لن يطول مقام التيار "الماوي" في السلطة في عدن، ذلك أن الصين الشعبية التي كانت تحث اليمنيين على بلوغ منابع النفط وتغيير الأنظمة في محيطهم، ستغير استراتيجيتها، إذ بعث ماو تسي تونغ برسالة خاصة إلى الإدارة الأمريكية (1971) طالبا تطبيع العلاقات مع واشنطن، تلتها زيارة الرئيس ريتشارد نيكسون إلى بكين وتبريد العلاقات بين البلدين بعد قطيعة طويلة بسبب دعم الصين لفيتنام وكوريا الشمالية ومطالبتها بضم هونغ كونغ وتايوان.
في العام 1975 سيوقع البلدان، خلال زيارة الرئيس جيرالد فورد إلى بكين، اتفاقيات تفاهم أعقبت انسحاب واشنطن من فيتنام واحترام وقف النار بين الكوريتين وتجميد قضيتي تايوان وهونغ كونغ. وسيفتتح البلدان علاقاتهما الديبلوماسية في العام 1979.
تراجع تأثير التيار الماوي في عدن لن يحمل الرئيس "سالمين" على القبول بهيمنة السوفييت على بلاده، إذ رفض توقيع "اتفاقية صداقة وتعاون" معهم، على غرار الجمهوريات السوفييتية، وكان لا يطيق رؤية بواخر الصيد الروسية وهي تجرف الثروة السمكية اليمنية، ناهيك عن رفضه الحاسم لإقامة قاعدة عسكرية روسية في جزيرة سوقطرى وامتعاضه من موقف الكتلة الشيوعية المناهض لمشروع الوحدة اليمنية إلى حد أن ألمانيا الشرقية كانت ترفض تدريب ضباط اشتراكيين من أصول يمنية شمالية.
وفي الداخل رفض سالمين تغيير اسم "الجبهة القومية" والاعتراف بـ "الحزب الاشتراكي اليمني" الذي كان عبد الفتاح إسماعيل قد فرغ من تأسيسه، أضف إلى ذلك مبادرته لإقامة اتصالات مع دول المحيط ومع الولايات المتحدة الأمريكية مستفيدا من شعبيته الواسعة، بل ذهب إلى أبعد من ذلك عندما قرر مفاجأة الجميع عبر التحضير لمشروع الوحدة مع شمال اليمن بالاتفاق مع صديقه الرئيس الشمالي إبراهيم الحمدي.
في المحصلة تجاوز سالمين حدود اللعبة المتاحة لبلده على كل صعيد فصار مستهدفا من قوى كثيرة في الداخل والخارج الأمر الذي أدى إلى اغتياله عام 1978 بتهمة قتل رئيس الشمال اليمني أحمد الغشمي وهي تهمة غير مؤكدة بالأدلة القاطعة وسندها الوحيد مستمد من خصومه وقتلته.
ما كان علي سالم البيض في هذا الوقت قادرا على التقاط أنفاسه وسط تغييرات تتم بسرعة كبيرة. هو رمز لا تحبذه دول الجوار الخليجية وشخصية متشددة في السياسة الخارجية في ظل موازين قوى تميل لتسوية العلاقات مع المحيط. لذا ستهبط أسهمه من وزارة الخارجية إلى وزارة الشؤون الاجتماعية إلى محافظ لحضرموت عام 1972 ثم وزيرا للتخطيط عام 1973 وللحكم المحلي عام 1976.
لم تكن هذه المناصب تعني الشيء الكثير في دولة بلا موارد تذكر وتحتاج إلى مساعدات خارجية ناهيك عن كون سلطة القرار الفعلية في الحزب الاشتراكي وليس في مناصب حكومية حديثة النشوء ومحدودة القدرة على إحداث فارق بين الذين يتولون مقاليد الأمور فيها.
في هذا الوقت ارتكب خليفة سالمين، الرئيس الجديد عبد الفتاح إسماعيل، خطأ فادحا عندما ظن أن بوسعه الفوز بحرب خاطفة ضد الرئيس علي عبد الله صالح، مستفيدا من انهيار جيش الشمال في الصراعات الداخلية ونفوذ "الجبهة الوطنية" التي تخوض حرب عصابات ضد النظام الشمالي في المناطق الوسطى بدعم وتدريب وتسليح من النظام العدني.
كان عبد الفتاح إسماعيل الشمالي الأصل، قاب قوسين من تحقيق غرضه إذ احتل من دون مقاومة تذكر، مناطق واسعة من الشمال، وكان مرشحا للتقدم لو لم تهدده سوريا والعراق بالتدخل العسكري ضد الجنوب ولو لم ينذر الروس صديقهم بعدم تزويده بالذخيرة ومقاطعته إن لم تتوقف الحرب، فضلا عن تهديد "جامعة الدول العربية" بعزل نظام الجنوب بعد إدانة عدوانه ومطالبته بالعودة إلى الخطوط السابقة على الحرب.
في المؤتمر التأسيسي الأول للحزب الاشتراكي.. في الصورة عبد الفتاح إسماعيل وعلي البيض وعلي عنتر ومحمد سعيد عبد الله محسن وآخرون
خسر "فتّاح" (كما يحلو لمحبيه مناداته) مغامرته ومن ثم الرئاسة. سيختار العزلة في موسكو ليتولى الرئيس علي ناصر محمد الحكم (1980 ـ 1986) وعلى رأس أولوياته تطبيع العلاقات مع دول الجوار بالتنسيق مع السوفييت وربما بضغط منهم.
وحتى يتم التطبيع بطريقة ميسرة لا بد من إجراءات داخلية من بينها إضعاف الشخصيات المؤثرة أو المعرقلة شأن محمد سعيد عبد الله (محسن) حليف "فتّاح" الذي أبعد عن الحكم وعلي عنتر وزير الدفاع القوي (شريك "فتّاح" في الحرب الفاشلة على الشمال) الذي أبعد عن الوزارة عبر تعيينه نائبا لرئيس الجمهورية وعلي سالم البيض أحد القادة التاريخيين والمشرف السابق على منظمات الخليج الثورية. وقد ارتبط إبعاده بقضية ما زالت حتى الآن مثار جدل وتفسير متناقض.
في العام 1982 تزوج علي سالم البيض للمرة الثانية (زوجته الأولى من آل الحامد وهي هاشمية حضرمية) من السيدة ملكي عبد الله حسين اليافعي بواسطة عقد شرعي عند أحد رجال الدين وكان من المفترض أن يبقى الزواج سريا لأن القانون في دولة الجنوب العلمانية يحظر تعدد الزوجات.
كان من الطبيعي أن يصل الخبر إلى الرئيس علي ناصر محمد الذي رحب بالزواج ووفّر منزلا ثانيا للزوجين لكن القضية ظهرت للعلن من بعد وأثارت سجالا واسعا شاركت فيه المنظمات النسائية والإعلام الحزبي وهي مؤسسات لا تتحرك من دون ضوء أخضر من السلطات العليا.
ترتب عن هذه الحملة تجريد البيض من كل مناصبه الحزبية والرسمية من دون نقاش أو مساءلة وقد علم بقرار عزله من وسائل الإعلام المحلية ولعله كان سعيد الحظ بالقياس إلى المصائر الدموية لغيره من الشخصيات الأولى المقصية في نظام الحكم العدني بعد الاستقلال.
علق البيض على قرار عزله بالقول للذين عزلوه: أنتم منافقون تعددون الزوجات عبر اتخاذكم عشيقات وتتجاوزون قانونكم الذي تستخدمونه سلاحا ضدي. تبقى الإشارة إلى أن البيض الهاشمي كان يواجه موقفا صعبا للغاية فهو من جهة ينتمي، اجتماعيا على الأقل، إلى تراث يُقِرُ تعدد الزوجات ومن جهة أخرى ينتمي إلى حزب علماني يجعل من التعدد جريمة لا تغتفر فاختار الزواج سرا في مجتمع يصعب فيه ضبط أسرار من هذا النوع.
للتذكير في هذا المقام إن علي سالم البيض سيقف عند حدود الزوجتين ولن يصل إلى مرتبة والده، البيض الأب الذي تزوج من 15 إمرأة، إذ كان فقيها هاشميا يؤدي أدواره الدينية متجولا بين أبناء القبائل البدوية الذين يعتبرون أن الرباط الاجتماعي الأهم مع الفقيه هو الزواج لذا ارتبط بمصاهرات متعددة مع عائلات حضرمية بدوية خلال حقبة الاستعمار البريطاني.
زوجة البيض الثانية ملكي عبد الله حسين اليافعي
لن تطول فترة العزلة التي عاشها البيض مجردا من مناصبه. فالصراعات داخل الحزب الاشتراكي ستعيده إلى الواجهة مع مواقعه السياسية السابقة وفي ظروف جديرة بالوصف الدقيق لأنها ستقود إلى 13 يناير 1986 تاريخ المجزرة السيئة الصيت في المكتب السياسي للحزب الاشتراكي.
بعد رحيل الرئيس عبد الفتاح إسماعيل إلى موسكو بضغط من علي عنتر وعلي ناصر محمد معا جرّاء فشل حرب العام 1979، تجمعت مراكز السلطة الثلاثة في قبضة الرئيس الجديد علي ناصر محمد وذلك للمرة الأولى في تاريخ التجربة الاشتراكية في عدن. فكان من الطبيعي أن يحكم من دون منافس أو معترض، معززا مواقعه في السلطة ومستفيدا من أجواء إقليمية ملائمة فضلا عن مباركة السوفييت لنهجه.
أقصى الرئيس الجديد علي عنتر من وزارة الدفاع كما ذكرنا، وهو قطب قوي في الحزب والجيش فضلا عن اتساع بيئته الحاضنة في لحج عموما والضالع بصورة خاصة. وحتى لا يبدو الإقصاء وكأنه عقاب أو تهميش، عينه نائبا للرئيس وهو منصب برتوكولي بلا صلاحيات تذكر وعين بدلا منه صالح مصالح قاسم في وزارة الدفاع وكان وزيرا للحكم المحلي ومن ثم عين علي سالم البيض بدلا منه في الوزارة نفسها.
سيتحد الوزراء الثلاثة ضد الرئيس وسيعملون من أجل عودة عبد الفتاح إسماعيل إلى عدن وأن يستعيد هو الآخر دوره في الحزب الاشتراكي. هنا سيردد علي عنتر عبارة الندم الشهيرة "لم أخطئ مرة في حياتي بقدر الخطأ الذي ارتكبته عندما طالبت بتنحية عبد الفتاح إسماعيل".
وحتى يعود عبد الفتاح إسماعيل مطمئنا إلى عدن زاره صالح مصلح وزير الدفاع بنفسه في موسكو، وهو الذي كان من بين المطالبين بإقصائه بسبب موافقته على وقف النار في الحرب ضد الشمال، مبينا له وجود حاضنة سياسية وحزبية مهمة في السلطة لعودته.
بهذه الطريقة جمع علي عنتر كل المتضررين من الرئيس علي ناصر محمد في كتلة واحدة تضم علي سالم البيض وعلي شايع هادي وسالم صالح محمد فضلا عن جار الله عمر ويحيى الشامي وأحمد علي السلامي (شماليون تضرروا من إيقاف علي ناصر للحرب في المناطق الوسطى) وصالح مصلح قاسم (كان متأرجحا مع وضد بحسب هبوط وصعود أسهم هذا الفريق أو ذاك) هؤلاء جميعا يشكلون أغلبية في المكتب السياسي ويريدون ترجمة هذه الأغلبية في الحكم وإقالة علي ناصر محمد بواسطة الأغلبية الحزبية.
حاول الطرفان حل الخلافات بالوسائل الحزبية وعبر الانتخابات في مؤتمر الحزب الثالث فكان أن حصل علي ناصر محمد على أقلية في مقاعد المكتب السياسي مقابل أكثرية بسيطة لكتلة علي عنتر ما يعني أن الانقسام كان عموديا وأن الحل بات أقرب إلى فوهة البندقية التي ستتكلم بعد أيام في مبنى اللجنة المركزية في حي التواهي في العاصمة الاشتراكية.
إقرأ أيضا: سالم البيض.. اشتراكي يمني اختبر أفكاره السياسية ودفع ثمنها
إقرأ أيضا: البيض.. هاشمي جذبته القومية والاشتراكية والوطنية الديمقراطية
إقرأ أيضا: البيض.. هكذا انتصرنا على بريطانيا ووحدنا 22 مشيخة وسلطنة
إقرأ أيضا: البيض.. راديكالي بحكومة ثورية هدفها نفط الخليج وتحرير فلسطين
عبد الله الأحمر في عرين النظام الإمامي ومقاومة العثمانيين
الأحمر.. مشيخة معمرة في بيئة إسلامية لم تخترقها الكولونيالية
البيض.. نجم قمة بغداد يخفق في دمج حزبي الحكم ويعتكف في عدن