أصبح شهر رمضان موسما سنويا لتزوير التاريخ وسرقة "الرواية" من قبل نظام الانقلاب في مصر. في العام الماضي عرض مسلسل "الاختيار 2" ليزور أحداثا تتعلق بمظاهرات 30 يونيو ومجزرة رابعة، فيما يعرض هذا العام الجزء الثالث من المسلسل والذي يعالج كما يبدو من حلقتيه الأولى والثانية فترة حكم الرئيس مرسي التي استمرت لعام واحد، شهدت مصر خلاله أحداثا ساخنة كثيرة.
كتب الكثير من المصريين ممن عايشوا تلك الفترة ردودهم على الرواية التي يقدمها المسلسل، وهي ردود مهمة في مجملها لكشف الحقيقة، ولكن تبقى هناك ملاحظات على هامش المسلسل الذي يبدو أنه سيصبح عادة سنوية سيئة! بعيدا عن رواية التاريخ والتاريخ المضاد.
الملاحظة الأولى هي دلالة إصرار النظام على كتابة تاريخ على مقاسه لأحداث لا تزال قريبة العهد، شهدت معظم الأجيال التي على قيد الحياة تفاصيلها. لم يكن قائد الانقلاب بحاجة لتزوير التاريخ لو كان مقتنعا أن الشعب يؤمن بروايته لهذه الأحداث، ولذلك فإن كثرة الأعمال الدرامية التي تعرض أحداثا تاريخية قريبة هي دليل واضح على إدراك النظام لضعف روايته، ما يدفعه لمحاولة تقويتها وإقناع الناس بها.
وفي نفس إطار الفشل، فإن هذه الأعمال الدرامية تدل على أن النظام لم يتمكن من تحقيق إنجازات في الواقع لإرضاء الشعب وإقناعه، فيلجأ بدلا من ذلك لصناعة إنجازات وهمية في المسلسلات. لو كان النظام ناجحا في سياساته الاقتصادية والاجتماعية وفي استراتيجيته في الداخل والخارج لما احتاج للكذب واختراع بطولات يرويها في الدراما الرمضانية. إن دلالة الفشل هنا مزدوجة، إذ أن النظام حتى عندما أراد اختراع بطولات وإنجازات كاذبة فقد جعلها بطولات في معارك داخلية مع شعبه أو جزء من شعبه، وهو ما يعني أنه وصل لقاع الحضيض من الفشل في إدارة صراعاته الخارجية، لدرجة أنه لا يستطيع أن يصنع مجرد أكاذيب عنها. هذا نظام فاشل داخليا وخارجيا، يحاول تعويض فشله بمسلسلات هابطة القيمة عالية تكاليف الإنتاج!
ثمة ملاحظة في الشكل أيضا تؤكد عجز هذا النظام وفشله، وهي لجوء صناع الفيلم المرتبطين بالأجهزة الأمنية و"السيادية" لصناعة صورة مزورة تدعم رواية النظام للأحداث. لقد تم اختيار ممثل معروف بأدوار الآكشين طويل القامة يمتلك جسما رياضيا لأداء شخصية السيسي قصير القامة، بينما استخدم المكياج لإظهار شكل الرئيس الراحل مرسي بصورة مسيئة، وهو ما يعبر عن عقدة لدى قائد الانقلاب من صفاته الخلقية التي هي من صنع الله كما يعبر أيضا عن عقدة من نظرة الناس للرئيس المظلوم محمد مرسي، فلو كان النظام ومخابراته يؤمنون أن الرئيس مرسي غير مقبول شعبيا لما حاولوا تشويهه بمقابل تضخيم صورة السيسي بل وتغيير صفاته الخلقية!
لا يوجد نظام يسعى لبناء شرعيته عبر المسلسلات والدراما إلا إذا كان فاشلا في بناء شرعية حقيقية تقوم على الإنجاز في المجال السياسي والاقتصادي، ولم يسبق أن طلب نظام من كبار نجوم السينما في بلاده أداء شخصية رئيسه وهو على قيد الحياة، إذ أن شرعية الرئيس الذي لا يزال في منصبه تبنى على إنجازاته ويعبر عنها من خلال خطاباته وظهوره الإعلامي، وإذا احتاج لشرعية أخرى فإنه يلجأ لإرث رؤساء سابقين أو مؤسسين للدولة التي يقودها، أما أن يسعى الرئيس لتغيير شكله وترويج إنجازات كاذبة وهو على رأس عمله، فهي سابقة لم تحدث حتى في أعتى الديكتاتوريات!
يحاول السيسي ونظامه منذ الانقلاب العسكري عام 2013 صناعة "عدو" يحاربه النظام وجيشه وينتصر عليه. هذا العدو هو الإخوان وميراثهم القصير في الحكم (الذي لم يكن حكما حقيقيا أصلا)، ورغم ضعف هذا "العدو" وغيابه الكامل عن الصراع السياسي في مصر، وتشتت قياداته بين القبر والسجون والمنافي إلا أن النظام يحرص على إبقاء العدو المتوهم حاضرا في مخيلة الشعب المصري، وذلك لأنه نظام فشل في كل معاركه الحقيقية، وخضع تماما لخصومه الخارجيين وخصوصا في ملف سد النهضة الحيوي والاستراتيجي للمصريين.
يسعى النظام منذ انقلابه لتشويه الرئيس مرسي، وتضخيم صورة البطل في السيسي، ولكن التاريخ لا يزال حاضرا، ولا يمكن تغييره، وبرغم تقصير المعارضة وخصوصا الإخوان في تقديم روايتها الخاصة للتاريخ، إلا أن السيسي شكّل بأفعاله صورته الحقيقية أمام الشعب المصري والشعوب العربية، كشخص منقلب خان قسمه أمام رئيسه، وفشل في منح مصر موقعها الذي تستحقه، فيما ترك الرئيس مرسي إرثا واضحا يمحو كل أخطائه السياسية، هو إرث الصمود في مواجهة الانقلاب والدفاع عن شرعية الانتخاب وعن حق الشعب المصري في الاختيار، حتى لقي الله شهيدا.
شتان بين من يستأجر ممثلا "طويلا" ليغير حقيقة قامته القصيرة -شكلا وفعلا- وبين من خلده الله دون دراما ومخرجين شهيدا مظلوما إلى يوم الدين!
الاختيار 3.. لا تحسبوه شراً لكم!
السيسي وقيس سعيّد.. ساعة الذروة
الاحتيال المركب ومتوالية الاستخفاف.. المواطنة من جديد (95)