في حين تتوالى الأزمات في تونس على كل صعيد، وحيث لم تزل مشكلة حل المجلس الأعلى للقضاء تتفاعل في أروقة المحاكم وضمير الطبقة السياسية، تتجدد المطالبات الشعبية والنخبوية بتعديل المسار وإعادة الأمور إلى نصابها قبل الانقلاب، ولم يزل القضاة متمسكين بحقهم في قضاء مستقل بعيد عن توجيهات القصر وتدخل وزارة الداخلية، ويرفضون إجراءات قيس سعيد، ويصفونها بالتغول على السلطات وجمعها في يده، بما يشكل بناء نظام دكتاتوري مكتمل الأركان.
وفي الأثناء، يتخوف المقاومون لإجراءات قيس سعيد من أن يُلحق السلطة الرابعة بالسلطات الرسمية الثلاث، بتقييد أذرع الصحافة والإعلام وتوجيهها بمراسيم رئاسية، ليصبح الإعلام التونسي صورة طبق الأصل عن إعلام أحمد موسى في مصر؛ وهو ما يعني أن قيس سعيد ينصب نفسه دكتاتورا من الطراز الرفيع أسوة بصديقه الخائب عبد الفتاح السيسي، الذي لا يمكن لحاكم يمتلك أدنى قسط من الوعي أن يرضى بالتشبه به، فهو يمثل فضيحة وطنية ودولية كبرى. والسعي للتشبه به يؤشر على ضعف وهشاشة، ويشي بمتشبّه أرعن ليس لديه برنامج ولا يعرف إلى أن يتجه؛ لأن السيسي نفسه لم يمتلك يوما خطة وبرنامجا، وكل ما قام به حتى اليوم، لا يخرج عن كونه أوامر رئاسية غير ناضجة، وكثير منها يبعث على السخرية.
لقد خلق سعيد نوعا من الإحباط لدى التونسيين، ودفع الشباب إلى فقدان الثقة بالطبقة السياسية كلها، وهو الذي استغل إحباط الشعب بعامة والشباب بخاصة؛ ليقوم بانقلابه الأسود، ثم ليضع الشباب في حالة أكثر إزراء وإحباطا من ذي قبل، وما إلغاؤه قانون 38 القاضي بتشغيل العاطلين عن العمل، إلا دليل دامغ على كذب وعوده، واستغلاله حيوية الشباب وحماستهم ولهاثهم في البحث عن مخرج لأوضاعهم المزرية، للوصول إلى ما خطط له منذ اليوم الأول لفوزه بالانتخابات.
لقد ركب قيس سعيد على أكتاف الشباب ليصل إلى كرسي الرئاسة، بمساعدة عدد كبير من التونسيين المقيمين في الخارج، الذين أسهموا بشكل كبير في الدعاية له من خلال صفحات التواصل الاجتماعي، وثمة من قال بأن أشخاصا ممن يرتبطون بدول أجنبية، هم من قاموا بتمويل حملته الإلكترونية سرا؛ فوصول سعيد للرئاسة مشوب بكثير من الغموض والأسرار التي تنتظر من يكشفها لعامة الناس، ليكون ممكنا فهم توجهات سعيد وطريقة تفكيره، وما الذي يريد أن يصل إليه بالضبط، ومن يقف خلف إجراءاته ويمنحه شيئا من الثقة بنتائجها.
قبل الانقلاب بخمسة شهور تقريبا، كان للرئيس الأسبق المنصف المرزوقي تصريح مثير للجدل حيث قال: "كان لقيس سعيد مواقف ضد الثورة ومع الثورة المضادة". وهذا التصريح الذي لم يسبق أن اتهم أحد به سعيد من قبل، ومرّ مرور الكرام، ولم يأخذه أحد مأخذ الجد، ولم يحاول أحد أن يسأل المرزوقي عن هذه المواقف، حتى من الطبقة السياسية، لكن نواياه وعلاقته بالثورة ظلت مثار شك وتساؤل طوال الوقت، قبيل الانقلاب وبعده. وكان أبسط اتهام وجه له أنه "أكاديمي اقتحم مجال السياسة من خارجه، وأنه لم يسهم في إسقاط ابن علي حتى بكلمة واحدة، بل كان ناشطا في دوائر حكم ابن علي، ولم يكن مؤهلا سياسيا، والمعارضة لا تعرفه، وفجأة صار يتحدث باسم الثورة" كذبا وزورا.
وبسبب بعده عن المجال السياسي، لم يستطع وضع برنامج انتخابي، واتكأ على شعارات شعبوية كان لها كبير الأثر على نفوس الشباب الذين تحمسوا له، وقاموا بدور كبير في إيصاله لمنصب الرئاسة، وكان من بين ما تعهد به، احترام الدستور، الذي بدأ به محطِّما حلما تونسيا كان يتجه بقليل من الإصلاحات إلى مجتمع يتمتع بالحرية والديمقراطية والرفاه الاجتماعي، حيث قضى على هذه الأحلام بنزقه وتهافته وعناده الصبياني، البعيد عن واقع التونسيين واحتياجاتهم، حتى إنه لم يعرف حتى اللحظة سبب الغلاء الذي ينخر عظام الفقراء، فلا يجد غير الحديث عن الاحتكار، وهو وهْم في رأسه فقط، وذلك أكبر دليل على جهله وضيق أفقه. وهنا لا بد من أن نعترف بكثير من الموضوعية والصدق، أن من أبرز الأسباب في ارتفاع الأسعار هو الغلاء العالمي بالدرجة الأولى، بالإضافة إلى انخفاض قيمة الدينار التونسي الذي تسبب فيه إجراءات قيس سعيد الأخيرة.
لقد بدأ قيس سعيد عهده الجديد إبان الانقلاب بالكذب، فافتأت على تفسير الدستور، وادعى زورا أنه استشار كلّا من رئيس الحكومة ورئيس البرلمان، في حين كان رئيس الحكومة رهينة في قصرّه الجمهوري، وتعرض للضرب والإهانة، وأجبر على التنازل عن رئاسة الحكومة. أما رئيس البرلمان راشد الغنوشي؛ فقد كذّب قيس سعيد في ادعائه، ولم يستطع قيس سعيد الرد عليه لأنه يعرف أنه كاذب. ولا يزال يمارس الكذب كلما تحدث عن الحرية والديمقراطية، أو عن تعاطفه مع الفقراء والمعطلين عن العمل، أو حين يتحدث عن الاتهامات الموجهة لخصومه، فالكذب ديدنه الذي لا يستطيع التخلي عنه، وهو يشبه في ذلك السيسي تماما. فكيف يمكن للشعب التونسي الوثوق بوعوده وانتظار الفرج الوهم الذي لا ينطلي إلا على المغفلين؟
ومعروف أن من يكذب هو الضعيف الذي لا يمتلك الحقيقة ولا يدرك الأبعاد والمسافات، فهو مضطر للكذب لأنه لا يجد شيئا حقيقيا ومقنعا يقوله للتونسيين؛ فالكذب أسهل الطرق للتخلص من حالات الحرج التي يعرض نفسه لها كل يوم، في ظل الوضع المتعفن الذي أوصلنا إليه.
لقد ظل قيس سعيد يرفض الحوار طوال الوقت، ويدعي أن الحوار يجب أن يكون مع الشباب ليس غير، ولا أدري عن أي شباب يتحدث؟ أيتحدث عن شباب افترسه البحر؟ أم عن شباب لا يجد عملا ولا عيشا كريما؟ أم عن شباب تائه حائر بين وعود رئيسه الخلبية وواقعه المخيب للآمال؟
قيس سعيد لن يعمر طويلا، فهو يمضي في نفق معتم متعرج غامض لا يؤدي إلى ضوء، لأن بلوغ نهايته بات مستحيلا في ظل اعوجاج المسار، وحلكة الليل، وصراخ الجوعى والمساكين، وإحكام القبضة على مقدرات الشعب وإنجازات ثورته. والسقوط هو النتيجة الحتمية والمآل الأخير، وربما يكون ذلك قريبا، أو هكذا نتمنى.