سلسلة من
جرائم القتل الأسري عصفت بمصر خلال الأيام القليلة الماضية، وكان أبطالها أزواج وزوجات، حتى أصبح ذلك النوع من الأخبار المؤلمة اعتياديا، ويتلقاه الجمهور بعدم اكتراث في كثير من الأحوال.
ثلاث أو أربع جرائم قتل أسرية حدثت خلال إجازة عيد الأضحى فقط، ولم يقتصر الأمر على شريحة ما أو فئة بعينها من
المجتمع، فقد شملت تلك الجرائم أصحاب المؤهلات العليا والنخب. ولم يفلح التعليم في منع اغتيال طبيب لزوجته الطبيبة بإحدى عشرة طعنة، كما لم تقف الحواجز الجغرافية أو العادات المجتمعية المتباينة حائلا دون انتشار تلك الجرائم، التي ظهرت في أكثر من محافظة
مصرية.
السهولة التي يجري بها تمزيق هذا الرباط المقدس واغتيال
الأسرة بأكملها من خلال إزاحة أحد أركانها، تطرح عددا هائلا من علامات الاستفهام حول هذا الانحراف الخطير، وتلك الآفة المهلكة التي ضربت المجتمع المصري، الذي كان يشتهر بالسماحة وطيب النفس وشيوع لغة الحوار.
انقطعت لغة الحوار بين الأزواج وحل محلها ساعات طوال يقضيها طرفا المعادلة الزوجية على أجهزة الهواتف الذكية، وأضحى الجميع على أعتاب واقع افتراضي تغذيه أضواء الخيال البراقة المنعكسة من منصات التواصل الاجتماعي، والتي تشكل صورة حالمة عن الحياة الزوجية، تجافي الواقع وتتحطم على صخرة الحياة اليومية، ليسود الصمت أكثر، وتتفاقم المشكلات بعد الوصول إلى حالة الخرس الزوجي، ويحل
العنف اللفظي محل الحوار، ثم يتطور الأمر بعد فترة إلى الاشتباك بالأيدي ويحدث ما لا يحمد عقباه.
يدرك كل ذي عينين أن هناك خلل في مفهوم القوامة والمسؤولية المشتركة بين الزوجين القائمة على ركني المودة والرحمة، ومع فقدان هذين الركنين تستحيل العشرة بين الطرفين، وتظهر العداوة والبغضاء التي تبيح استخدام القوة تجاه الطرف الآخر إذا لم يكن هناك وازع من دين أو خلق.
كما أن بطش الدولة ضد المواطنين، قد أعطى انطباعا بأن امتلاك القوة - أو بالأحرى استخدامها واللجوء إليها - هو السبيل الوحيد للعيش في هذا الزمن، الذي توارت فيه المؤسسات، وأحكم النظام قبضته على جميع مفاصل الدولة، ونكّل بآلاف المصريين، وأعمل فيهم آلة القتل على الهواء مباشرة في رابعة وأخواتها، وما لحقها من مجازر مصغرة بمختلف أنحاء مصر.
إن استخدام الدولة القوة الغاشمة ضد المعارضين، أدى إلى شعور المواطن بغياب القانون، ودفع الجميع للبحث عن حقه بالوسائل التي يمتلكها، بعيدا عن تلك المواد جيدة الصياغة محكمة الألفاظ، والتي لا تحفظ له حقوقا أو ترعى له كرامة.
أضف إلى ما سبق شيوع العنف ومشاهد القتل في الدراما المصرية، وما لها من تأثيرات سلبية بالغة على ثقافة المجتمع، الذي بات مستهدفا بمحاولات مستميتة لتجريف هويته وسلخه من دينه وقيمه النبيلة، بعدما طفحت الأفلام والمسلسلات بمشاهد والبلطجة، والمخدرات، والجنس، والإيحاءات القبيحة، حتى أصبح الخارج عن القانون نموذجا لجيل من الشباب يقتدون به في أسلوب حياته، وحديثه، وحركاته، وملبسه.
لا زلت أذكر الانتقادات اللاذعة التي وجهت لعمل فني مثل مسرحية "مدرسة المشاغبين" التي أثارت ضجة كبيرة بعد عرضها استمرت لسنوات طوال، حتى وصل الأمر إلى اتهام بعض النقاد والدعاة القائمين على هذا العمل بالتسبب في جنوح الطلاب والاعتداء على المدرسين، والتمرد على العملية التعليمية.
بالطبع لا يمكن مقارنة المسرحية المذكورة بما يعرض على الشاشات المصرية حاليا؛ فهي بالتأكيد عمل راق إذا ما قورنت بسيل الإسفاف المشين، الذي أفسد الذوق العام لدى الجيل الحالي من الشباب، لكنني أتحسر على غياب النقد والتوجيه، وتغييب الناصحين خلف القضبان.
إن تراجع دور الدعاة والمصلحين أفسح المجال أمام مختلف أنواع العبث، بعدما صدرت الدولة نموذج البلطجة كمنهج حياة لا سبيل لتغييره أو الانحراف عنه، كما أن تغييب الإسلاميين - وفي القلب منهم الإخوان المسلمون - في السجون خصم من رصيد المجتمع أخلاقيا وتربويا، نظرا لتغلغلهم في مختلف أنحاء مصر بريفها وحضرها، والذي شكل نوعا من الوقاية لأجيال متعاقبة من الشباب؛ وكانت تتكسر أمام قوتهم الناعمة كثيرا من المشكلات، سواء بالجلسات العرفية أو التناضح أو المساعدات المادية، إضافة إلى براعتهم في التقويم التربوي، الذي فشلت فيه كثير من الأسر مع أبنائها نتيجة الاهتمام الزائد بتحصيل الشهادات العلمية على حساب التربية.
لا شك أن التناول الإعلامي البائس لهذه الحوادث، وتهافت وسائل الإعلام للحصول على السبق الصحفي، وانتشار شبكات التواصل الاجتماعي؛ جعل الفرصة مواتية لانتشار مثل هذه الجرائم بتفاصيلها المثيرة، وسلط عليها الأضواء أكثر مما ينبغي، وهو ما يتسق بطبيعة الحال مع نهج أجهزة الدولة التي تسعى جاهدة إلى إشغال الرأي العام عن قضايا الوطن المهمة بأمور أخرى، تبعد شبهات التقصير والتفريط والخيانة عن النظام الحالي. لكن الخطورة تكمن في استمرار الوضع الحالي وعدم تدارك مثل هذه المصائب والعمل على معالجتها مجتمعيا، لتصبح مصر مؤهلة لمزيد من أعمال القتل، والعنف الكفيل بتحطيم النواة الأولى في بناء المجتمع.