حققت رواية صاحب الظل الطويل للكاتبة جين ويبستر بنسختها العربية نجاحا مذهلا، حيث كان الإقبال عليها كبيرًا، والسبب في ذلك هو أن هذه الحكاية، وبالطبع بطلتها جودي أبوت، تحظيان بمكانة مميزة في ذاكرتنا الطفولية، فلا عجب أن يهرع جمهور المسلسل الكرتوني، صاحب الظل الطويل، لشرائها، مدفوعا بالشوق والحنين الدافئ إلى ذكريات الطفولة، ومسكونا برغبة لقراءة رسائل جودي مجسدة حبرا على ورق في هذا الكتاب الذي يحوي كلمات وأحداث لا تُنسى.
وقد دفع ذلك دار تكوين الكويتية إلى إصدار الجزء الثاني من الرواية، بعنوان عدوي اللدود، ترجمة بثينة الإبراهيم، وعلى الرغم من أن الرواية تتبع نظام الرسائل ذاته، إلا أنها كانت مختلفة تماما، حيث كانت سالي مكبرايد، صديقة جودي في أيام الدراسة، بطلة الحكاية، وهي من كتبت جميع الرسائل الواردة في الكتاب، والتي كانت مرسلة إلى جودي، فجعلتنا نتشارك معها تفاصيل يومها ومشاعرها وآمالها العظيمة.
المهمة الصعبة
عهدت جودي أبوت إلى صديقتها سالي مهمة إدارة ميتم جون غرير، رغم أن جودي تعلم عن حياة العبث التي تحياها سالي بعد التخرج من الجامعة، لكن ذلك جعلها أكثر إصرارا وإلحاحا، وهو ما يعكس يقينا عميقا لدى جودي بالتغيير الذي قد يحدثه الانغماسُ في عمل يحتاج قدرا كبيرا من المسؤولية في صديقتها سالي، صحيح أن سالي ضحكت كثيرا وهي تحت التأثير الصدمة من هذا الطلب اللامنطقي، لكنها وافقت في نهاية الأمر، شريطة أن يتم استبدالها فور عثورهم على مشرفة تكون أكثر استحقاقا منها.
تكشف سالي في رسائلها الأولى عن رغبة عارمة بالبكاء نظرا لسوء المكان الذي وضعت فيه، وتصف رسائلها بدقة حال الأطفال في ذلك الميتم، والبؤس الذي يخيم فوق مئة من الوجوه الصغيرة وبين الجدران، وهو ما ولد داخل سالي قرارا بتغيير سياسات هذا الميتم المتهالك، فتبدأ رحلة محفوفة بالصعوبات في سبيل أن يحظى هؤلاء الأطفال الأيتام بمكان أفضل.
"يبدو هدفا مستحيلا أن يتمكن شخص واحد من إعادة الضياء إلى مئة وجه صغير، في حين أن ما يحتاجونه هو أم لكل واحد منهم!".
إن لم تجد المصعد، استعمل الدرج!
لقد صاغت الرائعة جين مفهوم المحاولة والفشل وصولا للنجاح بطريقة مذهلة، فسالي فتاة عادية، ولا تمتلك مؤهلات مميزة، ولا حتى عصا سحرية تجعلها تحول الميتم البائس إلى حديقة غناء بين ليلة وضحاها، وفي هذه الرواية، ومن خلال رسائل سالي لجودي، يتتبع القارئ التغييرات البسيطة التي تبدأ بها سالي في هذا الميتم، والتي لا تبدو، للوهلة الأولى، كافية لتكون باعثة للأمل، ولكن استمرار سالي في تلك التحركات البسيطة والمضي قدما بخطوات صغيرة، أحدث فرقا صار ملموسا، ولم يقف الأمر عند ذلك، بل إن كل التغييرات الصغيرة التي قامت بها جذبت الكثير من الفرص التي كان لها يد في إحداث انقلاب جذري للأفضل في كثير من الجوانب، فبعد أن كانت سالي تحاول فرض سياسة تهوية الغرف وتغيير قائمة الطعام وورق الجدران، أنشأت مخيما كشفيا، وحقلا لتعليم الزراعة، والكثير من الأمور التي ستجعل القارئ مندهشا وشديد الإعجاب والتأثر، وربما كان الجزء الأكثر أهمية من ذلك كله، تنبه سالي إلى ضرورة تغيير الأفكار أيضا، فمسحت عبارة "سيطعمنا الرب" المكتوبة على حائط غرفة الطعام، وكتبت مكانها:
"لقد منحك الرب يدين اثنتين وعقلا وعالما كبيرا تستخدمها فيه".
وقد وصفت المترجمة بثينة الإبراهيم هذه الرواية بأنها "ملهمة، ونحتاج كلنا أن نقرأها لكي نتذكر مكاننا الصحيح في العالم، ونتصرف على أساسه".
تغيير الذات يعني تغيير العالم
تكمن المفاجأة الحقيقية عند نظرك إلى نفسك بعد رحلة شاقة كنت تحاول فيها تحقيق ما كنت تظنه صعبا وشبه مستحيل، لتجد أن هناك شيئا آخر نما في داخلك وبدأ يتوغل في أعماقك، ويجعلك أكثر سموا وحكمة، لا شيء يمكنه أن يتغلب على فكرة تؤمن بذاتها، وقد حشدت سالي كل قوة استلهمتها من العائلة والأصدقاء وحتى الأعداء لتجعل أكثر من مئة طفل يتيم قادرين على الانطلاق في هذا العالم بثقة وثبات.
سالي وإذ ظنت أنها تقوم بتغيير ذلك الملجأ البائس لتجعله مكانا أفضل، كانت قد انتبهت إلى أن الملجأ قام بتغييرها بالمقابل، وبذات الدفء والبذل اللذين وهبتهما للميتم، كان قد وهبها شخصية قيادية بقوة ناعمة قادرة على إحداث الفرق، لقد تغيرت سالي بالفعل، ولم تعد ذاتها قبل دخولها إلى الملجأ، وهذا ما جعل الميتم مختلفا، وهو ما سيجعل العالم يختلف كذلك.
لماذا سالي وليس جودي؟!
صاغت الكاتبة، على لسان سالي، رسائل متقدة يمتزج فيها الحزن بالبهجة فتتفجر فيها العاطفة، إذ سلطت الضوء على قصص اليتامى الصغار، وعلى معاناتهم وأحلامهم البريئة، لا يمكن تمالك الدموع حين تصف سالي مدى حاجتهم إلى حضن دافئ ولمسة حانية، وفرحتهم الغامرة بقلم ملون، أو لعبة مستعملة، لقد كان بريق الدهشة غير خاف في كلماتها وأحاسيسها، وهو ما يجعل تتويجها كبطلة للرواية في محله تماما.
لقد وصفت سالي الأمر بدقة وإشفاق، فبعد تنحية جودي عن الأضواء، بدت القصة أكثر قربا من ذواتنا، فلو كانت جودي لشعرنا بجرعة ثقيلة من المثالية، وكمية هائلة من الدراما تنساب من قصة حول يتيمة ترعى أيتاما مثلها وتنجح في جعل حياتهم رائعة، كما أن جودي لن تصف الميتم وأطفاله بحماس سالي المتعطش للتفاصيل والغارق في الصدمة والإشفاق، فمن المعروف أن جودي عاشت حياة شديدة القسوة ولم تعرف والديها، لذا فلن يدهشها أي شيء مما قد تراه، وعليه فإن جعل سالي مشرفة الملجأ ومخلصته كان موفقا ومشوقا، خصوصا حين تدير الميتم فتاة ليس لديها أدنى فكرة عن ما تعنيه كلمة بؤس وشقاء، فتثير التساؤلات وفضول معرفة إذا كانت ستنجح أم ستفشل، وهل ستغادر مستسلمة أم ستبقى؟
"حياة جودي وسالي جعلت الدهشة تملؤهما، حين تعرفان أمرا لم تتخيل أي منهما أن أحدا في العالم يعيشه، إذ لم تعرف جودي حياة العائلة يوما ولا متعة أن يكون لها أقرباء، ولا عرفت سالي أن على الأرض مكانا كئيبا يقضي على المرء مثل ميتم جون غرير".
أرى أنه سيكون من الرائع أن نحظى بعمل سينمائي أو تلفزيوني لهذه الرواية المذهلة كما حظينا بصاحب الظل الطويل.