سير ذاتية عربية تظهر كنوز تاريخ الفكر الإسلامي (2من2)

الكتاب: سير ذاتية عربية
الكاتب: مصطفى نبيل
الناشر: دار الهلال، القاهرة

اعترافات الإمام الغزالي ورحلته من الشك إلى الإيمان (450- 502هـ):

هذه سيرة من نوع خاص، تحكي قصة مفكر كبير يبحث عن اليقين، يغوص في كل معارف عصره، ويدرس كل ما خطه الفلاسفة والفقهاء ويتوه في بحر بلا شطآن، وتضطرب به الأمواج يبحث عن الضياء وسط ظلمة الشك الحالكة، ويقدم تجربته العقلية وتطوره الفكري، في كتابه "المنقذ من الضلال"، وفي مغامرته ترك التدريس والجاه والصيت، وفر بنفسه من بغداد عاصمة الخلافة، واعتزل بالشام، وأغلق على نفسه منارة دمشق، وحج إلى الأراضي المقدسة وأخرج كتابه الهام "إحياء علوم الدين".

توصل بعد هذه الرحلة إلى أن الإسلام دين المنطق السليم والعقل الحر، وإذا كان العقل هو أداة المعرفة، فإن الحواس تشوش عليه، مما دعاه إلى نقد المعرفة الحسية عندما يشوش الوهم على وظيفة العقل، فالمعرفة إما أن تكون بالمحسوسات وإما أن تكون بالعقليات، والمعرفة بالمحسوسات لا أمان لها، لأنك "تنظر إلى الكوكب فتراه صغيراً في مقدار دينار، ثم تدل الأدلة أنه أكبر من الأرض، بمقدار"، وأيضاً المعرفة بالعقل وحده لا يقين فيها ولا ثقة، لأنه يمكن أن تطرأ على الإنسان حالة تكون نسبتها إلى العقل كنسبة اليقظة إلى النوم، وكثيراً ما يكذب العقل الإحساس، وينكر الإحساس العقل.

فإذا كان العقل قادراً على معرفة كثير من الأمور، مثل الاستدلال على وجود الصانع، وعلى حدوث العالم، فإن هناك أموراً ليس للعقل سبيل إلى القطع بها، مثل البعث والثواب والعقاب.

الغزالي وديكارت

يختار الغزالي "الشك" كدرب إلى اليقين، وهي فكرة قديمة عُرفت عند السفسطائيين، وما أكثر الشبه بين تجربة الفيلسوف الفرنسي ديكارت (1596- 1650م)، وتجربة الغزالي، حينما نقرأ ما خطه الغزالي: "الشكوك هي الموصلة إلى الحق، فمن لم يشك لم ينظر، ومن لم ينظر لم يبصر، ومن لم يبصر بقى في العمى والضلال".

ويعرف في كتابه "المنقذ من الضلال" معيار العلم، وفي تعريفه بالعلم اليقيني وبيانه لشروط اليقين يسبق ديكارت. فقد لاحظ ديكارت في كتابه "نقد العقل المحض" أنه تلقى مجموعة من المسلمات الخاطئة وشك في معارفه جميعاً، حسية كانت أم عقلية، فانتظر حتى بلغ النضج، وحرر نفسه من الأهواء والأفكار والمشاغل، وعكف على هدم أفكاره القديمة، ووجد شيئاً لا يقبل الشك، وهو حقيقة كونه يشك، ووجد في البداية أن معارفه تأتي عن طريق الحواس واكتشف أن الحواس يمكن أن تكون خادعة، واستخدم ذات الحجج التي استخدمها الغزالي بشأن الأحلام واليقظة، فيذكر: "أني أرى في أحلامي ما أعتقد أنه الحقيقة، وعند يقظتي أجدها وهماً"، ويصل إلى ضرورة الافتراض التخميني لكي يصل إلى العلم اليقيني: "ومادمت أقوم بهذا الافتراض فأنا موجود، وكائن، ومادمت موجوداً فأنا أفكر في أشياء لا تُعرف سوى بالفكر وحده، لا لأنها تُرى وتُلمس ولكن لأنها تُفهم وتُدرك، إذن فجميع الأشياء تُدرك بالفكر لا بالحواس". وقدم ديكارت نظرية الشك كنظرية متماسكة الحلقات.

يختار الغزالي "الشك" كدرب إلى اليقين، وهي فكرة قديمة عُرفت عند السفسطائيين، وما أكثر الشبه بين تجربة الفيلسوف الفرنسي ديكارت (1596- 1650م)، وتجربة الغزالي، حينما نقرأ ما خطه الغزالي: "الشكوك هي الموصلة إلى الحق، فمن لم يشك لم ينظر، ومن لم ينظر لم يبصر، ومن لم يبصر بقى في العمى والضلال".

أما الإمام الغزالي فميزان الحكم لديه هو الدين، فالله قد أعطانا عقولاً، وأودع في أنفسنا تفكيراً منطقياً، وطريقة للفهم وأسلوباً للبحث والاستقصاء. ويذكر في "المنقذ من الضلال": "النفس الإنسانية تكون في أول أمرها خالية من كل معرفة، ثم يدرك الإنسان بوسائل الإدراك وكل إدراك يطلعه على نوع من الموجودات، وأول ما يحصل للطفل إدراك الحواس، حتى إذا نما الطفل ظهر فيه التمييز، الذي يساعده على إدراك أشياء أعلى من المحسوسات، ثم يترقى إلى دور العقل، فيدرك الأحكام العقلية. وبرهانه على صحة ما نطلق عليه "الحدس"، وجود معارف عند الإنسان لا يمكن أن تتم إلا بهذا النوع من الإدراك، مثل الطب والفلك، فمن يبحث عنها علم بالضرورة أنها لا تدرك إلا بإلهام إلهي، ولا سبيل إليها إلا بالتجربة، فلو قيل لأحد "هل يجوز أن يكون في الدنيا شئ، هو بمقدار حبة يوضع في بلدة، فيأكل تلك البلدة بجملتها، ثم يأكل نفسه، فلا يبقى من البلدة وما فيها، ولا يبقى هو نفسه، لقال: هذا محال وهو من الخرافات، وهذه حالة النار ينكرها من لم ير النار إذا سمعها".

أسامة بن منقذ (488ـ 548هـ)

هذه سيرة الفارس العربي أسامة بن منقذ، الذي عاش في عصر الشعر والفروسية، وخاض غمار الحروب الصليبية، وسجل تجربته في كتاب "الاعتبار"، التي تؤكد أن العجز أمام الغازي يؤدي عادة إلى التفكك والتناحر، وإذا انتهى التناحر زالت الهزائم.

من هنا جاءت أهمية كتاب "الاعتبار"، الذي يمثل وثيقة هامة، استمرت مجهولة ومحفوظة في مكتبة الاسكوريال بأسبانيا، حتى نشرها المستشرق الفرنسي هيرتويج دربنورج، ثم ترجم بعدها إلى عدة لغات منها الفرنسية والروسية والإنجليزية، ونال الكتاب هذا الاهتمام لما يقدمه من حقائق حية حول أحد فصول الصراع بين الشرق والغرب.

لخص أسامة دوره ودور الفارس في عبارة موجزة "القوي للضعيف، والفرد للمجموع"، يسجل في سيرته وشعره الكثير من صور الحروب الصليبية بكوارثها وأحزانها، عاش خلالها حلاوة النصر ومرارة الهزيمة، وانتقلت مشاعره بين اليأس والرجاء، وتراوحت وهو يتابع التطاحن بين الأمراء والمذاهب، بينما الجميع مهددون بجيوش غازية جرارة.

عاش أسامة بن منقذ فترة في كنف عمه حاكم شيزر، الذي كان يعده للإمارة، فلم يكن له أولاد، وشاءت الأقدار أن يرزق العم أولاداً، فتحول الحب والرعاية إلى خوف وحقد، وانتهى به الحال إلى الرحيل. 

وصل أسامة إلى القاهرة عام 539هـ، وفي صحبته أمه وزوجته وابنه وأخوه ونفر من أتباعه، وهو يأمل أن يتمكن من القيام بدوره في صد الغزاة، فبلاده تخوض صراع أقدار، وأخذت تقوم الإمارات الصليبية في الشام، وكانت سوريا وفلسطين تعانيان من التشرذم والتناحر، واشتعلت المنافسة والقتال بين الإمارات، وغياب حاكم قوي يوحد البلاد، والدولة الفاطمية تتفكك، واشتعلت الخصومة بين الخلافتين العباسية والفاطمية، وبدأ عماد الدين زنكي يوحد البلاد الممتدة من الموصل إلى مصر، والذي واصلها من بعده نور الدين محمود، وأكملها صلاح الدين الأيوبي. هذا هو باختصار السياق التاريخي الذي وصل خلاله أسامة إلى مصر.

يقدم لنا أسامة صورة للإفرنج في هذه المرحلة التاريخية، بقوله: "إنهم بهائم، فيهم فضيلة الشجاعة والقتال لا غير"، وتوجد ملاحظات ذكية متفرقة طوال ترجمته الذاتية، يتأمل نظام الفروسية الذي يتبعونه، فيقول:"والإفرنج خذلهم الله، ما فيهم فضيلة من فضائل الناس سوى الشجاعة، ولا عندهم تقدمة ولا منزلة عالية إلا للفرسان، ولا عندهم ناس إلا الفرسان، فهم أصحاب الرأي والمشورة وهم أصحاب القضاء والحكم".

ثم يروي قصة غريبة جرت وقائعها في حمام المعرة: "يدخل أحد فرسان الإفرنج إلى الحمام، ويرى عربياً حليق العانة، ويطلب منه أن يعلمه كيف يحلقها، وبعد أن علمه طلب منه،ما يؤكد قلة غيرتهم، وهو أن يعلم امرأته، وأرسل في طلبها وجاءت إلى الحمام، واستلقت على ظهرها، حتى علمها، ورجلها قاعد ينتظر، ثم شكر العربي على حسن صنيعه!". ويتسائل أسامة معلقاً: "ليس فيهم غيرة ولا نخوة، وفيهم الشجاعة العظيمة، وما تكون الشجاعة إلا لمن لديه النخوة والأنفة".

علي باشا مبارك (1823ـ 1893م)

علي باشا مبارك، أحد الشخصيات التاريخية في حياة مصر الحديثة، وهو أول من كتب ترجمته الذاتية في العصر الحديث، ولم يكتف بذلك، بل ترجم لكل أثر وحجر في مصر، ورصد التغير الاجتماعي في عصره. ورغم إنجازاته، توقف الكتاب والمؤرخون حيارى أمام موقفه من الثورة العرابية والاحتلال البريطاني لمصر عام 1882.

ساهم في حركة النهوض الوطني الحديث، وأقام لها أساساً راسخاً، وبدأ رحلته من أعماق الريف في ظروف بالغة الصعوبة، هي ذات ظروف شعب مصر في القرن التاسع عشر، ورفض الواقع الذي كان يعيشه، وتطلع إلى حياة وآفاق جديدة، وأصبح أحد الرجال المرموقين، وساهم في مسئولية الحكم وتولى الوزارة أكثر من مرة، جمع خلالها بين التعليم والأوقاف والأشغال، فكان بحق مهندس مصر الأول.

ساهم في "العمران"، وطور القناطر الخيرية وشق الترع والقنوات، وسجل تجربته في كتابه "الخطط التوفيقية"، الذي يعتبر من أهم الكتب التي صدرت في القرن التاسع عشر، رصد فيه التغير الاجتماعي الذي تعيشه البلاد، وسجل شوارع وجوامع ومدارس وحمامات وأسبلة القاهرة، وكأنه يخاف عليها من الاندثار أو النسيان، وسجل المدن والقرى والنجوع على طول الوادي وترجم لأعلامها، ولم يؤرخ في خططه للقاهرة وحدها ولا للحكام وحدهم، بل استعرض بانوراما الحياة المصرية، وصدرت خططه في عشرين جزءاً وخمسة مجلدات، أعادت الهيئة العامة للكتاب نشر ثمانية أجزاء منها.

وبعث من جديد في سفره القيم نهج المقريزي في خططه، فوصل حاضر الخطط بماضيها، وأظهر مقدرة فائقة على تحقيق المعالم والمواقع، ومقارنتها بما كانت عليه في الماضي، ووضع رحيق خبرته التي اكتسبها خلال الوظائف العديدة التي تولاها في هذا الكتاب.
 
كان علي مبارك أول من رصد الحركة الاجتماعية بمصر في القرن التاسع عشر، ولاحظ خلالها دور ولي النعم في مصير الأعيان، فالحكومة هي المصدر الرئيسي للنفوذ والفلوس، فالنفوذ في الريف يتركز في بقايا عائلات المماليك والملتزمين السابقين، فمثلاً عند استعراضه لمدينة أسيوط يتحدث عن ".. قيسارية محمد بك الدفتردار التي بناها سنة 1238هـ، وقت أن كان مديراً لأسيوط"، ويذكر عن رفاعة الطهطاوي أن مصدر ثروته الضخمة، هي منح الأرض التي حصل عليها خلال عهود محمد علي وإبراهيم وسعيد وإسماعيل "فبلغ جميع ما ملكه حين وفاته 1600 فدان غير ما جدده من الأملاك والعقارات في بلده وفي القاهرة". 

من ناحية أخرى، يدين علي مبارك الانتفاضات الشعبية الثلاث التي حدثت في عهد محمد علي، بعد أن يسرد تفاصيلها، ويرى في كل منها مصدر تعاسة القائمين بها، وسبباً في زوال النعمة وخروجاً على طاعة الإمام!.

شهدت "قنا" الانتفاضة الأولى عندما تزعم أحد المشايخ حركة الفلاحين ضد قرارات محمد علي، وطرد الشيخ عمال الحكومة وأقام حكماً محلياً، وتمكن "محمد علي" من القضاء على هذه الانتفاضة بعد شهرين بعد أن جرد لها حملة عسكرية قضت عليها، أما الانتفاضة الثانية فشهدتها الأقصر ضد الفرمانات الجديدة لمحمد علي، ووقعت الانتفاضة الثالثة في قرية "قاو" في أوائل عهد إسماعيل سنة 1865م، ويسجل بالنسبة لواقعة "قاو" فيقول: "كان أهلها أهل يسار لخصوبة أرضهم وجودة محصولها.. فأتاهم من كان سبباً في إزالة تلك النعم عنهم وإبادة كثير من أنفسهم وأموالهم وتخريب بيوتهم".

هنا يبدو فكر "علي باشا مبارك" رافضاً للفكر الثوري، ومن المنتمين إلى المدرسة الليبرالية التي تؤمن بالتطور المتدرج، وأن الحياة الاجتماعية تحمل بذور عناصر التطور، وتملك آلية إصلاح المسار والتغلب على العقبات، ويعارض الثورة بما تحمله من احتمالات الفشل، وما تنادي به من التجديد والتجريب.

رغم ذلك، فقد جرف تيار الثورة العاتي المصريين جميعا، وتحدى هذا التيار في إحدى اللحظات التاريخية نهجه وأسلوبه، وكان من العسير عليه وهو الراصد للحركة الاجتماعية في مصر أن يكون بعيداً عنه، خاصة وهو الفلاح الذي شق طريقه من أعماق الريف، وبالفعل تعاطف مع الثورة العرابية في أيامها الأولى، وكانت "مندرته" كعبة لرجالها، وكان يتردد عليها زعيم الثورة أحمد عرابي، ويسجل تاريخ الثورة أن "علي مبارك" كان يتبرع لها بسخاء، كما ينسق في عمله العام معها، ويتضامن مع محمود سامي البارودي في وزارة رياض، ويسجل "بلنت" أن كلاً من علي مبارك والبارودي كانا يضعان العقبات في طريق رياض باشا سنة 1881م، لكي يعود شريف باشا لرئاسة الوزارة كجزء من خطة العرابيين، ويصبح "علي مبارك" أحد أقطاب حزب الثورة، الحزب الوطني.

كانت هذه مواقفه قبل دخول الثورة العرابية مرحلة التحدي والصدام التي أعقبها الاحتلال، وهنا وقف الكتاب والمؤرخون حيارى أمام مواقف لعلي مبارك تبدو متضاربة من الثورة وأحداثها، فهل تخلى علي مبارك عن الثورة في لحظاتها الحرجة؟، وما هو موقفه من القوات البريطانية التي احتلت البلاد؟.     

إقرأ أيضا: سير ذاتية عربية تظهر كنوز تاريخ الفكر الإسلامي (1من2)