ينتشر هذه الأيام "أوميكرون" المتحوّر الجديد من فيروس كورونا واردا من إفريقيا الجنوبية مؤكدا ما ردّده علماء الفيروسات من أنّ معاشرتنا لهذه الجائحة ستطول، وأن فرضيّة التسليم بتعايشنا معه بعد عجزنا على القضاء عليه تظل ممكنة، خاصّة أنه ما فتئ يقاوم ويغير شكله بداية من المتحوّر "ألفا" الذي ظهر في المملكة المتحدة إلى "بيتا" الذي ظهر في إفريقيا الجنوبية إلى "غاما" الذي ظهر في البرازيل إلى "ديلتا" الذي ظهر في الهند. ومن يدري هل ستجد الأبجدية الإغريقية متسعا لمتحورات جديدة لاحقا أم لا؟
هذا الواقع الجديد أعاد طرح أسئلة كانت الإنسانية تعتقد أنها حسمت إجابتها أو على الأقل ضبطت وجهات النظر المختلفة بشأنها. ومنها الحقّ في ملكية الجسد وحرية التصرّف فيه. فنحاول أن نعرضها في ورقتنا هذه.
1 ـ الجائجة من الأزمة الصحية إلى الإشكالية الحقوقية
يتلكأ العديدون في تلقي التلقيح ضد جائحة كوفيد 19 مما جعل عديد الدول تعمل على فرضه بأشكال مختلفة منها المباشر ومنها المقنع. فقد ألزمت دول عديدة من الاتحاد الأوروبي منتسبي القطاع الصحّي بتلقيه وطالبت مواطنيها بشهادة تثبت تلقي صاحبها للقاح معتمد من الهيئات الأوروبية أو إظهار اختبار يثبت سلامة حامله من الفيروس لدخول الأفضية العامة. ومنعت أغلبي دول الخليج غير المطعمين من دخول المؤسسات الحكومية. ونحت كل من تونس والمغرب، من بين دول شمال إفريقيا هذا المنحى. ففُرض مرسوم إجبارية إظهار الجواز في الأماكن المغلقة في تونس وفرضت السلطات المغربية الاستظهار ب"جواز التلقيح" للتنقل بين المحافظات، والسفر إلى الخارج، ودخول المؤسسات العامة والخاصة.
القول بأنّ المرء وحده من يمتلك جسده، وما يستتبع ذلك من نتائج كالحرية المطلقة في الاستمتاع به وحرية إنهاء صلوحيته عند المرض ضمن ما بات يعرف بالقتل الرحيم أو المعارضة المطلقة للإعدام باعتبار أن الدولة لا تمتلك أجسادنا ومن ثمة لا مشروعية لها لإعدامها كما تعدم أي فواضل لم تعد تحتاجها، لا يخلو من تطرّف فردانيّ وأناني.
ورغم المغزى النبيل لهذه الإجراءات التي تستهدف محاصرة هذا الفيروس حماية للصحة العامة، لم تلق الترحيب من الحقوقيين فاعتبروها تعسفية تتعارض مع حقوق الإنسان وتجعل التلقيح إجباريا وإن بشكل مقنّع. ورغم نفي الحكومات المختلفة فرض التلقيح وتبرير هذه الإجراءات الاحترازية بالسعي إلى إكساب مواطنيها "مناعة القطيع" التي تحدّ من انتشار الفيروس أو الاحتجاج بما سببته هذه الموجات المتلاحقة من أعباء اقتصادية هامة، خرجت الجمعيات الحقوقية إلى الشارع للتظاهر ضد ما باتت تطلق عليه "الدكتاتورية الطبية" كما حدث في فرنسا وتونس والمغرب.
وتنقلت المعركة من الساحات العامة إلى أروقة المحاكم. فقد لجأ أولياء في الجمهورية التشيكية معارضون للتلقيح الإجباري المفروض على أبنائهم للمحاكم للطعن في شرعية رفض دور حضانة قبول أبنائهم لعدم تلقيهم لقاحات ضد كورونا باعتباره مخالفا للدساتير التي تمنع الاعتداء على الحريات العامة.
ولكنّ المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان أجابتهم في 8 نيسان (أبريل) 2021 أنّ التلقيح الإلزامي "ضروري في مجتمع ديموقراطي" وأنّ تلقيح أطفالهم بشكل إلزامي ضد تسعة أمراض من بينها الدفتيريا والتيتانوس وشلل الأطفال لا يشكل انتهاكًا لأحكام الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان بالخاصة بـ"الحق في احترام الحياة الخاصة".
2 ـ أصل المعضلة بين القانون والفلسفة
لقد تحوّلت إلزامية التلقيح إلى إشكالية حقوقية عالمية. فالعديدون يرفضونه لهواجس صحية أساسا، منها الخوف من مضاعفات محتملة له بعد فترة طويلة من تلقيه. وآخرون لا يزالون أسيري تظرية المؤامرة. فهذه الجائحة في تقديرهم تفتعلها الليبرالية المتوحشة لتستثمر في الخوف ولتسلب الفقراء أموالهم لا أكثر. ولكن الاحترازات الجدية تظل ذات خلفية فلسفية حقوقية. فكثيرون هم من يعتقدون أنّ قرار التلقيح هو قرار شخصي يجب أن يتخذه المرء بمحض إرادته. فالجسد موطن الكيان والهوية. ومن خلاله يدرك المرء ذاته ويدرك الأشياء من حوله ويفهم الآخر ويتحدد شكل العلاقة معه. وقرار تلقيحه بلقاح مجهول المضاعفات قرار شخصي يدخل تحت طائلة ملكية الفرد لجسده وحرية التصرّف فيه.
والإعلان العالمي لحقون الإنسان يجعل من الحريّة غايته القصوى فتنص مادته الثانية على أنّ "لكلِّ إنسان حقَّ التمتُّع بجميع الحقوق والحرِّيات المذكورة في هذا الإعلان، دونما تمييز من أيِّ نوع" وتشير المادة الثانية عشرة منه إلى أنه "لا يجوز تعريضُ أحد لتدخُّل تعسُّفي في حياته الخاصة"، فيما تنص المادة الثالثة عشر أنّ "لكلِّ فرد حقا في حرِّية التنقُّل وفي اختيار محلِّ إقامته داخل حدود الدولة" وأن " لكلِّ فرد حقا في مغادرة أيِّ بلد". وبالاستناد إلى هذه المواد يرفضون فرض الحجر الصحيّ أو فرض التلقيح الإلزامي ويجدون فيهما حدّا من الحريات وتعسّفا على ملكيتهم لأجسادهم واعتدائهم على حقهم الحصري في التصرّف فيها.
3 ـ هل الجسد ملكية فردية حقا؟
ولكن من يملك الجسد حقّا؟ فالقول بأنّ المرء وحده من يمتلك جسده، وما يستتبع ذلك من نتائج كالحرية المطلقة في الاستمتاع به وحرية إنهاء صلوحيته عند المرض ضمن ما بات يعرف بالقتل الرحيم أو المعارضة المطلقة للإعدام باعتبار أن الدولة لا تمتلك أجسادنا ومن ثمة لا مشروعية لها لإعدامها كما تعدم أي فواضل لم تعد تحتاجها، لا يخلو من تطرّف فردانيّ وأناني. فالجسد من المنظور الديني ملك لخالقه ومن أدواره المحافظة على النوع البشري الذي يتجاوز الرغبة الفردية إلى تحقيق المشيئة الإلهية. ومن المنظور المادي الاجتماعي هو ملك للمجموعة بقدر ما هو ملك للفرد. وعماد العلاقة بين الطرفين ميثاق ضمني. فالإنسان مدني بالطبع محتاج إلى غيره ليضمن استمراره في الحياة والمحافظة على جسده بالنتيجة.
وبالمقابل لابدّ له أن يتنازل عن شيء من ملكية هذا الجسد ومن حريّة التصرف فيه لتسلم المجموعة بعضويته بينها. وقد يفرض عليه التنازل المطلق عن هذه الملكية إذا ما ألحق ضررا كبيرا بسلم قيمها. فتقرر سلبه حقّ حرية الحركة لفترة بعينها وربما سلبته حق الحياة نفسها إذا ما كان الضرر فادحا. وفيروس كورونا يبرز وفق أستاذ الفلسفة بالمعهد العالي للفلسفة إيكلوفان ببلجيكا والمختص في أخلاقيات الطب الحيوي تهافت القول بالملكية الفردية المطلقة للجسد ويثبت أن الإنسانية، تشكل كتلة اجتماعية حميمية ومترابطة. فلا تنتقل عدواه من فرد إلى آخر إلا لأن الهواء الذي يتنفسه أحدنا ينفذ إليه من رئة الآخر ولأن أجسادنا تتفاعل فيما بينها ولا تتجاور في استقلال وانفصال.
4 ـ مراجعات لابدّ منها
ومن الطبيعي أن تترتب عن هذه الحقيقة التي يذكرنا بها الفيروس التاجي كوفيد 19 مراجعة لفلسفة الجسد والأخلاق والحرية معا. فلا يمكننا التّفكير في هذه المفاهيم إلا ونحن نضع مقتضيات العيش معا نصب أعيننا. فقد اتضح أنّ الواحد منّا يمكن أن يكون حاملا للفيروس ناقلا له دون علمه، ويمكن أن يكون بالنتيجة قاتلا رغم أنفه. وتمسكنا المطلق بحق التصرف في أجسادنا سيتلف أجساد غيرنا ويسلبهم الحق في الحياة وهو القيمة الأعلى من بين مختلف القيم. والمادة الثالثة من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي ينصّ على أنه [لكلِّ فرد الحقُّ في الحياة والحرِّية وفي الأمان على شخصه] يصل بين الحق في الحرية والحق في الحياة ويجعلهما متلازمين بحيث لا يفقد كل مفهوم مقوماته إذا ما أفضى إلى انتهاك جسيم للثاني.
ومن ثمة فإننا نظل نعتقد أن ما يسود العالم اليوم من حشد مناهض للتلقيح لا يخلو من عدم دراية علمية أو وقوع تحت تأثير نظريات المؤامرة وأن الجمعيات الحقوقية التي ترفض التلقيح أو الحجر من منطلق إضراره بمبدأ الحرية تفهم هذه القيمة بشكل حرفي ساذج يعكس أنانية مقنعة أكثر ممّا يجسّد التمسك بالقيم والمبادئ وبذل الجسد في سبيل الدّفاع عنها.
5 ـ الحقوق كل لا يتجزأ
يسحب العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية الذي وعرض للتوقيع والتصديق والانضمام بموجب قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة 2200 ألف (د ـ 21) المؤرخ في 16 كانون الأول (ديسمبر) 1966 وبدأ نفاذه منذ 23 آذار (مارس) 1976 وفقا لأحكام المادة 49، البساط من تحت أقدام "المناضلين الحقوقيين". فتنص مادته الثانية على مختلف الحقوق الفردية وعلى ضرورة أن تكفلها الدوّل لجميع الأفراد الموجودين في إقليمها والداخلين في ولايتها، دون أي تمييز.
وتستدرك مادته الرّابعة، فتنصّ على أنه "في حالات الطوارئ الاستثنائية التي تتهدد حياة الأمة، والمعلن قيامها رسميا، يجوز للدول الأطراف في هذا العهد أن تتخذ، في أضيق الحدود التي يتطلبها الوضع، تدابير لا تتقيد بالالتزامات المترتبة عليها بمقتضى هذا العهد، شريطة عدم منافاة هذه التدابير للالتزامات الأخرى المترتبة عليها بمقتضى القانون الدولي وعدم انطوائها على تمييز يكون مبرره الوحيد هو العرق أو اللون أو الجنس أو اللغة أو الدين أو الأصل الاجتماعي. وتؤكد مادته السادسة أنّ " الحق في الحياة حق ملازم لكل إنسان. وعلى القانون أن يحمى هذا الحق. ولا يجوز حرمان أحد من حياته تعسفا".
إننا نظل نعتقد أن ما يسود العالم اليوم من حشد مناهض للتلقيح لا يخلو من عدم دراية علمية أو وقوع تحت تأثير نظريات المؤامرة وأن الجمعيات الحقوقية التي ترفض التلقيح أو الحجر من منطلق إضراره بمبدأ الحرية تفهم هذه القيمة بشكل حرفي ساذج يعكس أنانية مقنعة أكثر ممّا يجسّد التمسك بالقيم والمبادئ وبذل الجسد في سبيل الدّفاع عنها.
إنّ الحقوق شبكة مترابطة ولا يمكن التعاطي معها إلا ونحن نأخذ بعين الاعتبار بقية الحقوق المنصوص عليها في المواثيق الدولية والدساتير والقوانين. وحق ملكية المرء لجسده أمر لا ينكر. ولكنه في الآن نفسه يظل مسيّجا بجملة من الشّروط منها ألاّ يسيء المرء عبر حرية التصرّف فيه إلى بعده البشري. فلا يمكنه أن يجعل بعضا منه كالدم أو النخاع أو الخلايا الجذعية أو البويضات بالنسبة إلى النساء موضوع تجارة. فكل هذا محظور بموجب قوانين وأخلاقيات البيولوجيا التي تحكم المجتمعات. ومنها ألاّ يضع نهاية له، وإن ظل البعض يعتبر أنّ الحق في الموت يجب أن يكون حقا مدنيا موازيا للحق في الحياة، خاصة بالنسبة إلى من يواجهون أمراضا مزمنة ومؤلمة تتجاوز القدرة على الاحتمال.
إن تناول المسألة من وجهة نظر حقوقية متبصّرة وفلسفية متدبّرة تكشف أنّ أجسادنا ملك لنا بطريقة معينة وأننا لا نملك كل حقوق التصرف فيها إلا في ضوء منظومة القيم التي تتبناها المجتمعات التي قبلنا بأن نعيش بينها باعتبارها شريكا لنا في ملكيته. وفرض التلقيح من قبل الأجهزة المكلّفة بتدبير شأن المجتمعات التي هي الدولة يدخل ضمن باب الحفاظ على الحق في الحياة وهو الحقّ الأسمى. أما وسمه بالتعسّف على الحريات الفردية والخاصة وعلى حرية التصرّف في الجسد فيمثل انحرافا في فهم هذه الحريات نتيجة لتعاملنا معها مُنجمة مَعزولة عن شبكة حقوق الإنسان والنّظر غليها في كلّيتها.
6 ـ كوفيد 19.. وضع استثنائي وتمرين حقوقي جديد
لعل ما ورد في كلمة آمنة بوعياش رئيسة المجلس الوطني لحقوق الإنسان في مستهل التقرير السنوي 2020 حول حالة حقوق الإنسان بالمغرب بعنوان "كوفيد 19: وضع استثنائي وتمرين حقوقي جديد" والمنشور في آذار (مارس) 2021 أن يمثل مقاربة رصينة وعميقة للصلة بين جائحة كوفيد 19 ومبادئ حقوق الإنسان إذ تقول في الصفحة11 منه "يضعنا هذا التقرير، الذي يتناول وضع حقوق الإنسان في المغرب خلال السنة الأولى من جائحة كوفيد 19 ،أمام أسئلة متعددة، بعضها غير مسبوق، حيث تلخصت صعوبة ممارسة حقوق الإنسان والتمتع بها خلال السنة التي يشملها التقرير في التشبث بتطبيق معايري حقوق الإنسان ومبادئها في ظل وضع استثنائي غير معروف التجليات والملامح. وهو ما يدفعنا إلى القول إن مكافحة جائحة كوفيد 19 ومقاومة انعكاساتها أعطتنا زخًما جديدا على مستوى ممارسة حقوق الإنسان وفتحت أمامنا آفاقًا جديدة". ولا شكّ أن العلاقة التفاعلية بين مختلف الحقوق والمبادئ تكون في صدارة هذا التمرين.
هل يصلح النظام الرئاسي لمواجهة الاستبداد عربيا؟ (2 من 2)
هل يصلح النظام الرئاسي لمواجهة الاستبداد عربيا؟ (1 من 2)
أيُّ دور للدين في التصدي للعنف ضد المرأة؟ هذا رأي العلماء