الحرب الأخيرة على غزة ليست كسابقاتها؛ لا من حيث المعارك ولا من حيث النتائج ولا من حيث الظروف، وهذا ما يجعلها ثاني أكبر حدث في 2021 يمكن أن يؤثر في المنطقة والإقليم وربما على منظومة التحالفات في المنطقة.
فقد جرت الحرب على غزة في ظروف دولية حرجة، فالإدارة الأمريكية الجديدة تحاول السيطرة على مقاليد الأمور بعد محاولة التمرد، ونتنياهو يريد أن "يذبح القطة" للإدارة الجديدة ويواصل سياسة التحدي للديمقراطيين، كما فعل في عهد الرئيس الأمريكي أوباما حين زار أمريكا وألقى خطابا أمام أقوى جماعات الضغط الصهيونية المؤيدة لدولة الاحتلال (AIPAC) دون أن يلتقي كالمعتاد بالرئيس الأمريكي؛ ما اعتبر وقتها صفعة سياسية، وهو نفسه من وقف حجر عثرة أمام محاولة إدارة أوباما للوصول إلى تسوية سياسية وتنفيذ وعد الدولتين؛ حين رفض مقترحات جون كيري في اجتماعه (سرا) مع
نتنياهو والسيسي وعبد الله ملك الأردن في ميناء العقبة في 16 شباط/ فبراير 2016، وقلب الطاولة على رؤوسهم ثم مضى.
تسلسل الأحداث يبين أن
المقاومة كانت مستعدة بينما نتنياهو كان مغرورا ومتكبرا واعتقد أن الزمن في صالحه، والحرب أيضا، وهو ما أودى به في هوة سحيقة ربما لا يخرج منها أبدا، فقد أعلن الحرب على القدس وعلى المسلمين والمقاومة، والإدارة الأمريكية بطريقة غير مباشرة، وواجه خصما مستعدا لخوض معركة هو من يبدؤها وهو من يستطيع إنهاءها، ولأول مرة كانت كلمة المقاومة هي الفصل في الحرب القصيرة.
وصلت صواريخ المقاومة بعيدة المدى إلى تل أبيب وأغلق مطار بن جوريون، ورغم القصف الصهيوني على المدنيين واستهداف مقر قناة الجزيرة في غزة، إلا أن حماس رفعت راية التحدي وواصلت إمطار دولة الاحتلال بالصواريخ التي عجزت القبة الحديدية عن وقفها. وبات واضحا أن نتنياهو في مأزق ربما أراد بعض أو كل خصومه تركه فيه دون تدخل رئاسي أمريكي كما جرت العادة. صحيح أن أمريكا مع دولة الكيان على طول الخط، ولكن الاعتبارات والمستجدات السياسية والصفعة القديمة على وجه الديمقراطيين التي لا تزال آثارها على "خد" البيت الأبيض الذي كان الرئيس الحالي يسكنه كنائب للرئيس الأسبق أوباما.. كلها ساهمت في ترك نتنياهو وحيدا.
كان الرد والصمود
الفلسطيني مدويا ومبهجا، ولو كانت هناك فسحة من الحرية للشارع العربي لربما شهدت شوارع القاهرة وعمان والرياض مظاهرات تأييد للمقاومة، ولكن رغم ذلك كان الشارع العربي تملؤه الفرحة ويشعر بالفخر تجاه المقاومة، ولكن ما الجديد، فالحرب على غزة متكررة والصمود مشهود له؟ الإجابة في نقاط:
1- رد المقاومة كان مصحوبا بانتفاضة الداخل الفلسطيني (فلسطين التاريخية).
2- عجز نتنياهو عن حماية نفسه ولجوئه إلى الخنادق ومعه بعض أركان جيشه.
3- التصريحات التي أطلقها خبراء عسكريون
إسرائيليون عن عدم جدوى القبة الحديدية والتي تقدر بمئات الملايين من الدولارات (تتراوح القيمة ما بين 50- 100 ألف دولار للمنظومة الواحدة) في مواجهة صواريخ محلية لا تتجاوز كلفة الواحد منها 300 دولار، حسب تصريح لتال إنبار (Tal Inbar)، الرئيس السابق لمركز فيشر لأبحاث الفضاء في إسرائيل، وهو أيضا زميل تحالف الدفاع الصاروخي (MSAA).
4- التصريحات الأمريكية المتدرجة من حيث تأييد حق دولة الاحتلال في إضعاف المقاومة، إلى رغبة أمريكا في خفض التصعيد، والوصول إلى الرغبة في وقف إطلاق النار، وهو ما رفضه نتنياهو بشكل غير مباشر حين عبر عن استمراره في الحرب على غزة (راجع مقال محمد المنشاوي بعنوان: "قراءة في تطور موقف بايدن من الحرب الإسرائيلية على غزة"، والمنشور في موقع الجزيرة بتاريخ 21 أيار/ مايو 2021).
5- لم يكن التدخل الأمريكي إلا في اللحظات المهمة، والتي أدركت الإدارة الأمريكية ومعها الشارع الصهيوني أن دولة الاحتلال قد مُنيت بهزيمة سياسية بعد أن فشلت في إسقاط الصواريخ الفلسطينية أو منع إطلاقها، وفشلت في إخضاع المقاومة.
الفلسطينيون بإمكاناتهم البسيطة استثمروا الظروف الجديدة في المنطقة واستعدوا للحظة مواءمة سياسية لا تتكرر كثيرا، لينالوا من نتنياهو ويحاولون إيقافه عند حده (وهو هدف مشترك لم يتم الاتفاق عليه بين الفلسطينيين والبيت الأبيض)، وقد نجحوا فلم يكن في مقدور مصر ولا الأردن ولا السعودية ولا الإمارات أن تستخدم إعلامها ضد المقاومة كما اعتادت أن تفعل في زمن ترامب؛ ليس حبا في المقاومة بل استجابة للظروف والمعطيات الجديدة، فكان المشهد الذي ربما لن يتكرر حين أعلن السيسي عن دعم غزة بنصف مليار دولار (لم يحدث ولم يكن من جيبه وتوقفت الحملة لاحقا)، كما زار رئيس المخابرات المصرية غزة والتقى قادة المنظمات التي لطالما كان ينعتها إعلام السيسي بأنها إرهابية ومتطرفة، وأن الرئيس الشهيد محمد مرسي وإخوانه كانوا يتخابرون لصالحها أو معها.
كان القرار الأمريكي واضحا وإن كان غير معلن، وهو رحيل نتنياهو لأنه خسر المعركة، وعليه لا بد من مخرج سياسي ولو بتشكيل حكومة متطرفين جدد ليس بين تكتلاتها أي رابط سياسي، ولكن المطلوب هو رأس نتنياهو لحين البحث عن مصيره السياسي نهائيا. أما السيسي فسوف يقبل منه تحركه باعتباره وسيطا منحازا لإسرائيل، وسننظر هل سينجح في احتواء المقاومة ويمضي في خطط الوطن البديل في سيناء أم لا.
توقفت المعارك ولكن الحرب ما زالت مستمرة؛ لا أقول حتى تزول دولة الكيان ولكن حتى تحدث تغيرات مهمة في المنطقة العربية.
في المقال المقبل إن شاء الله سوف أتحدث عن ثالث أهم حدث في عام 2021، وهو انتصار طالبان وهزيمة أمريكا في أفغانستان.