الكتاب: "الحزب الشيوعي الإسرائيلي والنكبة.. الموقف والدور"
المؤلف: محمود محارب
الناشر: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2022
يقدم الباحث الفلسطيني وأستاذ العلوم السياسية محمود محارب في كتابه دراسة معمقة وشاملة لدور الحزب الشيوعي الإسرائيلي في النكبة، وانخراطه القوي في الاستراتيجية الإسرائيلية طيلة فترة حرب 1948 في المجالات العسكرية والسياسية والإعلامية والدولية، مستندا في ذلك على وثائق الحزب وأدبياته المنشورة باللغتين العربية والعبرية، والموجودة في عدد من الأرشيفات الإسرائيلية. كما أنه يعرض لمواقف الحزب المتماهية مع أهداف ومبادئ الحركة الصهيونية، التي تجاهلت الطبيعة الكولينيالية للحركة وتحالفها مع الدول الاستعمارية، ومحاولاته لتجاهل المجازر التي ارتكبتها الحركة الصهيونية.
ويؤكد محارب في كتابه أن الحزب الشيوعي الإسرائيلي تبنى أثناء حرب 1948 الرواية الرسمية الإسرائيلية بجميع تفاصيلها، غير أنه كان حريصا على استعمال المصطلحات الماركسية في روايته التي تعزز وتبرر فرضيات الرواية التاريخية الإسرائيلية مثل: صراع الطبقات، والطبقات العاملة، والقوى التقدمية، والعداء للإمبريالية. ويلفت إلى أن بحثه في هذا الكتاب يتابع دور الحزب في الفترة من أواخر سنة 1947 وحتى نهاية حرب 1948 وتوقيع اتفاقيات الهدنة بين إسرائيل والدول العربية في سنة 1949، ولا يتطرق إلى الدور المعاصر للحزب الشيوعي الإسرائيلي، حيث شهدت مواقف الحزب بعد العام 1955 تطورا تدريجيا باتجاه معارضة السياسات الإسرائيلية والتضامن مع الشعوب العربية والشعب الفلسطيني، لكن سياسات الحزب خلال النكبة ظلت تؤثر في روايته التاريخية عقودا طويلة، وفي مواقفه من الحركة الوطنية الفلسطينية، والأهم من ذلك أنه لم يجر مراجعة نقدية لمواقفه الفكرية والسياسية تلك، وظل يهاجم من يؤدون هذا الدور النقدي، بحسب محارب.
خلفية صهيونية
في الفصل الأول من الكتاب يقدم محارب لمحة تاريخية لنشوء الحزب، الذي كان يسمى الحزب الشيوعي الفلسطيني حتى العام 1947، ويشير إلى أن جذور الحركة الشيوعية في فلسطين تعود إلى اليسار الصهيوني العمالي، ففي سنة 1919 أسس مستوطنون صهيونيون حزب العمال الاشتراكي إثر انشقاقهم عن حزب "عمال صهيون" في فلسطين.
كان من الواضح أن هدف اليسار الصهيوني لم يقتصر على العثور على "حل قومي" للمسألة اليهودية في أوروبا، وإنما شمل أيضا إيجاد "حل اشتراكي"من خلال تأسيس مجتمع يهودي استيطاني اشتراكي، ومن ثم دولة يهودية اشتراكية في فلسطين. أما الأغلبية العربية في فلسطين فقد أنكر عليها اليسار الصهيوني أي دور أو مكان في ذلك المجتمع الاشتراكي.
لقد تجاهل اليسار الصهيوني رفض العرب الفلسطينيين للاشتراكية الصهيونية، أو علله بـ "التخلف" و"فقدان الوعي الطبقي"، رافضا الإقرار بأنه كان نتيجة وجود تناقض مادي أساسي بين وجود الشعب الفلسطيني والمشروع الصهيوني الساعي إلى تأسيس دولة يهودية على حسابه. كان قادة الحزب الشيوعي الإسرائيلي وأعضاؤه مستوطنين يهودا، هاجروا إلى فلسطين من أوروبا في إطار أحزاب وحركات صهيونية يسارية، وظلوا منخرطين في مجتمع المستوطنين الكولونياليين اليهود في فلسطين ولم يحاولوا الانسلاخ عنه، كما أنهم لم يسعوا إلى الاندماج في الشعب العربي الفلسطيني الذي كان يشكل أغلبية السكان فظلوا غرباء عنه.
منذ العام 1944 تحرك الحزب الشيوعي الإسرائيلي، بقيادة شموئيل ميكونس ومئير فلنر، بوضوح نحو الصهيونية وتحقيق أهدافها، ولكن من دون أن يتبناها رسميا. واستبدل مصطلح الصهيونية بمصطلحات تؤدي المعنى نفسه مثل القومية اليهودية، او الوطنية الإسرائيلية، وصار يشير إلى فلسطين بـ"أرض إسرائيل" وإلى الشعب العربي الفلسطيني بـ"عرب أرض إسرائيل".
لقد تجاهل اليسار الصهيوني رفض العرب الفلسطينيين للاشتراكية الصهيونية، أو علله بـ "التخلف" و"فقدان الوعي الطبقي"، رافضا الإقرار بأنه كان نتيجة وجود تناقض مادي أساسي بين وجود الشعب الفلسطيني والمشروع الصهيوني الساعي إلى تأسيس دولة يهودية على حسابه.
ويرى محارب أن ثمة مجموعة من العوامل ساهمت في وصول الحزب إلى دعم إنشاء دولة يهودية للمستوطنين في فلسطين أهمها؛ الخلفية الصهيونية للحزب وواقع وجوده باعتباره جزء من حركة كولينيالية استيطانية، وازدياد تأثير الأيديولوجية الصهيونية على الحزب سيما خلال وبعد الحرب العالمية الثانية، وإدراك قيادة الحزب أن باستطاعة المنظمات العسكرية الصهيونية، وخاصة الهاغاناه، فرض الدولة اليهودية في فلسطين بالقوة العسكرية، فضلا عن موقف الاتحاد السوفييتي الداعم لتقسيم فلسطين، حيث تبنى الحزب هذا الموقف بعد ثلاثة أيام من إعلان الاتحاد السوفييتي عن موقفه، وقبل نحو شهر ونصف من إصدار الجمعية العامة للأمم المتحدة قراراها بهذا الخصوص.
أسلحة تشيكوسلوفاكيا
أولى الحزب الشيوعي الإسرائيلي أهمية قصوى لموقف دول أوروبا الشرقية بقيادة الاتحاد السوفييتي من القضية الفلسطينية، وسعى لتجنيد مختلف أنواع الدعم من هذه الدول لإقامة الدولة اليهودية، عبر تكثيف اتصالاته بالأحزاب الشيوعية فيها. عام 1948 سافر ميكونس، بتكليف من اللجنة المركزية،في جولة إلى أوروبا الشرقية شملت رومانيا، ويوغسلافيا وبلغاريا وتشيكوسلوفاكيا، وبولندا، هدفت بشكل أساسي للحصول على مختلف أنواع السلاح لمنظمة الهاغاناه والجيش الإسرائيلي، والعمل على تجنيد اليهود في هذه الدول وخاصة ذوي الخبرة العسكرية منهم، والعمل على فتح أبواب الهجرة اليهودية من هذه الدول إلى فلسطين، وإقامة معسكرات في بعض هذه الدول لحشد المتطوعين اليهود وتدريبهم تمهيدا لإرسالهم إلى فلسطين، بالإضافة إلى تنظيم حملة سياسية وإعلامية تهدف إلى تشويه نضال الفلسطينيين، وتمجيد سعي المستوطنين إلى إقامة دولة يهودية.
تمكن ميكونس بالاتفاق مع قادة القسم الدولي في الحزب الشيوعي التشيكوسلوفاكي من إقامة فيلق مكون من تشيكوسلوفاكيين يهود ليحارب إلى جانب إسرائيل في حرب 1948، بلغ عدد أعضائه 1500 عسكري منهم 500 جندي من الحزب الشيوعي الإسرائيلي، وتعهدت الحكومة التشيكوسلوفاكية بتزويد الفيلق بالسلاح الذي تموله الحكومة الإسرائيلية، ولاحقا جرى دمج هذا الفيلق في الجيش الإسرائيلي. وبعد تسريحهم من الجيش وطن قسم كبير من أفراد الفيلق، بمبادرة من الحزب الشيوعي الإسرائيلي، في قرية إجزم الفلسطينية جنوب حيفا، والتي كانت قوات الهاغاناه والبلماح قد هجرت أصحابها العرب الفلسطينيين الذين كان عددهم نحو 3000 نسمة في أواخر تموز/ يوليو 1948. وجرى توطين البقية في قرى وبلدات فلسطينية أخرى مهجرة من بينها الجاعونة.
يقول محارب أن تشيكوسلوفاكيا كانت مصدر الأغلبية العظمى من الأسلحة التي حصلت عليها إسرائيل خلال سنة 1948، وقد بلغ دخلها من بيع السلاح إلى الجيش الإسرائيلي نحو الربع إلى الثلث من دخلها من العملة الصعبة. ويضيف أن إسحاق رابين الذي كان قائد لواء في منطقة القدس في حرب 1948 كتب في مذكراته يقول:" من دون السلاح التشيكوسلوفاكي الذي من المؤكد أنه كان وفق تعليمات من الاتحاد السوفييتي من المشكوك جدا فيه إذا ما كان بقدرتنا الصمود في حرب استقلالنا.. عندما حصلنا على البنادق والرشاشات والمدافع والطائرات من تشيكوسلوفاكيا تمكن جيش الدفاع الإسرائيلي من الصمود..".
الدعم السوفييتي
يتوقف محارب عند موقف الاتحاد السوفييتي من الصهيونية في تلك الفترة ويرى أن هناك مجموعة من العوامل ساهمت في تخليه عن الموقف المعادي لها، وتحوله إلى تأييد مشروعها لإقامة دولة يهودية في فلسطين. أهم هذه العوامل اعتقاده أن ذلك يساهم في إضعاف الوجود الاستعماري البريطاني في الشرق الأوسط، ومحاولته دق أسافين بين الدولتين الاستعماريتين: بريطانيا التي كانت تسعى لإطالة أمد انتدابها على فلسطين، والولايات المتحدة الأمريكية التي كانت تدعم إنشاء دولة يهودية وإنهاء الانتداب. فضلا عن رهانه بأنه سيكون له نفوذ في إسرائيل بسبب تبوء الأحزاب العمالية الصهيونية قيادة مجتمعات المستوطنين الذين كان قد هاجر أغلبهم من روسيا وأوروبا الشرقية، واعتقاده ان دعمه إنشاء دولة يهودية قد يكسبه تأييد يهود العالم ولا سيما يهود الولايات المتحدة الأمريكية، لتصوره أنهم يتمتعون بنفوذ في سياستها الخارجية. ولذلك ومنذ أعلن دعمه إنشاء الدولة اليهودية في أكتوبر 1947 لم يدخر وسعا في تقديم الدعم والمساعدات المختلفة للوكالة اليهودية وإسرائيل لتحقيق هذا الهدف.
يؤكد محارب أن الحزب الشيوعي الإسرائيلي، ومنذ اللحظة الأولى، أيد بقوة توسيع حدود الدولة اليهودية في المنطقة المخصصة للدولة العربية وفق قرار التقسيم، وهو ما يعني تأييده الواضح لاحتلال الهاغاناه والجيش الإسرائيلي للمدن والبلدات والقرى الفلسطينية، وتجاهل بالتالي عمليات الطرد المنهجي التي نفذتها المنظمات المسلحة والجيش الإسرائيلي، كما أنه تجاهل المجازر المروعة التي ارتكبت بحق الفلسطينيين، ومع احتلال كل بلدة ومدينة كانت صحيفة الحزب "كول هعام" تشير إلى ذلك باعتباره انتصارا جديدا للدولة اليهودية.
الحزب أيد أيضا استعمال القوة العسكرية الإسرائيلية من دون تحفظ ضد المدن والبلدات الفلسطينية الواقعة خارج المنطقة المخصصة للدولة اليهودية بحسب قرار التقسيم، لاحتلالها وضمها، على الرغم من أن عددا كبيرا من هذه البلدات والمدن لم يكن مسلحا،
يقول محارب إن مجزرة دير ياسين التي انتشرت أخبارها في معظم أرجاء العالم لم تلق أي اهتمام من قبل الحزب وتجاهلها رغم أن كثيرا من تفاصيلها الدقيقة كانت معروفة لقادة الأحزاب والتنظيمات العسكرية، لكن ذلك لا يدعو للاستغراب فالمئات من أعضاء الحزب وأنصاره كانوا كذلك يقاتلون في صفوف البالماخ والهاغاناه اللتين ارتكبتا مع الجيش الإسرائيلي عشرات المجازر. اللافت أن الحزب الشيوعي لم يكن وحده من تجاهل مجزرة دير ياسين، فقد تجاهلتها أيضا وسائل الإعلام في الاتحاد السوفييتي ولم تشر إليها لا من قريب ولا من بعيد، لا حين وقوعها، ولا في الأشهر التي تلت تاريخ وقوعها.
يتابع محارب بأن الحزب أيد أيضا استعمال القوة العسكرية الإسرائيلية من دون تحفظ ضد المدن والبلدات الفلسطينية الواقعة خارج المنطقة المخصصة للدولة اليهودية بحسب قرار التقسيم، لاحتلالها وضمها، على الرغم من أن عددا كبيرا من هذه البلدات والمدن لم يكن مسلحا، وفق ما ذكر الحزب مرارا، ولم يشكل خطرا على إقامة الدولة اليهودية. الأدهى من ذلك أن الحزب، منسجما مع الموقف الرسمي الإسرائيلي وروايته التاريخية، ظل ينفي تنفيذ عمليات طرد الفلسطينيين من بلداتهم ومدنهم، ويبرئ الجيش الإسرائيلي والمنظمات العسكرية اليهودية من هذه الجريمة، وواصل الادعاء بأنها مؤامرة استعمارية لتشويه سمعة إسرائيل تتحمل مسؤوليتها القيادة الفلسطينية والاستعمار البريطاني وقيادات الدول العربية.
كيف حول الفساد تونس إلى دولة فاشلة؟ مفاهيم ومعطيات (1من2)
في الدوافع العميقة للحرب.. مناظرة فكرية بين أنشتاين وفرويد
العرب في استراتيجيات الهيمنة الأمريكية.. المقدمات والمآلات