منذ أن أصبح دم المواطن العربي مستباحاً ورخيصاً لدي الحكام العرب، ومنذ أن أصبحت صور الفلسطينيين الذين يُقتلون على يد قوات الاحتلال الغاشمة تملأ شاشات التلفزة ولا نحرك ساكناً، أصبح للأسف مشهد الدماء المهدورة مستساغاً ولا يفزعنا كثيراً.. لقد فقدت الدماء مهابتها وقدسيتها المعهودة إلى حد بعيد، وأصبح إزهاق الأرواح هو أقصر الطرق وأسهلها لحل المشكلات لدى بعض الناس وخاصة
الشباب، وأصبحت هناك جرأة غير مسبوقة في استعمال السلاح وقتل الخصم، وتفشت روح الانتقام في مجتمعاتنا العربية في الآونة الأخيرة بشكل غير مألوف!!
جريمتان مروعتان حصلتا في
مصر والأردن أفجعتا قلوبنا جميعاً، وأحدثتا صدمة كبيرة في مجتمعاتنا العربية، الأولى "
نيرة أشرف"، الفتاة المصرية الجميلة، الطالبة الجامعية التي ذبحها زميلها في نفس الكلية أمام باب الجامعة وكأنه يذبح فرخة على مرأى ومسمع المارة؛ الذين انشغلوا في تصوير الحادث بالموبايل عن إنقاذ الفتاة المسكينة!
ولم نكد نفيق من الصدمة حتى باغتنا القدر بحادث مشابه في بعض تفاصيله، إذ لقيت
الفتاة الأردنية الجميلة "إيمان رشيد"، الطالبة في جامعة العلوم التطبيقية في الأردن، مصرعها رمياً بالرصاص على يد مجهول فر هارباً، وبعد أن نجحت الشرطة الأردنية في معرفة مكانه وهمّت بالقبض عليه، أطلق على نفسه الرصاص ليموت وتموت معه الحقيقة ولم نعرف الدوافع والأسباب وراء هذه الجريمة، ولكننا نعرف أسباب الجريمة الأولى، فقد ثبت من التحقيقات أن القاتل أحب ضحيته بجنون وأنها رفضته وكذلك أسرتها، فأخذته العزة بالإثم وشعر بالمهانة كيف ترفضه! فقرر أن يثأر لكرامته فذبحها!!
ارتفعت معدلات حوادث القتل بصورة مخيفة وخاصة بين الشباب، فلم تكن هاتان الجريمتان البشعتان أولى الجرائم الغريبة على مجتمعنا العربي، فقد سبقتها جرائم مماثلة ربما أشد وطأة
لقد ارتفعت معدلات حوادث القتل بصورة مخيفة وخاصة بين الشباب، فلم تكن هاتان الجريمتان البشعتان أولى
الجرائم الغريبة على مجتمعنا العربي، فقد سبقتها جرائم مماثلة ربما أشد وطأة. فمنذ أشهر، كانت هنالك جريمة بشعة في مصر يشيب لها الولدان، إذ أقدم شاب على
ذبح رجل في ذروة النهار أمام المارة وفصل رأسه عن جسده وسار به متباهياً وسط الناس الذين يتابعون المشهد في ذهول! ناهيك عن حوادث قتل الزوجات لأزواجهن وتقطيع أوصالهم!
ولن تكون هاتان الجريمتان آخر الجرائم أيضا، فبعدهما بأقل من أسبوع قتلت طالبة مصرية بكلية الطب زميلا لها غرر بها ثم تنكّر لها..
وبالأمس اكتشفوا جثة مذيعة مصرية اختفت منذ ثلاثة أسابيع، وتبين أنها قتلت رمياً بالرصاص على يد
زوجها المستشار نائب رئيس مجلس الدولة، ولم يكتف بذلك، بل مثل بالجثة وشوهها بماء النار!!
لا شك أن مثل هذه الجرائم المروعة لم تعتدها مجتمعاتنا العربية، والتي أنشئت أساساً على الدين والقيم والأخلاق، فما الذي حدث في بنيانها وجعلها تفقد أهم ركائزها ودعائمها؟ لا بد أن نبحث عن الأسباب الحقيقية وراء تلك الجرائم البشعة ونواجهها بشجاعة، لنستطيع علاجها قبل أن تصبح ظاهرة عامة وتتفشى في مجتمعاتنا العربية ويصبح الدم هيناً بين عموم أبنائها، وليست مجرد حوادث فردية تعبر عن أصحابها..
لا بد أن نبحث عن الأسباب الحقيقية وراء تلك الجرائم البشعة ونواجهها بشجاعة، لنستطيع علاجها قبل أن تصبح ظاهرة عامة وتتفشى في مجتمعاتنا العربية ويصبح الدم هيناً بين عموم أبنائها، وليست مجرد حوادث فردية تعبر عن أصحابها
أولاً، لا بد أن نعترف ان غياب الوازع الديني لدى الشباب يُعد أهم هذه الأسباب على الإطلاق، وللأسف الشديد، كل الحكومات العربية أصبحت تخشى من الإسلام ولكنها تخفي ذلك وراء مصطلح "الإسلاميين"، وهو مصطلح غربي اتخذه الغرب ليبرر حربه على الإسلام، فلذلك تعادي الشباب المتدين والملتزم، ويصفه إعلامهم بالتطرف وينعتوهم بالإرهابيين. ولقد جعلوا مادة الدين في المدارس مادة إضافية لا تضاف درجات امتحانها إلى المجموع الكلي للطالب، لذلك أهملها وأصبح لا يذاكرها إلا ليلة الامتحان وبعد تأديته الامتحان يرمي كتابه على أبواب المدرسة؛ فتتناثر أوراقه مع أدراج الرياح ويتبخر من ذاكرته كل ما فيه!
لقد أصبحت كل المؤسسات الدينية تحت سيطرة الحكومات تماماً، تعيّن فيها ذوي الحظوة الذين يتلقون أوامرها ويخضعون لإملاءاتها. ضيقوا على المساجد فلم تعد تفتح إلا أوقات الصلاة فقط، فلا دروس ولا حلقات علم كما كانت تحدث في الماضي، ولم يكتفوا بذلك بل منعوا أيضا كل المعاهد والمراكز الدينية الخاصة التي كانت تحفظ القرآن وتربي وتُعلم النشء تعليماً دينياً خالصاً؛ يُحسن من أخلاقه وسلوكياته مع المجتمع!
وجاء دورهم مع الإعلام والذي يسيطرون عليه أيضا، فقللوا عدد البرامج الدينية التي تكاد تكون معدومة على شاشات التلفزة، والتي تعدت المئة قناة فضائية. وهل هناك دليل على ذلك أكثر مما يقدمونه في شهر رمضان الكريم، شهر التقرب إلى الله تعالى، حيث تتعمد تلك القنوات أن تفرغه من روحانياته وتجعله شهر الشيطان، فتمتلئ شاشاتها بعشرات المسلسلات الخليعة والهابطة (رقص ومخدرات وخمر ودعارة وبلطجة.. إلخ)، وليس من بينها مسلسل واحد ديني (يخزي العين)، كما كان يحدث في الماضي!
لا شك أن الفن لعب دوراً هدّاماً وغير مسؤول في تغيير قيم المجتمعات العربية وتبديل المعايير
الأخلاقية فيه، فانقلبت الموازين وتحولت بوصلة الشباب، بعد أن هوّن عليهم مناظر الدم وأعمال البلطجة وإشهار السلاح في أي مشكلة، وتحولوا إلى همج يتحدثون بلغة السلاح حتى لو كانوا متعلمين وجامعيين.
الفن لعب دوراً هدّاماً وغير مسؤول في تغيير قيم المجتمعات العربية وتبديل المعايير الأخلاقية فيه، فانقلبت الموازين وتحولت بوصلة الشباب، بعد أن هوّن عليهم مناظر الدم وأعمال البلطجة وإشهار السلاح في أي مشكلة، وتحولوا إلى همج يتحدثون بلغة السلاح حتى لو كانوا متعلمين وجامعيين
ماذا ننتظر من شباب أصبح قدوتهم "
محمد رمضان"، الأسطورة الذى يظهر في الشارع عاري الصدر شاهراً سيفه، ويكرمه قادة الجيش وتمنحه إحدى الجامعات الدكتوراة الفخرية؛ إلا أن يكون شبابا ضحلا منحرفا بلا خُلق ولا قيم، وخاصة بعدما ارتفعت القيمة المادية عما عداها من القيم الدينية والثقافية؟!
لقد نشأ هذا الجيل على دراما ساقطة وأفلام وأغان هابطة، ونخب من أنصاف المثقفين؛ تصدروا المشهد السياسي والثقافي والإعلامي والديني بجهالة، وأُطلق عليهم زوراً وبهتاناً "النخب"، أي أعالي القوم وكريمة المجتمع، فكانوا نكبة هذه البلدان العربية وسبباً في خواء روح وعقل أبنائها، فأضاعوا الشباب في طرقهم الوعرة المظلمة!
منذ أن أنشئت قنوات MBC، في مطلع تسعينيات القرن الماضي وبعد متابعتي لبعض برامجها، كتبت في جريدة الوفد المصرية: "هذه القنوات ستدمر المجتمعات العربية، فبرامج الأطفال مليئة بالعنف وبالألفاظ غير اللائقة، وبرامج الشباب كلها خلاعة وتفاهة وتسطيح للعقول، وما عرف بتلفزيون الواقع وسفر البنات والشباب واقامتهم في بيت واحد ما هو إلا إيجاز للإباحية والتحرر السافر وتدمير لقيم الأسرة العربية!".
كيف تخرب مجتمعاً بدون حرب؟ هذا ما يجيب عليه الصحفي الروسي "يوري بيزمينوف"، وقد كان عميلاً سرياً في الاستخبارات الروسية (K G B)، استاء من قمعها للمثقفين الذين خالفوا سياسات موسكو فقرر الانشقاق والانضمام للغرب. فر أولاً إلى أمريكا ومنها إلى كندا واتخذ اسما مستعارا "توماس ديفيد شومان".
شرع بيزمينوف أو شومان في تثقيف الشعوب بما يحاك لها من مؤامرات فيقول: إن زمن الحروب العسكرية لإخضاع الدول قد انتهى كأولوية، فالانتصار الآن يتم تحقيقه من هزيمة الدولة من داخلها دون استخدام الآلة العسكرية، وهذا يتطلب أربع مراحل؛ أولها "إسقاط الأخلاق" (Demoralization)، وهي مرحلة تحتاج من 15 إلى 20 سنة لتدمير منظومة الأخلاق والقيم لدى المجتمع المستهدف. وما يُفشل الجهود الرامية لتدمير القيم محاولات إعادة المجتمعات لقيمها الدينية، باعتبار أن الدين هو الحاكم المسيطر على علاقات الافراد داخل المجتمع ويجعلهم متناغمين بطريقة سلسلة حتى في أكثر الأيام شدة وصعوبة.
أما لماذا من 15 إلى 20 سنة لتدمير منظومة القيم؟ فلأن هذه المدة طبقا لمعامل علم النفس هي الكفيلة بتنشئة وتعليم جيل واحد من النشء على القيم البديلة والأخلاق المراد نشرها في المجتمع. والقيم الوليدة التي سوف تحل محل القيم القديمة تعتمد في نشرها على رموز مجتمعية ومؤسسات بديلة تحظى باهتمام الناس، لتستطيع صرف انتباههم عن الإيمان الحقيقي وجذبهم لأنواع من العقائد الدخيلة. وللتخديم على هذه الخطوة المتمثلة في تدمير منظومة القيم ينبغي إفساد التعليم، والعبث بالنسق الاجتماعي من خلال صناعة منظمات وهمية تستهدف بالأساس نزع الإحساس بالمسؤولية لدى المجتمع وإضعاف الحس الوطني والولاء للوطن، مشيراً إلى أن ذلك يتم من خلال رموز إعلامية تجد دعماً بلا حدود..
يجب أن يتحلى القادة في الحكومات العربية بالشجاعة والأمانة ويتحملوا مسؤوليتهم تجاه المجتمع قبل الانهيار العظيم، ويتصدوا لهذه الخطط الهدامة وإجهاضها بخطط أخري مضادة، تعيد قيم وأخلاق المجتمعات العربية إلى سابق عهدها
أليس هذا ما يحدث في مجتمعاتنا العربية تماماً، ناهيك عن الحروب التي استبعد شومان حدوثها في العصر الحديث والتي دخلت فيها بعض الدول العربية؟!
ولذلك يجب أن يتحلى القادة في الحكومات العربية بالشجاعة والأمانة ويتحملوا مسؤوليتهم تجاه المجتمع قبل الانهيار العظيم، ويتصدوا لهذه الخطط الهدامة وإجهاضها بخطط أخري مضادة، تعيد قيم وأخلاق المجتمعات العربية إلى سابق عهدها.
ينبغي أن تكون هناك إرادة حقيقية من الجميع في إصلاح المجتمع، يشترك فيها رجال الدين والأسرة والمدرسة والإعلام والفن، ولا بد من غرس قيمة القدوات الصالحة في نفوس وعقول الشباب بدراسة تاريخهم الإسلامي الثري بالنماذج الحسنة المضيئة والبطولات الفذة، والشخصيات الإسلامية العظيمة التي أضاءت وجه البشرية كلها بعلمها وحضارتها وثقافتها، وأخرجت أوروبا من الظلمات إلى النور، والآن يردون لنا الجميل بإدخالنا في ظلمات أمسهم البعيد!!
twitter.com/amiraaboelfetou