في فضاء ساحر بنقوشه، التقته "عربي21"، في ضيافة قدماء جمعية نهج الباشا، إنه الحكواتي هشام الدرويش مدير المركز الوطني للاتصال الثقافي، جاء ليلقي محاضرة فنية فكرية بأسلوبه الخاص، حول دور الإعلام الافتراضي في تثمين التراث الشفوي التونسي بعنوان "قالوا ناس بكري" (أي ناس زماااان).
لم يحتكر هشام درويش الكلمة، بل ترك التعبير منسابا بعفوية على ألسنة الحضور الذين أجمعوا على ضرورة تثمين التراث التونسي اللامادي على وجه الخصوص وصيانته، من خلال تدخلات عميقة ورشيقة، مكبرين في الحكواتي الذي قدم بسطة ضافية عن جهوده في هذا المجال، وإصراره على حفظ هذا التراث كما وكيفا مادة وأسلوبا.
هشام الدرويش يقدم على أمواج الإذاعة الثقافية حلقات سهرة الحكواتي التي تجاوزت الخمسين حلقة في موسم واحد، معيدا لهذا اللون ألقه بعدما كاد يختفي أو ينقرض من خلال تقنيات جديدة تشد الكبار، والصغار.
هل ما زال للحكاية بريق وألق في تونس؟ وهل استنطق درويش التراث العربي، الزاخر بالحكايات المشحونة بالعجائبية مثل "ألف ليلة وليلة، وحي بن يقظان، ومقامات بديع الزمان الهمذاني، وكليلة ودمنة" وغيرها؟ وماذا عن ترجمة الحكايات والخرافات المقتبسة من التراث العالمي، من منطوق شفوي إلى لغة إشارة؟ هذه الأسئلة وغيرها كانت محور حديثنا مع الحكواتي هشام الدرويش:
سلسلة حكايات درويش ما هي؟ وهل استفدت من لقبك درويش بكل دلالاته منها الطيبة والبركة والتصوف، في مسار الحكاية؟
تعتبر سلسلة حكايات تتويجا للمشروع ثقافي المتمثل في تثمين التراث الشفوي عن طريق الإعلام الافتراضي والإبداع منذ سنة 2018 وذلك من خلال إعداد وتقديم برنامج "قالو، قلنا" الذي يعتمد على الأمثال الشعبية التونسية إنتاج قناة "ماين تي في" الرقمية وحلقاته العشر موجودة على قناة يوتيوب الخاصة بي، إلى أن جاءت تجربة الحكواتي من خلال اقتباس الحكايات الشعبية من التراث العالمي من العربية والفرنسية وحتى الانكليزية إلى الدارجة التونسية مع توظيف بعض الأمثال الشعبية والأقوال المأثورة التونسية كي تستجيب لخصوصية التونسي في مختلف أوساطه فأصبحت حكايات تونسية موجهة للصغار والكبار سميت سلسلة حكايات درويش من العالمية إلى الدارجة التونسية.
كان اللقب العائلي "درويش" منسجما مع التسمية ومع روح الحكاية وفن الحكي خاصة إذا علمنا أن شخصية "الفداوي" والحكواتي منذ القدم تتميز في وسطها الاجتماعي بالحكمة ورجاحة العقل والطيبة.
هل ما زال للحكاية بريق وألق في تونس؟
هو نفس السؤال تساءلته مع نفسي قبل خوض تجربة الحكواتي، وقبل ملاقاة الجمهور العريض قمت بتقديم الحكايات على أفراد العائلة المضيقة لمعرفة ردود الأفعال ومدى التقبل فكانت النتيجة مشجعة ودون مجاملات.
وانطلقت في أولى العروض مارس 2018 من عمق البلاد، كان الإقبال مبهرا ومشجعا، ولمست لدى الأطفال كما الأولياء تعطشا كبيرا للحكاية الشعبية وتراثنا الثقافي الشفوي الثري.
توظيف بعض الأمثال الشعبية والأقوال المأثورة التونسية وتركيبها في سياق ترجمة لتراث علمي كيف وجدتها؟
كان توظيف الأمثال الشعبية والأقوال المأثورة التونسية في كتابتي للحكايات، داعما في الحبكة الدرامية للأحداث، تفاعل الشخصيات فيها فرصة وجدتها للتعريف بهذا التراث الشفوي وتثمينه.
الحكاية دورها كبير تربويا وبيداغوجيا في تمرير العبرة والمعلومة إلى الأطفال. ماذا عن الجانب الفني؟
يعتبر فن الحكي تعبير ثقافي وفني موغل في القدم، تعتمد على اللعب الدرامي والركحي (المسرحي)، وتوسل فن البلاغة والإلقاء، وهذا ما يعزز دور الحكاية التربوي والبيداغوجي.
فعندما يعتمد الحكواتي على توسعة خيال المتلقي من خلال مهاراته الفنية والمسرحية، وقدرته على شد المستمع، وحصر انتباهه إلى نهاية الحكاية مهما كان طولها، إلى أن يصل الأمر إلى تشريك الجمهور في سرد الحكاية، وهو يتفاعل مع منطق الأحداث، وتسلسلها الدرامي، فهو يتوقع ما سيحصل في مسار الحكاية وتسلسلها وحتى التكهن بخاتمتها.
ماذا عن مشاركتك في منتدى "حرف ولون" اللبناني بإشراف الدكتور عماد الترحيني والهادف إلى التعريف بالتراث الشفوي؟
كانت فترة الحجر الصحي الشامل سنة 2020 ملهمة لعديد المبادرات والأنشطة الفنية والثقافية، فعبر مواقع التواصل الاجتماعي أصبح العالم كله بمثابة قرية أو حي وعائلة واحدة، نتقاسم فيها الأمسيات والليالي عبر تطبيقات افتراضية، تتيح لنا اللقاء في عدة مجالات ومنها منتدى حرف ولون الثقافي بإشراف الدكتور والشاعر عماد الترحيني الذي اقترح علي أن اؤمن أمسية كل يوم خميس لقاء مع أعضاء المنتدى الافتراضي، للتعريف بالتراث والثقافة التونسية، فكنت طيلة شهرين كل على موعد مع الحكايات التونسية والأمثال الشعبية، والتراث اللامادي، ووقفت على حقيقة مفادها أن تراثنا العربي واحد حتى وإن تفرق في الأمصار، ولا يختلف إلا في المنطوق، حسب لهجة كل بلد.
يعتبر التراث العربي، من أغنى المصادر الأدبية بهذه الحكايات المشحونة بالعجائبية، ومن أشهرها "ألف ليلة وليلة، حي بن يقظان، مقامات بديع الزمان الهمذاني، وكليلة ودمنة"، هل استنطقتها؟
قد أفاجئك عندما أقول إني لم اعتمد كثيرا على البعد العجائبي في الحكاية، ولم أعد تقديم حكايات المرحوم عبد العزيز العروي، رغم تشبيهي به من قبل الملاحظين والنقاد، ومع اعتزازي بهذا التشبيه الذي أعتبره تشريفا لي، ولا أنكر تأثري بأدائه، إلا أني حرصت على إعطاء الطابع الخاص بي في كتابتي للحكاية، وتقديمها في لبوس أزعم أن فيه من التجديد والمعاصرة والبساطة الكثير.
هشام الممثل هل يجد نفسه في تجلياته الحكائية؟
ساهمت تجربتي المسرحية في مختلف مراحلها من الهواية إلى المسرح الجامعي والمسرح المحترف كممثل وكمخرج مسرحي في بعض الأعمال الفرجوية، في أداء جيد لعروضي الحكائية من أجل شد انتباه المتلقي، كما أن التدريبات الصوتية ضمن مجموعة "زخارف عربية" مع الموسيقار محمد القرفي في فريق الإنشاد، ساهم أيضا في تمكني من حسن الإلقاء والتبليغ.
وكانت لي مؤخرا تجربة ضمن "أوبرا شهرزاد" بدعوة كريمة من الموسيقي سمير الفرجاني ملحن الأوبرا والمايسترو الذي نفذ الموسيقى، طلب مني الاندماج في العمل من خلال تقمص دور الراوي ومقدم للعمل بطريقة الحكواتي، فكتبت نصا مستوحى من لب نص الاوبرا الذي حاكته الشاعرة والروائية د. آمنة الرميلي، وضعت الحكاية في إطارها وقدمت العمل، وختمته في انسجام تام مع المضمون. هي تجربة أعتز بها خاصة عندما تكون فيها الفنانة اللبنانية كاهنة المسرح جاهدة وهبة.
أطلقت اسم "في الإشارة حكاية" من خلال ترجمة الحكايات والخرافات المقتبسة من التراث العالمي من منطوق شفوي إلى لغة إشارة، لماذا هذه التجربة؟
انطلقت فكرة مشروع "في الإشارة حكاية" من الحق الدستوري الذي يكفل فئة ذوي الاحتياجات الخاصة الحق في الثقافة للجميع، فعندما قمت بسلسلة من عروض "لايف" الحكاية الشعبية على الفيسبوك خلال الحجر الصحي الشامل، انتبها إلى هذه الفئة، فقمت بنداء أبحث فيه عن مترجمي لغة الإشارة، كي تكون حكاياتي متاحة بلغة ذوي الإعاقة السمعية، وبالفعل تم التوصل بسرعة إلى الجمعية التونسية للغة الإشارات، وأصبح "اللايف" بعد ذلك متاحا بلغة الإشارات، وتم التفاعل بصفة متميزة من قبل الصم مع حكايات درويش، وبلورت خلالها مشروع "في الإشارة حكاية" خاصة لدى تعييني مديرا على المركز الوطني للاتصال الثقافي.
وانطلاقا من مبدئه القائم على إتاحة المعلومة الثقافية والفنية للجميع، كانت الشراكة بين المركز والجمعية من أجل إتاحة حق نفاذ الصم إلى المسالة الثقافية والفنية بصفة عامة.