قضايا وآراء

كيف استبقت سلطات الاحتلال الهبة الفلسطينية في رمضان؟

1300x600

شكلت المقاومة الفلسطينية شعبية كانت أو مسلحة في عام 2021، نقطة مفصلية في الصراع مع الاحتلال، إذ شارك الفلسطينيون في مختلف مناطق وجودهم في الهبة الفلسطينية الشاملة، التي انطلقت من مدينة القدس المحتلة ووصلت حتى الأراضي المحتلة عام 1948، وقد أسهم إطلاق المقاومة في قطاع غزة معركة "سيف القدس" برفد هذه الهبة، لتشمل كل فلسطين التاريخية، وهي معطيات حققت بأنساقها الشعبية والمسلحة تحولًا استراتيجيًا، وما زالت تداعياتها ماثلة حتى اليوم.

وشكل اقتحام الأقصى في 28 من رمضان الماضي في 10/5/2021، أبرز شرارات الهبة، إلى جانب ما جرى في ساحة باب العمود وحي الشيخ جراح، وهي قضايا لم تنته حتى اللحظة، فما زالت أعين الاحتلال على ساحة باب العمود، بل عمل على فرض واقعٍ جديد في الساحة، إلى جانب تحضير "منظمات المعبد" مجموعة من الاعتداءات بالتزامن مع "عيد الفصح العبري"، أبرزها تقديم "القربان الحيواني" داخل المسجد الأقصى، وتنظيم اقتحامات حاشدة للمسجد، وهذا ما يدفع نحو تفجر الأحداث إذ يتزامن "الفصح" مع الأسبوع الثالث من شهر رمضان.

ومع تصاعد مؤشرات اندلاع هبة فلسطينية جديدة، عملت سلطات الاحتلال على تطبيق العديد من الإجراءات على الصعد العسكرية والميدانية والسياسية، في محاولة لتطويق أي إمكانية لتفجر الأحداث في المدينة المحتلة، ويمكن الإشارة في بداية المقال إلى وجود مسارين لدى الاحتلال، الأول يحاول فيه تطويق الهبة القادمة، ويضغط لعدم حدوثها، من خلال مختلف الأدوات المتاحة لديه. أما في المسار الثاني، فيريد استمرار التهويد وتصعيد استهداف المسجد الأقصى، بعيدًا عن أي تطوراتٍ ميدانية، ويتناول المقال محاولات أذرع الاحتلال "ضبط" مجريات الأحداث في شهر رمضان الجاري.

حراك سياسي من الولايات المتحدة إلى شرم الشيخ

في 13/3/2022 كشفت صحفٌ عبرية أن رئيس الشاباك الإسرائيلي رونين بار كان في زيارة إلى واشنطن استمرت عدة أيام، وبحسب المصادر العبرية التقى بار رئيس مكتب التحقيقات الفدرالي كريستوفر راي، ومسؤولين كبارًا في الدفاع السيبراني. وعلى الرغم من عدم ورود قضية التصعيد في رمضان في ما ذكرته المصادر العبرية، إلا أنها أشارت إلى أن توقيت الزيارة جاء بعد إطلاق الشاباك وجيش الاحتلال تحذيرات متكررة، تمحورت حول تفجر الأوضاع، والتعامل على أنها أبرز الجبهات التي ستستنزفه في العام الجاري.

وفي سياق متصل بالموقف الأمريكي، صرح سفير الولايات المتحدة الأمريكية لدى دولة الاحتلال توم نيديس في 17/3/2022، أن إدارة الرئيس الأمريكي بايدن تعمل على الحفاظ على الهدوء في القدس قبل حدوث "موقف غير عادي"، جراء تزامن الأعياد اليهودية والإسلامية في شهر نيسان/أبريل، وقال نيديس: إنه "أرسل برقية إلى وزارة الخارجية قبل خمسة أسابيع لتنبيههم إلى هذا الأسبوع الحساس في منتصف شهر أبريل"، ويقصد به الأسبوع الثالث من رمضان.

ومع ما تكتسبه الهبة الفلسطينية من زخم وفرص لإعادة التموضع الفلسطيني، إلا أن أطرافًا عربية دخلت على خط "التهدئة"، ففي 22/3/2022 اجتمع كل من رئيس وزراء الاحتلال نفتالي بييت، والرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، وولي عهد إمارة أبو ظبي محمد بن زايد، في مدينة شرم الشيخ المصرية، وبحسب مصادر إعلامية ناقش المجتمعون التصعيد الأمني قبل شهر رمضان في فلسطين والقدس المحتلة، وبحثوا التسهيلات التي سيقوم بها الاحتلال في المناطق المحتلة لمنع تكرار ما جرى في العام الماضي. 

المستوى الأمني الإسرائيلي: بين تعزيز القبضة الأمنية وزيف رغبته بـ"التهدئة"

بدأت إرهاصات التداعي الأمني الإسرائيلي منذ بداية عام 2022، فقد شهدت الأشهر الأخيرة من عام 2021 عددًا من العمليات النوعية، إلى جانب استمرار المواجهات بشكلٍ شبه يومي في العديد من الأحياء في القدس المحتلة، وقد أدى هذا التصعيد إلى تنامي الشعور بالعجز لدى المستوى الأمني الإسرائيلي، خاصة أولئك الذين يعملون في الميدان، ففي 31/1/2022 كشف تقريرٌ لصحيفة "معاريف" العبرية، أن شرطة الاحتلال فقدت قدرتها على الردع، وفي التقرير الذي نشرته الصحيفة، اعترف ضابطٌ في شرطة الاحتلال أن القوات الإسرائيلية تشعر بالعجز في وقف المواجهات التي تشهدها بلدات القدس المحتلة.

حالة العجز هذه، دفعت المستوى الأمني الإسرائيلي إلى العمل على عددٍ من الجهات، وعلى الرغم من أن الإجراءات الأمنية كانت هي العنوان الأبرز، فإنها حاولت أن تدفع نحو المزيد من التهدئة خاصة في الضفة الغربية المحتلة، والأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1948، ومما يؤشر إلى ذلك ما كشفه الصحفي اليميني يائير كراوس في 11/2/2022، بأن جهاز الأمن العام الإسرائيلي "الشاباك"، اجتمع مع كبار الحاخامات في دولة الاحتلال، وطلب منهم كبح جماح المستوطنين، لمنعهم من القيام بأعمال استفزازية للفلسطينيين خاصةً مع اقتراب شهر رمضان. وبحسب كراوس فإنّ جهاز "الشاباك" يتابع تحركات المستوطنين في المناطق المحتلة.

 

يشير استمرار المناوشات بين الشبان المقدسيين وقوات الاحتلال في الساحة، واستمرار حشد المستوى الأمني الإسرائيلي إمكانياته الأمنية، بل ودعوته المستوطنين إلى التطوع في قواتٍ مدنية، إلى إمكانية تكرار ما جرى في رمضان الماضي

 



وفي المناطق الفلسطينية المحتلة عام 1948 حاولت سلطات الاحتلال تقليل أسباب "التوتر" في الأراضي الفلسطينية، ففي 10/3/2022 أعلن مفوض شرطة الاحتلال كوبي شبتاي أنه أمر بوقف تنفيذ أوامر الهدم في الداخل الفلسطيني المحتل، خلال شهر رمضان المبارك، وهو قرار تحاول عبره سلطات الاحتلال تحييد المناطق المحتلة عام 48، خاصة أنها شكلت واحدة من أعنف نقاط الاستنزاف لقوات الاحتلال، إبان الهبة الفلسطينية الشاملة عام 2021، وعلى الرغم من القرار شهدت هذه المناطق في شهر آذار/مارس الماضي عددًا من العمليات النوعية، أربكت المنظومة الأمنية الإسرائيلية، وأدت إلى خسائر بشرية فادحة في صفوفها.

محاولات "التهدئة" هذه، لم تكن بديلًا من التعسف باستخدام الأدوات الأمنية، فمع اقتراب شهر رمضان المبارك، بدأت سلطات الاحتلال الدفع بالمزيد من القوات الإسرائيلية إلى المناطق الفلسطينية المحتلة، ففي 30/3/2022 أعلن وزير الأمن الداخلي في حكومة الاحتلال عومر بارليف عن التجنيد الفوري لوحدات إضافية من قوات "حرس الحدود"، إلى جانب تجنيد 300 جندي نظامي في الخدمة الدائمة لدى جيش الاحتلال. وصرّح بارليف بأنّه سيتم فتح وتوسيع وجود "الحرس المدني" في مختلف المناطق الفلسطينية، وأعلن فتح باب التطوع أمام المستوطنين. وسبق إعلان بارليف قرار قيادة الأركان الإسرائيلية، الدفع بـ 15 كتيبة قتالية إلى الضفة الغربية المحتلة والحدود مع قطاع غزة، في سياق تطويق أي تصعيدٍ قادم.

ومع ما تتحضر له سلطات الاحتلال من اعتداءات في القدس المحتلة، أعلنت شرطة الاحتلال في 1/4/2022 نشر 3 آلاف شرطي في البلدة القديمة ومحيط المسجد الأقصى المبارك، بذريعة إمكانية اندلاع مواجهات مع انتهاء الصلاة. وقد انعكست هذه الإجراءات في سلوك الاحتلال مع بداية شهر رمضان، ومحاولة فرض واقع جديد في ساحة باب العمود.

ساحة باب العمود نقطة تفجر للهبة أم هيمنة وفرض أمرٍ واقع

لم يكن المسجد الأقصى نقطة التصعيد الوحيدة في المدينة المحتلة، ففي عددٍ من المحطات حاولت سلطات الاحتلال إعادة فرض القيود في ساحة باب العمود، في محاولة لإفراغها من المقدسيين، ومنع الشباب المقدسي من البقاء فيها، على الرغم من أن ما جرى في الساحة في عام 2021 كان واحدًا من الأسباب التي أدت إلى اندلاع الهبة الفلسطينية الشاملة، ومع ذلك فإن سلطات الاحتلال تكرر تجربة العام الماضي.

بدأت أولى المحاولات في أواخر شهر شباط/فبراير، ففي 28/2/2022 اندلعت في الساحة مواجهات عنيفة على أثر احتفال المقدسيين بذكرى الإسراء والمعراج، وذكر الهلال الأحمر الفلسطيني أنّ طواقمه تعاملت مع 31 إصابة، نقلت 4 منها إلى المستشفى، من بينهم طفلة من ذوي الاحتياجات الخاصة، أصيبت بقنبلة صوت في وجهها واخترقت خدها، وتم نقلها للمشفى ووصفت حالتها بالخطيرة، وأجريت لها لاحقًا عمليات جراحية. وفي 1/3/2022 قمعت قوات الاحتلال تظاهرة تضامنية مع الأسرى أقيمت في ساحة باب العمود، واعتدت على المشاركين فيها بالضرب والهراوات. وبحسب متخصصين في شؤون القدس تحاول سلطات الاحتلال فرض أمر واقع في الساحة قبل شهر رمضان، وإنهاء أي حالة شعبية في الساحة.

ومع حلول شهر رمضان المبارك، صعدت قوات الاحتلال من اعتداءاتها في الساحة، ففي 3/4/2022 اندلعت مواجهاتٌ عنيفة داخلها، على أثر وضع قوات الاحتلال حواجز حديدية في أطراف الساحة، وانتشارها مساءً بكثافة واعتدائها على الموجودين فيها، وهذا ما أدى إلى اعتقال 5 مقدسيين. وفي مساء اليوم نفسه اقتحم وزير خارجية الاحتلال يائير لابيد ساحة باب العمود بحماية أمنية مكثفة، أدت إلى إغلاق شبه كامل للساحة. ولم تكتف سلطات الاحتلال بعرقلة الوجود المقدسي فقط، بل عملت على إقامة غرفة أمنية للقيادة الميدانية في محيط ساحة باب العمود، وأشار متخصصون في شؤون القدس إلى أن سلطات الاحتلال تتعمد تصعيد المواجهة في القدس المحتلة.

 

لم يكن المسجد الأقصى نقطة التصعيد الوحيدة في المدينة المحتلة، ففي عددٍ من المحطات حاولت سلطات الاحتلال إعادة فرض القيود في ساحة باب العمود، في محاولة لإفراغها من المقدسيين، ومنع الشباب المقدسي من البقاء فيها

 



وهي ممارسات أدت إلى اشتعال المواجهات في 4/4/2022 عقب انتهاء صلاتي العشاء والتراويح، وهذا ما أدى إلى إصابة 17 مقدسيًا. ومنذ ذلك اليوم تتكرر المواجهات بشكلٍ يومي في الساحة والمناطق المحيطة بها. وفي 6/4/2022 أعلنت مصادر مقدسية أنّ قوات الاحتلال اعتقلت 33 فلسطينيًا من منطقة باب العمود، خلال الأربعة أيام الأولى من شهر رمضان المبارك.

ختامًا، يشير استمرار المناوشات بين الشبان المقدسيين وقوات الاحتلال في الساحة، واستمرار حشد المستوى الأمني الإسرائيلي إمكانياته الأمنية، بل ودعوته المستوطنين إلى التطوع في قواتٍ مدنية، إلى إمكانية تكرار ما جرى في رمضان الماضي، خاصة إن تمت قراءة الأحداث مع ما سيجري في المسجد الأقصى، على أثر التصعيد الذي تقوده "منظمات المعبد"، إذ تتحضر لاقتحامات حاشدة للمسجد الأقصى في عيد "الفصح اليهودي" الذي يتزامن مع الأسبوع الثالث من شهر رمضان، إلى جانب مخططها لتقديم "القربان الحيواني" داخل المسجد، وهي معطيات بالغة الخطورة تنقل المعركة على الأقصى إلى مستويات متقدمة، خاصة أن المسجد الأقصى قد شكل ولا يزال، نقطة تفجيرٍ مركزية، وشرارة الهبات الفلسطينية المتعاقبة.