ومُثقلاً بالبِنى الفكريَّة النسقية - المعادية للإسلام - التي كان يتحرَّك من خلالها، وأسقط ذلك كله اعتسافاً على الإسلام - بدعوة مما سُمي بـ"الصحوة الإسلامية" - لعلَّ دين الله يُحقق له الانتصار الأيديولوجي، الذي عجزت عن تحقيقه الأيديولوجيات اليساريَّة والعلمانية. وهو ما أفضى إلى ولادة ما يُسمى إعلاميّاً بـ"الإسلام السياسي" والجيوب المحيطة به، قبل أربعة عقود تقريباً(1).
بيد أن المتأمِّل البصير - تفكيكاً وتركيباً - في واقعنا الفكري الحديث، ونمط تركيب أنساقه، مقارنة بأنساق الفكر والاعتقاد الغربيَّة؛ يجد أننا لا نُصارِع الحداثة أو العلمانية أو الشرك مُصارعة برَّانية - كما فعلت الكنيسة الكاثوليكية مثلاً - ولم نُصارعهما على هذه الصورة أبداً في العصر الحديث، وإنما جرى احتواؤنا بهدوء في سياقاتهما، وتم استيعابنا بكفاءة في أنساقهما، وأوهمنا بعض "المخلصين" من بني جلدتنا بأننا لم نُستوعَب بعد، رغم أنهم هم أنفسهم كانوا - ربما بغير وعي! - أدوات دمجنا فيها، وأسلمة نظرتنا لها، لقصور وعيهم وفقر اطلاعهم وضحالة خيالهم. بل زادوا الطين بلَّة إذ زيَّنوا لنا أن هذا الوجود "المعادي" محض وجود براني ليس له تغلغُل جواني في النفس والمجتمع، ومن ثم؛ فبوسعنا "مقاومته" برانيّاً، بل ودحره، إذا نحن هزمنا حزمة من الأفراد والإجراءات والجيوب النخبويَّة؛ ليتحقَّق "إسلامنا" نهائيّاً بهذه المشيحانية البرانية التافهة!
لهذا، فإن هؤلاء وأشباههم يفزعون إذا تمخَّض استقراؤنا لواقعنا الحديث عن صورة مخالفة، تنفي الهراء الذي ولغ فيه السابقون، بل وتفسر سبب إخفاقاتنا المتكررة طيلة قرن على الأقل، تفسيراً يجعل تجاوز هذه الإخفاقات إمكانيَّة حقيقية، ولا يُكبل مُقدَّرات الأمة بتصورات تآمرية خُرافية لكائنات شيطانية، وإن كان لا يُنكر التآمر، بيد أنه يُنزله منزلته بغير إفراط ولا تفريط، أملاً في الخروج من درك التواكُل عروجاً في مدارج صدق التوكل.
وعليه، فقد وجدنا أن واقعنا الحديث لم يَكُن يحكمه تصارُع تيار "إسلامي" في مواجهة آخر "علماني"، أو يُهيمن عليه تسابُق اتجاه "أصولي" في مواجهة آخر "تغريبي"، بل ولا حتى مواجهة للوجدان "الوطني" الشريف" مع الآخر "الخائن" التابِع للقوى الكولونيالية؛ إذ رغم الحضور البارز لكل هذه العناصِر - بنسبٍ مُتفاوتة - في الصراع الفكري والسياسي، برانيّاً وجوانيّاً؛ فإنها كانت تُستعمَلُ غالباً بوصفها لافتات للحشد والتوظيف الإعلامي الجماهيري؛ فتموِّهُ على طبيعة الصراع، ولا تُعَبِّرُ إطلاقاً عن حقيقة "المتصارِعين". والأهم من ذلك أنها لا تُفَسِّرُ شيئاً مما يجري في الواقع، بل تختَزِلُ التفسير؛ حتى صار هذا الاختزال المشوِّه مكوِّناً رئيساً من مكونات عمليَّة إعادة إنتاج الصراع في كل جيل. ولعلَّ أعظم الأدلة على ما نذهب إليه هو اختلاط المشارِب في أكثر الأحيان، حتى ليعجز استقلال الباحث البصير عن التمييز فعلاً بين هؤلاء المتصارِعين، إلا بواسطة بعض الديباجات الخطابيَّة المبتَذَلة، التي يَستعملها كل طرف للحشد، تغريراً بالجماهير.
صحيح أن المعركة في جوهرها وأصلها المفتَرَض كانت بين التوحيد والشرك، بيد أن تمييع المشارِب واختلاط روافِد المعرفة، قد جعل هذا "الجوهر" مطموساً مموَّهاً، بل ولا انعكاس له في الواقِع؛ كأنه مقولة أيديولوجية وضعيَّة، لا يتغيَّر بسببها الوجودُ والرؤية الكونية والمآلات تغيُّراً جذريّاً. ومرجع هذا الخلط، وانحراف "الصراع" والتشويش عليه، وبالتالي انعدام ثمرته؛ أنه لم يَعُد بين توحيد وشرك، وإنما بين ضارِبٍ ومضروب، بين وجهين لذات العملة داخل نفس السياق الحداثي؛ بين طرفين يُمثِّلان نفس الشيء، وإن اختلَفَت الشعارات.
لقد شوَّش استيعابنا داخل الحداثة، وفي إطار مقولاتها، على كل المطالِب والأسئلة والمنطَلَقات، "رغم أنف" الفاعلين؛ فصار الصراعُ معركة بين طرفين داخل الحداثة، وبين آليتين من آلياتها. وهي نتيجة طبيعيَّة للعلمَنَة البنيويَّة الكاسحة، التي طالَت الدين والتديُّن على يد حركة الإحياء النيوسلفيَّة، فهي علمنة على الطراز الأنغلوسكسوني؛ تُفرِغ البِنى من حمولتها وتُعيد تعبئتها بحمولات جديدة، مع حفظ الظاهر كما هو، وعدم المساس بالشفرات الدالَّة، التي لم تَعُد تدُلُّ على شيء!
لقد كان التسابُقُ الحقيقيُّ - في واقعنا الحديث - تسابُقاً بين الآليَّة السوسيولوجيَّة والآليَّة الدولتيَّة، وهُما اليوم - بصورتيهما اللتين نُدركهما اﻵن - من إفرازات الحداثة، ولهذا؛ فهما معاً تَحصُران الصراع في داخل الأخيرة، بما أننا لم نستَجلِبْ بعد - على مستوى الوعي الجمعي - شيئاً من الآليَّات الإسلاميَّة لمواجهة هذا الواقع، والانسلاخ منه، وإن التَبَس الأمر على أصحاب النظر القصير والأدوات الفقيرة، بسبب تشابُهِ بعض تفاصيل الآليَّتين الحداثيَّتين مع آلياتنا. بل لقد عجزت الأكثريَّة الكاسحة عن إدراك أثر اختلاف مُنطَلَق الآليات المستعمَلَة على تعيين غاياتها، وبالتالي؛ أثر ذلك الاختلاف في تغيُّر نِسَب المركَّب المستعمَل في الآليَّات المستمدَّة من الإسلام عن تلك التي أفرزتها الحداثة، وهو تغيُّر جذري مآلاته مُباينة جذريّاً.
والحقُّ أن الآليَّتين ليستا مُنفصِلتين في تاريخ الحضارة الغربيَّة، وإنما تعملان في مجالين مُختَلِفَين، أو حتى تعملان في ذات المجال بالتتابُع، والمحدِّد في ذلك - كما يعرِف أيُّ دارس للتاريخ الأوروبي - هي الحقبة التاريخيَّة والأهداف قصيرة الأجل. وإذا كانت الآليَّة السوسيولوجيَّة في السياق الغربي تُعلي قيم الاستنارة "الهيومانيَّة"، التي تم فصلها عن الدين؛ فإنها في سياقنا تُعيد إنتاج نفس القيم "العلمانيَّة"، بعد صبغها بصبغة الإسلام وكسوتها بقشرة من نصوصه. أما اﻵليَّة الدولتيَّة فهي تُعلي قيم الحداثة القطيعيَّة؛ لتَبتُر كل صلة للإنسان بما يتجاوز حدود إدراك القائم بترشيد الواقع ووعيه وأهوائه، ثم هي تُعيد إنتاج ذلك بحذافيره في سياقنا، بعد أن تسجن الإسلام في البنية "الملحِدَة" للدولة الحديثة، وذلك بوصفه دينها الذي لا تتردَّد لحظة في إهداره حفاظاً على "مصالحها"!
وإذا كانت المسافة الزمنيَّة الفاصِلة بين إلغاء العثمانيين للانكشاريَّة (1826م)، وتأسيسهم للمدارِس الرُّشديَّة (1845م)؛ تجسيداً لكيفيَّة تدشين الجدل بين هاتين اﻵليتين في سياقنا الحديث، حتى هيمن على تصوراتنا؛ فإنه لم يَنتَقِل إلى مصر - على صورَته تلك - إلا بعد ما يَقرُب من قرنٍ كامِل - بسبب تجربة
الاحتلال البريطاني - رغم أن تحديث محمد علي لمصر، وتحطيمه لبنيتها التقليديَّة، قد بدأ متوازياً مع العثمانيين. لكنَّ الشاهد أن الصور التاريخيَّة اللاحقة لهذا الجدل قد اختُزِلَت بعدها، وأسبِغت عليها ديباجات وأثواب شتَّى، أسهم فيها مؤدلجون، أمثال "شيخ الإسلام" مصطفى صبري ومحمد محمد حسين وأنور الجندي ومحمد عمارة؛ فأسهموا بسذاجتهم في تضليلنا فكريّاً، والتشويش علينا لحقبة طويلة.
هذا الجدل/ التصارُع بين النشاط السوسيولوجي "الديني" والحداثة السياسيَّة "الفوقيَّة"، تجلَّى في إيران قبل مصر بفترة قصيرة، ربما بوصفه أثراً من آثار "الثورة الدستوريَّة"؛ إذ تزامَنَت إعادة إحياء الحوزة العلميَّة في مدينة قُم - على يد الشيخ عبد الكريم حائري بين 1921 و1937م - مع انقلاب رضا خان وإزاحته لحكم آل قاجار (1925م)، بيد أنه، على عكس ما وقع قبله في الدولة العليَّة، وبعده في مصر؛ كان جدلاً أكثر أصالة وتعبيراً عن احتفاظ التشيُّع بتقاليده، وإن جرى استيعابُهُ هو الآخر داخل الحداثة، بدرجة أقل(2). وقد تأخَّر تدشين هذا الجدل/ التصارُع في مصر حتى معاهدة 1936م، التي ستُفضي إلى تسييس جمعيَّة الإخوان المسلمين، وذلك بالتوازي مع فتح أبواب الكليَّة الحربيَّة أمام التحاق "الضباط" أصحاب الخلفيَّات الاجتماعيَّة المتواضِعة، وهو ما تُغني مآلاته - إبَّان الخمسينيات والستينيات - عن البيان.
وربما كان أهم عوامِل هيمنة الآليَّة الدولتيَّة في سياقنا، رغم أنهما معاً تُمثلان الحداثة؛ هو تفضيل القوى الكولونياليَّة عدم المجازفة بشيءٍ من مصالحها، أو أي تهديد لـ"صورتها"، إذا فُتِح المجال للآليَّة السوسيولوجيَّة مباشرة، مما قد يُفضي لـ"انتخاب طبيعي" يُسهم في تحقيق قدرٍ من الاستقلال، الذي قد يُغري بمحاولة الانسلاخ كُليّاً في أجيال تالية. لهذا، فضَّلَت القوى الكولونيالية الحل الدولتي العسكري الفوقي، وكانت تدعمه بالسكوت إن لم تفعل ذلك صراحة. بل إن أهم شروط سماحها بحركة الجيوب السوسيولوجيَّة في بُلداننا كان هو مقدرة الدولة - بوصفها نظاماً تسلُّطيّاً لا يمكن تجاوزه - على كبح جماح الفاعِل السوسيولوجي وإبقائه على الهامش، إن لم يكن قد جرى استيعابه استيعاباً كُليّاً، كما هي حال جمعيَّة الإخوان المسلمين، وجماعة المودودي الإسلاميَّة في شبه القارة الهنديَّة. ولهذا، لم يُفتَح الباب لحركة الفاعل السوسيولوجي - خصوصاً في البُلدان العربيَّة - إلا مع بزوغ عقد السبعينيات، حين تم استيعاب كافَّة إمكاناته الحركيَّة داخل الإطار الحداثي، كما تم استيعاب إمكاناته النظريَّة من قبل، ولم يعد هناك أدنى تخوُّف من خروجه على الخط المرسوم.
وهذا كله يتجلَّى نماذجيّاً في الاختلاف التكتيكي بين سياسات عبد الناصر والسادات، رغم أن الثاني محض امتداد واضح وكامل للأول. وقد كانت أهم عوامِل التشويش على هذه "الحقائق" أن فشل الحل الفوقي رُبِطَ بتربُّص ونفوذ الفاعِل الكولونيالي، كما رُبِط الأمل في الحل السوسيولوجي بـ"نفور" الفاعِل الكولونيالي منه. وهو ما خلق الاستقطاب الأيديولوجي الذي يُعاد إنتاجه خلال نصف القرن الأخير، كأنه مُسلَّمة بدهيَّة؛ ليخلق "مُعسكرين" يُحاولان إقناع جمهورهما طوال الوقت بأنهما يُعبِّران عن تصورين مُتناقضين، رغم أننا جميعاً نُراوِح بين قُضبان ذات القفص الحديدي للحداثة الملعونة.
_________
(1) للمزيد من التفاصيل عن أثر الحداثة في فكرنا الإسلامي؛ تُراجع مقدمتنا لكتاب: حميد عنايت، الفكر السياسي الإسلامي الحديث (تنوير للنشر والإعلام، 2021م).
(2) للمزيد من التفاصيل حول اختلاف استجابات التسنُّن والتشيُّع للحداثة؛ تُراجع مقدمتنا لكتاب: حميد عنايت، الفكر السياسي الإسلامي الحديث (تنوير للنشر والإعلام، 2021م)، علاوة على الفصل الخامس من الكتاب نفسه.