ربما كنا في صيف عام 1988 (فلا أتذكر العام على وجه الدقة) عندما التقينا كمجموعة من شباب الصحفيين بالكاتب الكبير مصطفى أمين في مكتبه بمؤسسة "أخبار اليوم"، وكان الصحفي الشاب
ياسر رزق أحد الفائزين بجائزة مصطفى وعلي أمين الصحفية في العام السابق!
وكانت الجائزة قد بدأت تفقد بريقها، وفي كل عام يفاجئنا الكاتب الكبير بفرع جديد، يمنح من خلاله الجائزة لصاحب "القسمة والنصيب"، ومع أنها جائزة صحفية في ألوان العمل الصحفي، من المقال إلى التحقيق، وتمنح لأوائل خريجي كليات الإعلام وأقسام
الصحافة في الجامعات المختلفة، فقد أقر جائزة لأفضل ممثلة مسرح لتكون من حظ الفنانة سهير البابلي؛ ذلك بأنها تعرضت للهجوم من جانب موسى صبري رئيس مجلس إدارة المؤسسة ورئيس تحرير الأخبار، وكان بينهما خلاف، مرده إلى أن صبري كان يتدخل أحياناً في مقالات أستاذه، وكان يرى أن رئيس التحرير ليس ساعي بريد، يحمل المقال من الكاتب إلى المطبعة، وأن من حقه التدخل بالحذف دون الإضافة، أو بمنع مقال من النشر، لأسباب كانت - في الأغلب الأعم - سياسية!
ومن هنا كان كانت جائزة أفضل ممثلة مسرح لهذا العام نكاية من مصطفى أمين في تلميذه موسى صبري، وعندما التقينا به كانت الجائزة قد شهدت اختراعاً جديداً هو "الانتماء الصحفي"، لتكون من نصيب الزميل الشاب "
ياسر رزق"، فلم يكن في بداية عمله لديه من الأعمال الصحفية ما يجعله أهلا للفوز بها في أي فرع، وكانت هذه المرة الأولى، والأخيرة، التي تكون فيها جائزة للانتماء، كما أنها المرة الأولى والأخيرة التي تخصص جائزة لأحسن ممثلة مسرح!
وكنت حينئذ شاباً مندفعاً، فطلبت الكلمة، فلما أذن لي الكاتب الكبير بها، تجاوزت حدود اللياقة، وسألته عن ماذا تعني جائزة الانتماء هذه؟ وما هي معاييرها؟ وهل لديه وحدة قياس يضعها تحت الجلد ليقيس بها "الانتماء الصحفي"؟
وأجاب الكاتب الكبير بأنه لم يكن يعرف "ياسر رزق"، فقد سأل في المؤسسة (يقصد أخبار اليوم) عن أول من يأتي للدار، وآخر من ينصرف؟ فكان جوابهم: محرر شاب اسمه ياسر رزق، فاختاره لهذه الجائزة!
ولم أكن متأكداً تماماً أن مصطفى أمين لا يعرف "ياسر رزق"، فوقفت وفي قمة الاندفاع وأنا أسأله عن قيمة الحضور والانصراف للصحفي، ما لم يكن هذا مقروناً بعمل منشور أو يستحق النشر، وبما أن الجائزة للصحافة بشكل عام وليست مقصورة على أخبار اليوم، فلماذا لم يسأل الصحف الأخرى عن أول من يحضر، وآخر من يغادر؟ قبل أن أنبهه ساخراً:
لقد نسيت أن "الساعي" في المؤسسة الذي فتح الباب لـ"ياسر" والذي أغلقه بعد انصرافه هو من يستحق جائزة "الانتماء الصحفي" بهذه المعايير.
استقر في وجداني أن الجائزة كانت مجاملة لـ"ياسر" الذي كان والده الصحفي الكبير في أخبار اليوم قد توفي حديثاً، فبدت هذه الجائزة كما لو كانت احتفاء بنجله وتكريما للأب في شخص الابن
وانتبهت لهذه الخشونة، فقررت تلطيف الجو بأن رجوت ألا يكون كلامي سبباً في "زعله"، وكان هذا مدخله لإنهاء الحديث: "لماذا إذن نتحدث عن الديمقراطية"؟ يقصد عدم ضيقه بما أثرت!
المحرر العسكري:
وعندما أتذكر الآن هذا الحديث يدهشني هذا الحماس، وعدم تقديري للحظة جلوسنا في حضرة مصطفى أمين، لكن عذري أن التجاوز وإن كان قد حدث، فهو لظروف النشأة والتكوين، لكن أبداً لم يكن يهز من قيمة الكاتب الكبير في نفسي، بعد أن استقر في وجداني أن الجائزة كانت مجاملة لـ"ياسر" الذي كان والده الصحفي الكبير في أخبار اليوم قد توفي حديثاً، فبدت هذه الجائزة كما لو كانت احتفاء بنجله وتكريما للأب في شخص الابن. وقد كان "فتحي رزق" من كبار الصحفيين ووجهاء أخبار اليوم، وكان "شيخ عرب"، وورث عنه ابنه بعض صفاته، وكان يمكن أن يستمر هكذا لولا الثورة والانقلاب، عندما كانت الجماعة الصحفية تجمع على مثل هذه النماذج!
وقد كتب عماد الدين حسين، رئيس تحرير "الشروق"، بعد وفاة ياسر رزق، والذي كان يقطن معه في شقته بمدينة نصر في هذه الفترة، كيف أن مشكلة ياسر كانت في ذهابه للمؤسسة متأخراً، لأنه لا يعود من هناك إلا بعد الطبعة الثالثة، والتي تكون في الغالب بعد منتصف الليل، على نحو يؤكد مجاملته بجائزة الانتماء الصحفي على قاعدة أنه أول من يحضر من الصحفيين لدار أخبار اليوم!
وكونه ابن "فتحي رزق"، فقد فتح هذا أمامه الآفاق، ووجد له وضعاً متميزاً في مجال عمله الجديد، من حيث كونه أصبح محرراً عسكرياً كما كان والده الذي شارك في تغطية حرب أكتوبر. ومن الواضح أن الوالد أقام علاقة في مكان عمله، كبرت بمرور الوقت، فالضباط الصغار صاروا قيادات في الجيش، ومن كان رائداً في حرب أكتوبر أصبح وزيراً للدفاع، الأمر الذي جعل المشير محمد حسين طنطاوي، يصفه بأنه "راجلنا وابن راجلنا" عندما طلب من الرئيس محمد مرسي أن يبقيه في موقعه، كرئيس لدار أخبار اليوم الصحفية، وهو الطلب الذي لم يستجب له الرئيس. ولا يمكن أن نقول إنه ذهب بسبب هذا بعيداً، فقد كان بعيداً قبل عزله، وكان معادياً للإخوان حتى بعد فوز الرئيس محمد مرسي في الانتخابات!
لا يمكن القول إن المحرر العسكري كان امتيازاً، وقد عاصرت في موقع المسؤولية الصحفية كيف أن زملاء يعتذرون عن الاستمرار كمندوبين لدى القوات المسلحة، فلا شيء يغري بالعمل مندوباً لديها، وليست هناك امتيازات تغري، لا سيما في مرحلة السلام. وقد كان المحررون العسكريون في زمن الحرب ممن يشار إليهم بالبنان، لا سيما وأن بعضهم كتبوا مذكراتهم عنها، وكانوا ضيوفاً على التلفزيون الرسمي في ذكرى الانتصار، لكن المحررين العسكريين بعد ذلك لم يجدوا في عملهم سوى الاستيقاظ مبكراً إذا دعا الداعي لاحتفال أو مؤتمر أو نحو ذلك. وأسهم هؤلاء لم ترتفع سوى بعد الثورة، عندما حكم الجيش، وبعد الانقلاب عندما حكم الجنرال، ونظراً لأن سلطة الحكم لم يكن متاحاً لها التعرف على الخريطة الصحفية، فقد اختارت من بين هؤلاء رؤساء للمؤسسات الصحفية القومية، بما يفوق أكثر أحلامهم جنوناً!
ويمكن القول إن الذين يتلقون النشرات من الشؤون المعنوية عبر "الفاكس" سابقاً، أو البريد الإلكتروني فيما بعد، فينشرونها بالنص، لم يكن كثير منهم تشغلهم تنمية مهاراتهم الصحفية، وقد ظهر هذا جلياً من حيث الفشل في تصدر المشهد. انظر إلى تجربة فاطمة سيد أحمد، رئيسة تحرير "روزاليوسف" بعد الانقلاب، وأقدم محررة عسكرية، وهي تجربة ليست جيدة من كل الزوايا، فتم عزلها بعد فترة وجيزة، لأنها كانت عنواناً للفشل!
الذين يتلقون النشرات من الشؤون المعنوية عبر "الفاكس" سابقاً، أو البريد الإلكتروني فيما بعد، فينشرونها بالنص، لم يكن كثير منهم تشغلهم تنمية مهاراتهم الصحفية، وقد ظهر هذا جلياً من حيث الفشل في تصدر المشهد
بيد أن ياسر رزق يتسم بمهارة مهنية عالية، وأكمل هذا بخوضه الانتخابات أكثر من مرة على عضوية مجلس نقابة الصحفيين، فكان نقابياً ناجحاً، لم يدخل في مشاكل مع أحد، وكان قريباً من الجميع. وعندما كان مجلس النقابة ينقسم إلى فريقين، كان هو القريب منهما معاً، فانتماؤه الناصري كان حاضراً، رغم قربه من النظام، وهي المرحلة التي كان فيها توافق بين اليسار والإسلاميين، وكان هناك توافق انتخابي مع مرشحي السلطة، فلم تعرف الجماعة الصحفية الانقسامات الحزبية كما كان الحال خارج أبواب النقابة!
ياسر والمستقبل:
ولم يشك أحد من المتابعين لحالة ياسر رزق في أنه يعد نفسه للمستقبل، نقيباً، أو رئيساً لمؤسسة أخبار اليوم، أو الاثنين معاً، وكان منتمياً بوجدانه للجيل القديم، فلم يكن فاسداً، ربما لأن طلباته سلطوية أكثر منها مالية، فأخلص للمهنة في انتظار الفرصة، وكنا ندرك أن ما يحول بينه وبين "الكرسي الكبير" هو سنه الصغير نسبياً (من مواليد عام 1965).
وباختيار أنس الفقي وزيراً للإعلام، فقد فتحت أمامه طاقة القدر، فالوزير الجديد شغل قبل ذلك موقع رئيس هيئة قصور الثقافة (بترشيح من الهانم)، وكان محررا شابا ومندوبا لأخبار اليوم في الهيئة، وإذ عرض عليه الوزير رئاسة تحرير مجلة "الإذاعة والتلفزيون"، فقد اعتذر لأنه صغير السن، ولأن فيها "عتاولة" لا يمكنه إدارتهم، واقترح عليه اسم ياسر رزق رئيساً لتحرير المجلة، وهو ما كان بالفعل، وكانت مكافأة الوسيط زاوية أسبوعية بالمجلة مقابل ثمانية آلاف جنيه شهرياً، وقلنا حينئذ إنها خطوة أولى في طريق التصعيد للمنصب الكبير وهو رئاسة التحرير للأخبار اليومية أو أخبار اليوم الأسبوعية!
ويبدو أن ياسر كان يستشعر ذلك وأن مجلة "الإذاعة والتلفزيون" ليست آخر المطاف أو نهاية الأحلام، فاجتهد وأحياها بعد موتها، وزاد توزيعها بصورة لافتة، وكان هذا في سنة 2005. وقد جمع بين المحرر العسكري ومندوب رئاسة الجمهورية، والموقع الأخير وعلاقته بأنس الفقي فتح أمامه الباب ليكون رئيساً لتحرير الأخبار قبيل الثورة، فنجح في المهمة، ولم يكن يشك أحد أنه في هذا الموقع استعداداً لمرحلة توريث الحكم، وقد كان الفقي من القائمين على ذلك في مجال الإعلام!
لكن حدث أن قامت الثورة، ولإدراك الثوار لهذه المهمة فقد كانت صورته في تجليات الثورة بعد تنحي مبارك مرفوعة في ميدان التحرير ضمن صحفيي العهد البائد المطلوبة إقالتهم، لكن بذكاء شديد، تحول مع الثورة، وصار من زعمائها، في ما عرف بظاهرة تحول الإعلاميين، وساعده على ذلك الشباب الذين تخطوا الرقاب وشكلوا ما أطلقت عليه مبكراً "ائتلافات الوجاهة الاجتماعية"، وهم الذين كانوا يجلسون مع المجلس العسكري يتحدثون باسم الثورة، التي لم تفوضهم للحديث باسمها، وكان المجلس العسكري من يوصي بظهورهم التلفزيوني حتى صاروا من الإلحاح الإعلامي هم عنوانها الثابت!
لقد فتحت أخبار اليوم أبوابها وقاعتها الكبرى وصفحاتها كذلك لهؤلاء الذين كانوا أول من "ركب الثورة"، وكانت المفارقة الغريبة أنه في واحدة من المظاهرات التي تلت تنحي مبارك، أن صورة ياسر رزق كانت مرفوعة في ميدان التحرير ضمن صحفيي النظام البائد الذين يطلب الثوار عزلهم من مواقعهم، بينما ياسر نفسه يجلس في مقهى على بعد خطوات يدير هؤلاء الشبان، الذين تبناهم في أخبار اليوم، الأمر الذي أزعج زميلنا الراحل محمد منير، فسأله بحدة عن سر وجوده هنا، لكن أصدقاء منير من يساريين وناصريين هم أصدقاء ياسر في الوقت نفسه، تدخلوا لفض الاشتباك. والحقيقة أن ياسر رزق لم يشتبك، وهذه من سماته التي جعلت كثيرا من الذين عملوا تحت رئاسته يترحمون عليه بعد وفاته، فقد كان مهذباً، وكان في الوقت ذاته منصفاً، فلم يظلمهم ولم يجر على حقوقهم!
حدث أن قامت الثورة، ولإدراك الثوار لهذه المهمة فقد كانت صورته في تجليات الثورة بعد تنحي مبارك مرفوعة في ميدان التحرير ضمن صحفيي العهد البائد المطلوبة إقالتهم، لكن بذكاء شديد، تحول مع الثورة، وصار من زعمائها، في ما عرف بظاهرة تحول الإعلاميين، وساعده على ذلك الشباب الذين تخطوا الرقاب وشكلوا ما أطلقت عليه مبكراً "ائتلافات الوجاهة الاجتماعية"
دعاية حماية الثورة:
لقد كانت هذه المرحلة حاسمة بالنسبة للمجلس الأعلى للقوات المسلحة وقد أصبح سلطة حكم، وتولى ياسر رزق عبر "الأخبار" مهمة تقديمه للناس، بنفس ثوري، وكيف أنه حمى الثورة، ورفض طلباً لمبارك بضرب الثوار، وأن المشير محمد حسين طنطاوي هو من حمل مبارك على مغادرة الحكم، لأن الجيش كان ضد التوريث، وكثير مما يردده البعض الآن على أنه مسلمات من حماية الثورة ورفض التوريث وإجبار مبارك على التنحي، هو بسبب هذه الدعاية التي قامت بها "الأخبار" بنجاح!
كانت البداية بحلقات مطولة كتبها مصطفى بكري نشرتها الأخبار في حلقات بعناوين بارزة في الصفحة الأولى وصدرت في كتاب أو كتابين، ثم أعيد النشر دعاية للكتاب وكأن ما فيه ينشر لأول مرة!
وكانت الخطوة التالية في النشر المزور لشهادة كل من اللواء عمر سليمان، مدير جهاز المخابرات ونائب رئيس الجمهورية، والمشير محمد حسين طنطاوي، في قضية محاكمة مبارك!
كانت المحكمة قد استدعت ثلاثة شهود هم سليمان وطنطاوي وسامي عنان، ثم اكتفت بشهادة الأول والثاني، وقررت حظر النشر، وأن تتم شهادة الشهود في سرية، ومع ذلك صدرت الأخبار عقب كل شهادة بنشرها بعناوين زاعقة في الصفحة الأولى.
فها هي شهادة عمر سليمان تنشر بهذه العناوين: "نحن ننفرد بأدلة إدانة الرئيس السابق ونص قرار الاتهام. شهادة عمر سليمان أكدت تورط مبارك في قتل الثوار. كنت أنقل له كل ساعة قيام العادلي بإطلاق الرصاص الحي والمطاطي على المتظاهرين. مبارك لم يعترض ولم يوقف إطلاق النار على الجماهير. كان على علم بكل رصاصة أطلقت وبدهس الناس بالسيارات وبأعداد الشهداء والمصابين".
ونفس الأمر فعل مع شهادة المشير التي دارت حول توجيه الاتهام لمبارك بقتل الثوار، وأن الجيش رفض تنفيذ أوامر المخلوع بضرب الثوار بالرصاص الحي، وأنه من أجبر مبارك على التنحي، وأنه كان ضد التوريث!
وعندما أفرج عن الشهادتين، فزعت بأن ما جاء فيهما يخالف ما نشر في الأخبار جملة وتفصيلاً، فقد شهدا لصالح مبارك، وقال المشير إنه لم يسمع عن التوريث، وأنه لم يطالب مبارك بالتنحي، وأن مبارك لم يصدر له أو لغيره تعليمات بضرب الثوار!
عندما أفرج عن الشهادتين، فزعت بأن ما جاء فيهما يخالف ما نشر في الأخبار جملة وتفصيلاً، فقد شهدا لصالح مبارك، وقال المشير إنه لم يسمع عن التوريث، وأنه لم يطالب مبارك بالتنحي، وأن مبارك لم يصدر له أو لغيره تعليمات بضرب الثوار!
والحال كذلك، فلا يمكن أن يكون ما نشره ياسر رزق بعيداً عن الشهود، فقد كان النشر بالمخالفة لقرار المحكمة بحظر النشر؛ يستهدف استكمال مخطط التضليل، والذي لم يبدأ ليلة تنحي مبارك بالتحية العسكرية التي وجهها أحد القادة العسكريين أعضاء المجلس العسكري لشهداء الثورة!
وفي هذا التوقيت كنت ألفت الانتباه إلى من تمثل صحيفة الأخبار، التي كنت أصفها بصحيفة المجلس العسكري، وبفوز الرئيس محمد مرسي بالانتخابات، لم يغير ياسر رزق بوصلته، ولا يستطيع أحد أن يضبطه متلبساً بنفاق الإخوان أو التقرب منهم، فالأخبار في المجمل استمرت ضد الرئيس!
وإذ تشكلت لجنة "عرفية" ليتقدم إليها كل راغب في شغل منصب رئيس مجلس إدارة أو رئيس تحرير الصحف القومية، فلم يتقدم هو، فهل كان معتمداً على أن طنطاوي سيسانده؟ وإذا لم يكن في مقدوره ذلك فلن ينصفه أن يتقدم للجنة العرفية هذه، بل قد يخسر كثيرا إن تقدم ولم يتم اختياره.
لقد صدر التعيينات من مجلس الشورى صاحب جهة الاختصاص، وتم استبعاد "ياسر رزق"، ليجدها صلاح دياب فرصة مواتية ليجدد العرض القديم له وهو "رئاسة تحرير
المصري اليوم"، وهو العرض الذي تلقاه في وقت ترشيحه لرئاسة تحرير "الأخبار"، ورغم السخاء في تحديد الراتب (مائة ألف جنيه شهرياً) وهو أكثر من ستة أضعاف راتبه في الأخبار، إلا أنه قال: لن أستبدل كرسي "مصطفى أمين"، بكرسي "مجدي الجلاد"، رئيس تحرير "المصري اليوم"، فاته أن كرسي مصطفى أمين جلس عليه ممتاز القط، صاحب المقال التاريخي عن "طشة الملوخية"، لكن الناس في ما يعشقون مذاهب!
وقادت "المصري اليوم" حملة لا هوادة فيها ضد الرئيس محمد مرسي، فأطلقت عليها صحيفة المجلس العسكري، وطلبت من يعنيه الأمر النظر إلى المنشور فيها من هذه الزاوية، وهي نظرة لا بد أن تدفع للشك في إخلاص
السيسي للرئيس مرسي!
وبعيداً عن تضخيم الحراك المضاد، والنفخ فيه، فقد كانت قراءة ما بين السطور مهمة للغاية، من حيث الأخبار مجهولة المصادر، وعن مصدر عسكري يرفض دائماً ذكر اسمه. وكان واضحاً أن هناك تخوفاً من مخطط إخواني لعزل وزير الدفاع الفريق أول عبد الفتاح السيسي، ودائماً المصدر العسكري يصرح بأن الجيش لن يسكت ولن يقف مكتوف الأيدي، فهل هناك تسريبات وصلت الجيش عن تحرك إخواني؟ (لقد كان هذا في مرحلة مبكرة)!
وكتبت في هذا الوقت أنه ليس معقولاً أن تنشر مثل هذه الأخبار دون موافقة صريحة من وزير الدفاع، إن لم يكن وراء هذه التسريبات وغيرها على لسان المصدر العسكري الذي رفض ذكر اسمه، وأنني بصفتي صحفيا قديما أعلم أنه لا يمكن لصحفي أو صحيفة أن ينشرا أخباراً تخص المؤسسة العسكرية على غير إرادتها، وبما أنها لم تتخذ إجراء، فلا بد من أن تثير هذه الأخبار الريبة.. لكن قد أسمعت إذ ناديت حياً!
وقد كانت صحيفة "الوطن" لمالكها الصوري محمد الأمين، تشارك الأخبار في مهمة نشر الأخبار المجهولة عن طريق المحررة العسكرية فيها، "منى مدكور"، وتعقبت كثيراً من هذه الأخبار بمحاولة لفت الانتباه، بيد أني كنت أؤذن في مالطا أو في واد غير ذي زرع أو ضرع!
الكاهن والفرعون:
ووقع الانقلاب، وكان هذا أسعد يوم في حياة ياسر رزق، ولم يكن غريباً أن يختصه عبد الفتاح السيسي بأول حوار صحفي نشرته "المصري اليوم"، وليعود لمؤسسة الأخبار رئيساً لمجلس الإدارة ورئيس تحرير صحيفة أخبار اليوم، وكانت الفرصة مواتية ليكون هيكل، لكن السيسي لم يكن أبداً عبد الناصر!
كان شخص السيسي مغرياً بتكرار العلاقة بين "الكاهن والفرعون"، و"هيكل وعبد الناصر"، لا سيما أنه استقبل بدعاية من قبل الناصريين المؤيدين للانقلاب العسكري بأنه جمال عبد الناصر، فالجائع يحلم بسوق الخبز
لقد كان شخص السيسي مغرياً بتكرار العلاقة بين "الكاهن والفرعون"، و"هيكل وعبد الناصر"، لا سيما أنه استقبل بدعاية من قبل الناصريين المؤيدين للانقلاب العسكري بأنه جمال عبد الناصر، فالجائع يحلم بسوق الخبز. وإزاء هذه الدعاية كتبت مقالي "الاستدعاء القسري لعبد الناصر"، في الأسابيع الأولى للانقلاب، وطالبتهم فيها بأن يطلبوا من السيسي نفسه أن يقول لهم ماذا يمثل له عبد الناصر، وكلي ثقة بأنه لن يقول، ذلك لأن علاقة الانقلاب بدوائره في الإقليم تحول دون ذلك، وإذا كان مشروع عبد الناصر قام على العداء لإسرائيل فليطلبوا منه أن يحدد موقفه منها. كنت أتحداهم بكل تأكيد!
بيد أن الجميع كانوا في حلقة ذكر، فرحين بما آتاهم، وواصلوا "الزفة"، وتحولوا إلى دراويش في مولد الزعيم عبد الناصر، وما دام هو كذلك فلا بد من أن يكون له "هيكل" الكاتب المقرب من عبد الناصر، الذي كان يستدعيه فيناقش معه كل كبيرة وصغيرة، ويقضي معه ساعة أو أكثر كل ليلة في اتصال هاتفي يستأنس بحكمته ويطلب مشورته ويعرض عليه توجهاته، في ما عُرف بظاهرة "الكاتب الأوحد"، وهي العلاقة التي كتب عنها صلاح عيسى دراسته المهمة في مجلة "الهلال": "محمد حسنين هيكل تراجيديا الفرعون والكاهن". وكان واضحاً أنها أغضبت هيكل، فقاطع عيسى، لدرجة أنه لم يتصل به في مرضه ليطمئن عليه عندما أجرى عملية القلب المفتوح، وقد نسي الفضل بينهما. وعندما ضيقت السلطة على كتاب "خريف الغضب"، فإذا بصلاح عيسى ينشره على أسابيع في "الأهالي" التي كان يشغل فيها موقع مدير التحرير، وعلى هيئة سؤال وجواب، وكأنها مقابلة صحفية، وللإفلات من المصادرة إذا نسب المنشور للكتاب، وفي الوقت ذاته استغلالاً لعدم رغبة النظام الجديد (نظام مبارك) في أن يستهل سياساته بمصادرة الصحف!
كتب صلاح عيسى: "وليس هيكل سوى كاهن تعيس الحظ مات فرعونه قبل الأوان..
لم يحصل هيكل على كرسي الكهانة مصادفة، بل تطبيقاً لقوانين التاريخ، ولأن عبد الناصر لم يكن فرعوناً تافهاً فإن كاهنه كان مقتدراً وذكياً وموهوباً بالفطرة..
هيكل لم يمارس دوره بمنطق الكهنة المأجورين بل بروح العشاق المفتونين، فسخر كل مواهبه في خدمة الفرعون".
ما كتبه صلاح عيسى موجع، وقد أوجع هيكل وهو يفسر هذه العلاقة، ويقرأ سيكولوجية "الكاهن والفرعون"، لكن ظلت هذه العلاقة ملهمة لكتاب البلاط، وكان هيكل نفسه بمثابة كاهن يبحث دائماً عن فرعون، لكن السادات ومبارك لم يكونا مستعدين لتكرار التجربة. وقد توسع السادات في علاقته بالكتّاب، ومن أنيس منصور إلى أحمد بهاء الدين، ومنهما إلى موسى صبري، وكان حريصاً دائماً على ألا يبدو أسيراً لصحفي بعينه، وتجلى هذا في طلباته المتكررة من بهاء الدين أن يكتب له خطبه، وبعد أن يناقش معه الخطوط العريضة، ثم يقرأ معه الخطاب بعد كتابته، ويصوب ويعدل، يفاجأ بهاء الدين نفسه بأن السادات يتلو خطاباً آخر غير هذا الخطاب، لا يعرف من كتبه، ولم يسأله في ذلك، مع أنه يكون قد استدعاه من الكويت حيث يعمل في جريدة "الوطن" الكويتية، وعلى النحو الذي ذكره في كتابه "محاوراتي مع السادات"!
وكان السادات مهتماً بتفاصيل العمل الصحفي، وكثيرا ما يلتقي بالصحفيين في جلسات طويلة، وحرص على أن يلتقي بشباب الصحفيين الذين كان يتوسم فيهم خيراً من أجل إعدادهم لمرحلة لم تأت، وقد اكتشف الدكتور محمد إسماعيل علي من السطور التي نشرت له في "بريد الأهرام"، ودعاه لمقابلته، وعينه مستشاراً له وكاتباً في "الأهرام"!
ومع هذا كان حريصاً ألا يكرر تجربة هيكل، ولم يكن مبارك مشغولاً بالصحافة أو بالسياسة، وإن كان لا بد من كتاب للبلاط، فقد أبقى على من ورثهم من السادات، وأضاف إليهم في وقت لاحق سمير رجب، لكن لم تكن لديه هذا العلاقة المتميزة التي ربطت السادات بهم.
ولهذا ظلت فكرة الكاتب الأوحد هي الأكثر غواية للبعض، ومن هنا فعندما جاء السيسي كان لسان حال القوم: هذا ربي، هذا أكبر!
ولم يكن ياسر رزق وحده الذي حلم بهذا الدور، فقد نافسه الحلم عبد الله السناوي، وعبد الحليم قنديل، والثلاثة ينتمون للفكر الناصري، وإن كان رزق لم يستمر درويشاً للمرحلة الناصرية ولم ينف انتماءه لها منذ انخراطه بها في الجامعة، لكن انتماءه لمهنته كان أكثر عمقاً.
وقد تحطم هذا الحلم لدى قنديل والسناوي، لكنه ظل يراود ياسر رزق بحكم كونه قريباً من السيسي، وقد لفت انتباهي في التسريبات الأولى أن السيسي الذي لا يسمع لأحد ينصت لياسر رزق باهتمام، فأيقنت أنه تقدير منه بقدراته وموهبته، حتى وصفته بأنه "كليم السيسي"، وربما كان لهذا الوصف أثر بعد ذلك في إنهاء العلاقة، وإن لم يكن كل الأسباب!
تحطم هذا الحلم لدى قنديل والسناوي، لكنه ظل يراود ياسر رزق بحكم كونه قريباً من السيسي، وقد لفت انتباهي في التسريبات الأولى أن السيسي الذي لا يسمع لأحد ينصت لياسر رزق باهتمام، فأيقنت أنه تقدير منه بقدراته وموهبته، حتى وصفته بأنه "كليم السيسي"
ونظراً لهذه العلاقة، فقد كنت أقرأ ما يكتبه ياسر رزق باهتمام وأهتم بالرسائل التي بين السطور، على أساس أنها تعبير عن توجه السيسي نفسه، وليست مجرد أفكار كاتب بعيداً عن الحاكم، فيطلب أو يقترح!
وكنت أول من كتب عن تعديل الدستور، بعد قراءة مقال له يؤكد من موقع الكاتب ضرورة ذلك، وتمكنت من أن أقف من خلال ما كتب على ملامح هذا التعديل المرتقب!
وعندما كتب يطلب من جمال مبارك التوقف عن الظهور في الأماكن العامة، قلت إن هذا تحذير من السيسي نفسه، وليس رؤية مجردة لكاتب، وبالفعل توقف نجل الرئيس السابق عن الظهور، وكان قد بدأ من التفاف الناس حوله كما لو كان بديلاً محتملاً!
وكان ياسر رزق حريصاً على أن يكون في علاقته بالنظام على قواعد السابقين من الكتاب، فهو هيكل في علاقته بعبد الناصر، وهو إبراهيم نافع، ومكرم محمد أحمد، وإبراهيم سعده، في علاقتهم بمبارك، إنهم ليسوا تابعين لأي مؤسسة أمنية، ولكنهم رجال النظام، ورأسهم برأس مراكز القوى فيه مثل صفوت الشريف، ويوسف والي، وفتحي سرور، وكان يكتب في تأييده للسيسي عن قناعة، تساوي بالضبط قناعة موسى صبري في دفاعه عن السادات حياً وميتاً!
وكاتب الأجهزة يكتب لشخص بعينه، ولكن كاتب النظام يسعى لإقناع الناس بصحة موقفه وسلامة سياسات النظام، ويعمل على إطالة عمر النظام!
ولم ينتبه إلى أن هذا الحضور لعدد من الأجهزة في الملعب، يجعله هدفاً لها، وأغضب موقفه الرافض لاقتحام قوات الأمن لنقابة الصحفيين بعض هذه الأجهزة.
إن كثيرا من كتاب البلاط هاجموا وزارة الداخلية على هذا التصرف غير المسبوق، لكن بعد ساعات كتبوا جميعاً رسالة وصلتهم تحمل عنوان "لم نكن نعلم"، أي لم نكن نعرف أن هذا الاقتحام هو تنفيذ لقرار النيابة بالقبض على متهمين، وشكلوا ما عرف بحركة "تصحيح المسار"، عملت من أجل تأميم النقابة وإزاحة المناكفين بالانتخابات، وظل ياسر رزق على موقفه، متمثلاً مواقف الآباء الكهنة!
وليس سراً أنه استمر بصفته رئيساً لمؤسسة أخبار اليوم، يوافق على الإجازات السنوية لمن يعملون في الإعلام المعادي بحسب التصنيف الأمني، بل استمر يوافق على الإجازة السنوية لمن لهم علاقة بدرجة أو بأخرى بجماعة الإخوان المسلمين، في الوقت الذي يدعو فيه لاستئصال "الجماعة الإرهابية"، لكنه كان يريد أن يطبق القواعد القديمة بأن الجماعة الصحفية لا تُسأل عن توجهاتها السياسية!
وكان لا بد من أن يدفع ثمن موقفه الرافض لاقتحام النقابة، ومع أول تغييرات في المواقع الرئيسة بالمؤسسات الصحفية فقد منصب رئيس التحرير، وإن استمر رئيساً لمجلس الإدارة، وذلك تنفيذا لمطلب قديم هو الفصل بين التحرير والإدارة، وهو ما تم في بعض المؤسسات القومية بعد مرحلة الكبار مكرم، ونافع، وسعده، وسمير رجب، واستمرت هذه السياسة بعد الثورة سواء في مرحلة حكم المجلس العسكري، أو حكم الرئيس محمد مرسي!
بدأت كتاباته تأخذ منحى آخر، فقد غلبت عليها محاولة إثبات الولاء، فلم يعد "موسى صبري"، ولكنه تحول إلى "سمير رجب"، وانتهى حلم أن يكون هيكل، ليس بالوفاة ولكن قبل ذلك!
لكن بعد الانقلاب العسكري، وقع الجمع من جديد، وكان واضحاً أن الفصل هو حق يراد به الانتقام من ياسر رزق، الذي تم تجريده من مهنته وهو الصحفي الموهوب. ومنصب رئيس مجلس الإدارة هو منصب إداري، وإن كان مسموحاً له بكتابة مقال، إلا أنه ليس من سلطته التدخل في شأن من شؤون التحرير!
وإذ كان هناك من رشحوه لتولي منصب وزير الإعلام عندما تقرر عودة هذا المنصب، فقد كانت المفاجأة في عودة أسامة هيكل، الوزير في ولاية المجلس الأعلى للقوات المسلحة، والمحرر العسكري السابق لجريدة الوفد!
وبعد أن عملت بعض الأجهزة والأفراد على إفشال أسامة هيكل، كانت البورصة ترشح ياسر رزق كبديل له، لكن حدث ما لم يكن في الحسبان!
لقد امتلأت مؤسسة أخبار اليوم بمنشورات تتهم زوجة ياسر رزق، الزميلة أماني ضرغام، بالفساد. وهي صحفية في الأخبار، التحقت بها قبل زواجها منه. وتضمنت هذه المنشورات كلاماً عن حصولها على شقق ونحو ذلك من جهات حكومية، لم يتم التحقيق في صحتها فقد كان الهدف هو الاغتيال المعنوي لياسر، وقد حدث بالفعل وفقد منصب رئيس مجلس الإدارة وسط دهشة المراقبين!
ولأننا نعتقد أن هذا الفساد المالي ليس دافعاً للنظام للتخلص من رجاله، فنعتقد - لهذا - أن هناك من قام بتدمير العلاقة التي ربطت السيسي بياسر رزق!
وبعد ذلك بدأت كتاباته تأخذ منحى آخر، فقد غلبت عليها محاولة إثبات الولاء، فلم يعد "موسى صبري"، ولكنه تحول إلى "سمير رجب"، وانتهى حلم أن يكون هيكل، ليس بالوفاة ولكن قبل ذلك!
إن الكاهن يلزمه فرعون، وإن هيكل يحتاج لعبد الناصر، والسيسي ليس هذا أو ذاك!
twitter.com/selimazouz1