أدى التطور العسكري للمقاومة
في قطاع
غزة إلى نشوء حالتيّ تناقض أو تكامل بين وضعين يتسّم بهما قطاع غزة، وذلك
بتأسيس قاعدة مقاومة عسكرية جبارة، خاضت إلى اليوم خمس حروب كبيرة، فيما تعرض
الوضع المدني للشعب إلى تقديم الكثير الكثير من الخسائر في الأرواح، وفي
الممتلكات، وفي إعاقات جسدية دائمة، للمئات والآلاف. وهي ضريبة يدفعها المدنيون في
كل الحروب، وفي كل ثورات حركات التحرر الوطني. وهذه الضريبة استمرار وتصعيد
للضريبة التي يدفعها الشعب تحت الاحتلال، ودفعها في حرب الغزو ايضاً.
إن إشكال الثمن الغالي من
التضحيات التي يدفعها الشعب، هو إشكال حتمي، يقع قبل تطوّر
المقاومة الشعبية إلى
مستويات المواجهة المسلحة، ويتفاقم ويستمر إذا تمكن الاحتلال من السيطرة، ومنع
تطوّر مقاومة مسلحة ضده. فلا أحد يحق له أن يولول حين تتصاعد التضحيات في ظل
المواجهة العسكرية، أو أن يتخذ ذلك كذريعة ليقف ضد المقاومة، أو يحمّلها مسؤولية
ما يلحق بالشعب من خسائر.
طبعاً لا بد من أن تتصاعد
الخسائر، على طريق التحرير والخلاص من الاحتلال، الذي يثخن في الحياة المدنية وفي
الشعب، بكل الأحوال. والفارق أن اشتداد ساعد المقاومة، وتطوّرها المستمر، يشكل
الطريق الوحيد للخلاص من الاحتلال، ولا سيما الاحتلال الصهيوني، والوجود الصهيوني
في
فلسطين. وقد ثبتت تلك الحقيقة أكثر بعد إفشال العدو لاتفاق أوسلو، والإصرار على
اغتصاب كل فلسطين، وطرد كل أهلها منها.
إشكال الثمن الغالي من التضحيات التي يدفعها الشعب، هو إشكال حتمي، يقع قبل تطوّر المقاومة الشعبية إلى مستويات المواجهة المسلحة، ويتفاقم ويستمر إذا تمكن الاحتلال من السيطرة، ومنع تطوّر مقاومة مسلحة ضده
لا يحق لأحد أن يجادل منتقداً
طريق/ استراتيجية وتكتيك المقاومة في قطاع غزة، أو في القدس، أو الضفة الغربية، أو
مناطق 48 في فلسطين، فالصراع كما فرضه ويفرضه العدو، صراع وجودي: فلسطين لمن؟
فسواء قاوم الشعب الفلسطيني أم لم يقاوم، عليه أن يدفع الثمن الغالي تحت البطش
والقمع والعنصرية والمجازر، وتخريب حياته المدنية؛ لأن العدو لا يستطيع اغتصاب
فلسطين، بغير تلك الأساليب.
لهذا ليس من حق أي فلسطيني أن
يقف ضد المقاومة، ويطالب بوقف المواجهة العسكرية، تحت حجة "نريد أن
نعيش"، أو أن يُحمّل المقاومة مسؤولية ما ينجم من خسائر، مع كل عدوان عسكري
على قطاع غزة. ومن هنا كان لا بد من أن ينقسم المجتمع المدني إلى أغلبية مؤيدة، أو
صابرة محتسبة، أو بعضها هاجر من جهة، وبين أقلية عالية الصوت، من جهة أخرى، ضد
المقاومة، ومؤيَّدة ممن هم ضد المقاومة، فلسطينياً وعربياً، أو ممن هم في جبهة
الغرب وأمريكا (والكيان الصهيوني والحركة الصهيونية العالمية في تلك الجبهة)،
ومنهم من أصبح يأخذ بمقولات تأخذ حقوق الإنسان، وحرية الرأي العام إلى حد
الاستسلام أمام الابتزاز تحت راية الهولوكوست، أو المثلية، أو الدفاع عن
"آيات شيطانية"، أو رسومات "شارلي إيبدو".
المشكلة مع هذه الأقلية في
قطاع غزة عبّرت عنها تظاهرة صغيرة، لا تتجاوز الستين، ترفع شعار "بدنا
نعيش". فعلى هذه الفئة أن تنسحب بهدوء، وتؤمن هجرتها من القطاع، وهو خيرٌ لها
من أن تكون من المعوّقين والمثبطين، وأن تضع الحَبَ في طاحونة العدو الصهيوني
(موضوعياً، ولو من دون قصد)، وهو عدو لها بما في ذلك رحيلها من فلسطين.
وبهذا يسود التكامل بين
المقاومة والمجتمع المدني في قطاع غزة، بديلاً من التناقض بين المقاومة، وبين ذلك
القطاع من المجتمع المدني الذي يريد أن "يعيش" تحت الاحتلال ومشروعه
الإبادي، وليس العيش مع مقاومة محقة، من كل أوجه الحق والعدالة، والموقف الصحيح.
على أن القضية الأخرى التي
راحت تواجه المقاومة في قطاع غزة، فقد نشأت من نتائج حرب سيف القدس في 2021، وفي
مقدمها النتيجة التي عُبّر عنها بشعار أو باستراتيجية "
وحدة الساحات".
وقد راح هذا الشعار يكرس من خلال ما شهدته الضفة الغربية والقدس والمسجد الأقصى،
من مواجهات وما أطلق من مقاومات. وذلك ابتداء من العمليات ذات الطابع
الفردي المعبّر عن رأي عام واسع مثل عمليات بئر السبع (محمد غالب أبو القيعان)،
الخضيرة (خالد إغبارية وأيمن إغبارية)، بني براك (ضياء حمارشة)، ودوزينغوف في تل
أبيب (رعد حازم)، وبيت إيل (يوسف عاصي ويحيى مرعي)، وإلعاد (أسعد الرفاعي وصبحي
الصبيحات)، وعملية القدس في 14 آب/ أغسطس 2022 (أمير الصيداوي). كما بروز المقاومة
في مخيم جنين، ثم في نابلس، ولا سيما عملية المقاومة التي واجه بها الشهيد القائد
ابراهيم النابلسي، الهجوم الغادر لاغتياله، واغتيال رفيقيه الشهيدين إسلام صبوح
وحسين طه.
ثم كانت هنالك المعارك التي
شهدها المسجد الأقصى ضد إدخال الشمعدان وذبح القربان، أو التهديد بمسيرة الأعلام
للاعتداء على مسجد الصخرة المشرفة، وأخيراً وليس آخراً، الاقتحامات بذكرى
"خراب الهيكل".
هذه الأحداث ارتفعت بالمقاومة
في القدس والضفة الغربية إلى مستوى أعلى، وكذلك أدت ردود الفعل إلى تصعيد
الاغتيالات والاعتقالات واقتحامات المسجد الأقصى، وصولاً إلى عدوان اليومين ونصف،
وما أثار من نقاش حول كيفية التعامل مع وحدة الساحات، وبالتحديد متى يجب على قطاع
غزة أن يتدخل جزئياً أو كلياً، بصورة مباشرة أو غير مباشرة.
قدمت المقاومة في قطاع غزة نموذجين للتدخل، الأول عبّرت عنه حرب سيف القدس، والثاني عبر عنه توزع الأدوار بين الجهاد وحماس، حيث ردت الجهاد على عدوان الخامس من آب/ أغسطس 2022، ولم تتدخل حماس
عملياً، قدمت المقاومة في
قطاع غزة نموذجين للتدخل، الأول عبّرت عنه حرب سيف القدس، والثاني عبر عنه توزع
الأدوار بين الجهاد وحماس، حيث ردت الجهاد على عدوان الخامس من آب/ أغسطس 2022،
ولم تتدخل حماس، مع سيطرتها على المعادلة التي انتهت بهزيمة العدوان.
ثمة سؤال أصبح مفتوحاً الآن
على ضوء ما نشأ من وضع جديد نتيجة حرب سيف القدس، والمقاومات في القدس والضفة،
والاقتحامات والاعتداءات الصهيونية، والعدوان الأخير على قطاع غزة.
والسؤال هو: هل على المقاومة
أن تتدخل تحت شعار وحدة الساحات، أو استراتيجية وحدة الساحات؟ متى وكيف؟
ثمة إجماع أولاً على أن هدف
وحدة الساحات صار مطروحاً على الطاولة. أما ثانياً، فثمة إجماع على أن المقاومة
يجب أن لا تتدخل أمام أي تطوّر للأحداث لا يوجب تدخلها، حتى لو كان مُهماً، وبدا
أن من الضروري عدم التدخل. فمن يقرر التدخل هي قيادة المقاومة والغرفة المشتركة،
حيث تقدّر مدى ضرورة التدخل، ومتى يكون مناسباً أكثر من ناحية سياسية، ومن ناحية
ميزان القوى العام. فالحرصُ المطلوب هو أن يؤدي التدخل إلى انتصار، أو في الأقل
ألاّ تنجم عنه نكسة.
ثمة إجماع أولاً على أن هدف وحدة الساحات صار مطروحاً على الطاولة. أما ثانياً، فثمة إجماع على أن المقاومة يجب أن لا تتدخل أمام أي تطوّر للأحداث لا يوجب تدخلها، حتى لو كان مُهماً، وبدا أن من الضروري عدم التدخل
طبعاً يستثنى هنا مبادرة
العدو بالعدوان، حيث لا مفرّ من الصمود، وكيل الصاع بالصاعين، ودخول الحرب حتى
النهاية.
ثم هنالك خطان للمواجهة، الخط
الأول، كما كان الحال، إلى ما قبل حرب سيف القدس، أي ترك قرار العدوان للعدو، وذلك
تحت الحاجة إلى المزيد من التحضير والإعداد العسكريين. وهذه استراتيجية كانت
ناجحة، وقد شذت في حرب 2012 بعد اغتيال الشهيد أحمد الجعبري، حيث بادرت المقاومة
إلى إطلاق الصواريخ. أما الحالة الثانية التي شذت، جزئياً، فكانت في الحرب
الأخيرة.
أما الخط الثاني، فهو اقتراح
للتدارس: وهو بأن تأخذ المقاومة زمام المبادرة، وتضع هدفاً محدوداً للتدخل من جانب
المقاومة. وهو منع اقتحام المسجد الأقصى، وذلك بقصف مواقع أي تجمع يستهدف القيام
باقتحام المسجد الأقصى. إذ يجب التدخل الشعبي كالعادة لمقاومة الاقتحام، وفي الوقت
نفسه، تستعد المقاومة والمقاومات الشعبية، لمنع اقتحام المسجد الأقصى، ولو بالدخول
في مواجهة شاملة لتنفيذ هذا المنع.
يستند هذا الخط الثاني إلى
البناء على موازين القوى التي عبّرت عنها حرب سيف القدس، وما تلاها من مواجهات
ومقاومات، حتى الحرب الأخيرة. وقد أثبتت كلها أن من الممكن الانتقال في الدفاع عن
المسجد الأقصى إلى منع الاقتحامات والنجاح في ذلك. فالكيان الصهيوني سيكون في
منتهى الضعف في تمسكه بسياسة الاقتحامات والانتهاكات للمسجد الأقصى، فلسطينياً
وعربياً وإسلامياً، ورأياً عاماً عالمياً، بما في ذلك على مستوى الدول أيضاً.
يجب التدخل الشعبي كالعادة لمقاومة الاقتحام، وفي الوقت نفسه، تستعد المقاومة والمقاومات الشعبية، لمنع اقتحام المسجد الأقصى، ولو بالدخول في مواجهة شاملة لتنفيذ هذا المنع
بهذا يمسك بقضية عادلة
سياسياً وإيمانية، فلسطينياً وعربياً وإسلامياً، فيما تسمح موازين القوى العامة،
دولياً وإقليمياً وفلسطينياً مع حالة العدو المرتبكة، بتحقيق انتصار فلسطيني (يكاد
يكون مضموناً).