لم يأت رئيس حزب الإصلاح محمد عصمت السادات بجديد، عندما
أطلق مبادرة عودة المعارضين
المصريين في الخارج إلى مصر، وإن كان الجديد أنه اتخذ
إجراءات فعلية من حيث الحصول على موافقة ما أسماها بمؤسسات الدولة، وإن لم يحددها.
فإذا كان هناك من تحدثوا عن مساع سابقة عملية لبعض الشخصيات، فلم أعرف إلا وساطة
الإعلامي الراحل "وائل الإبراشي" لعودة أحد المحررين الذين عملوا تحت
رئاسته، عندما استجار به من إسطنبول، فأجاره. وإن كان هناك من كتبوا عن لقاءات
عقدت مع البعض، لم يتصل علمي بها، فلم يعرض عليّ شيء من هذا، وإن كنت أدرك أن بعض
من كتبوا عن هذه اللقاءات غير المعلنة، استهدفوا التقليل من أهمية "مبادرة
السادات"!
فمبكراً وعقب الانقلاب، فإن الكاتب اليساري المعروف صلاح
عيسى، الذي تم اختياره في مرحلة ما بعد تموز/ يوليو 2013 لمنصب الأمين العام
للمجلس الأعلى للصحافة، كان يستشعر خطراً على السلطة من وجود الصحفيين بالذات في
الخارج، وطالب في برنامج تلفزيوني النظام بالتدخل لحل هذه المشكلة، بأن يكلف نقيب
الصحفيين بما كلف به مبارك في بداية عهد نقيب الصحفيين صلاح جلال، بالسفر للخارج،
وإعادة الصحفيين المهاجرين بأية ضمانات مطلوبة!
وكان عهد السادات قد شهد خروج مجموعة من اليسار لعدد من
العواصم العربية مثل بغداد، ودمشق، وليبيا، ومنهم من استقر به المطاف في باريس مثل
أحمد عبد المعطي حجازي، وغالي شكري، وبهجوري. وإذا كان عيسى معارضاً في هذه
الحقبة، فقد قال إنه رفض فكرة مغادرة مصر!
والمثير أن اليسار الذي بدأ فكرة المعارضة من الخارج،
واتهمه السادات بالخيانة لأنه يهاجم مصر في الإعلام الخارجي، استدعى خطاب السادات
في اتهامنا بذات اتهاماته، بعد أن ظن أنه جزء من منظومة الحكم في عهد ما بعد تموز/
يوليو 2013، فاستدعى تراث أهل الحكم في التعامل مع معارضيه، وليس هذا هو الموضوع!
اليسار الذي بدأ فكرة المعارضة من الخارج، واتهمه السادات بالخيانة لأنه يهاجم مصر في الإعلام الخارجي، استدعى خطاب السادات في اتهامنا بذات اتهاماته، بعد أن ظن أنه جزء من منظومة الحكم في عهد ما بعد تموز/ يوليو 2013، فاستدعى تراث أهل الحكم في التعامل مع معارضيه
وإذ شاهدت هذا اللقاء التلفزيوني الذي ألقى فيه عيسى
بهذه المبادرة، بدا لي أن هناك دوافع معلنة وأخرى لم يعلنها من وراء ذلك، فالدوافع
المعلنة هي ما تفرضه الزمالة لكاتب كان عضواً سابقاً في مجلس نقابة الصحفيين، والدوافع
الأخرى هي شعوره بأن ما سيعكر صفو النظام الجديد هو وجود الصحفيين في الخارج،
الأمر الذي عكر مزاج السادات شخصياً، فكان يهاجمهم في خطبه، لأن الساسة ليسوا مصدر
قلق. ولكن الصداع خلقه الكتاب، سواء بمقالاتهم في صحف الخارج، أو من خلال إذاعتي
"مصر العروبة" و"مصر العربية"، وانطلقت إحداهما من بغداد
والثانية من دمشق! الأمر الذي جعل مبارك وهو يفتح صفحة جديدة في بداية عهده يدرك
أنه لا صفحة يمكن أن تفتح إلا بتصفية هذا الملف، فأرسل لهم نقيب الصحفيين وعادوا
إلى مؤسساتهم وقد قام بتسوية أوضاعهم الوظيفية.
المبادرة ليست شخصية:
بيد أن مبادرة صلاح عيسى ماتت في الأستوديو قبل أن
يغادره ولم يلتفت إليها أحد، وهذا ما يعطي أهمية لـ"مبادرة السادات"،
لأنها أول مبادرة حقيقية، قال إنها لاقت ترحيباً من مؤسسات الدولة، التي لم يسمها،
وهل تدخل ضمنها "الأجهزة الأمنية"، الحاكم الفعلي لمصر الآن؟!
صحيح أن هناك من كتب أن المبادرة شخصية ولا علاقة للجهات الرسمية بها، ولم يتم التنسيق مع الدولة بشأنها، إلا أنني لا أسلم بصحة ما
كتب على أنه "خبر" لا "رأيا"، لأن الكاتب (عضو لجنة العفو
الرئاسي)، حذف ما كتب بعد ذلك، بما يؤكد أن جهة ما دخلت على الخط ترفض التشكيك في
المبادرة، والتطوع بنفيها، وربما استناداً لمصدر في جهة ما، ليقودنا هذا لسؤال قديم
لمحمد حسنين هيكل في الولاية الأولى لعهد مبارك: "لا أعرف من الذي يحكم مصر
الآن؟".
فليس محمد عصمت السادات بشخص مغامر ليطرح مبادرة بهذا
الحجم، وفي سلطة مستبدة كالتي تحكم مصر الآن، بدون تنسيق، وهو ليس كذلك من العناصر
التي يستهويها الشو والتريند، وإن كان ليس مؤكداً إن كانت المبادرة من بنات أفكاره
باعتباره رجلاً توافقيا بالأساس، يهمه حلحلة الأزمة لضمان سير مركب الحكم، أم أن
المبادرة تكليف من أهل الحكم له، أسندت إليه باعتباره من الأشخاص التوافقيين الذين يحيطون بالحكم، ولا يميل للاستعراض، والظاهر من سلوكه أنه "ثقيل" لا
تستهويه النجومية!
هذا الأمر هو الذي يدفعنا للتعامل مع مبادرته بالجدية اللازمة،
وإن كنت أدرك أن الإفشال لم يكن فقط من جانب "إخوة يوسف" في محيط الحكم،
ولكن من خارجه أيضاً. وجاءت إعادة اعتقال الناشط السياسي شريف الروبي، لتمكن من
القول إن السلطة ليست جادة في ذلك، وهذا التشكيك المبكر لم يكن من نصيب الدعوة لـ"الحوار
الوطني" أو تشكيل لجنة "العفو الرئاسي"، ربما لأن الأمر بدا فيهما
أنه حلحلة للموقف ستشمل الجميع، وأن الحوار قد يؤدي للإفراج عن
المعتقلين، والجميع
يستشعر الحرج من مناهضة أي فكرة ولو كانت ستنتهي بالإفراج عن سجين واحد!
ليس مؤكداً إن كانت المبادرة من بنات أفكاره باعتباره رجلاً توافقيا بالأساس، يهمه حلحلة الأزمة لضمان سير مركب الحكم، أم أن المبادرة تكليف من أهل الحكم له، أسندت إليه باعتباره من الأشخاص التوافقيين الذين يحيطون بالحكم، ولا يميل للاستعراض، والظاهر من سلوكه أنه "ثقيل" لا تستهويه النجومية
الأغلبية الساحقة:
بيد أن مبادرة السادات تحمل بداخلها مبرراً للاعتراض
الواسع، والذي بدأ بالتشكيك فيها، وهي أنها تضمنت بنوداً تستبعد الأغلبية الساحقة
ممن هم في الخارج، لأنها اشترطت ألا يكون طالب العودة للوطن صدرت ضده أحكام
قضائية، أو ثبت تورطه في قضايا عنف أو تحريض، ومن لا يثبت انتماؤه لجماعة أو
تنظيمات إرهابية محظورة، وفق القوانين ذات الصلة. وهي بهذا تستبعد السواد الأعظم،
فلم تضع في الحسبان أن أحكاماً صدرت بالشبهات، لم تبن على أساس، وقد شاهدنا كيف أن
قاضياً أصدر حكمه بالإعدام على خمسمائة شخص في جلسة واحدة ونفس واحد. وإذا كان
هناك من خففت عقوبتهم أو حصلوا على البراءة في المحكمة العليا، فإن من صدرت ضدهم
الأحكام غيابياً لا يزالون يحملونها، وفي بلد قُدم فيه كفيف للمحاكمة بتهمة قيادة
الجماهير لإشعال النيران في قسم شرطة لا وجود له، يكون من الجنون التعامل مع هذه
الأحكام باعتبارها عنوان الحقيقة!
لقد اتهمت السلطة شيوعيين وليبراليين، بل ومسيحيين،
وعابري سبيل، بالانتماء لجماعة محظورة، وعندما وجدت السلطة نفسها في حرج، كان
الاتهام هو التعاون مع جماعة محظورة من أجل تحقيق أهدافها، حتى صارت هذه الجماعة
المحظورة أمة، لها أتباع من كل الملل والديانات، الأمر الذي ذكرني بقريب لي كانت
تستهويه عملية البحث عن المنتمين لشجرة عائلتنا في كل محافظات مصر، فيذهب لزيارات
هنا وهناك، على السمع بأنهم ينتمون للعائلة، وكثيراً ما فوجئت به يقتحم علي مكتبي
ومعه لفيف من الناس يقدمهم لي على أنهم "أولاد عمي"، أما من هم خارج
القاهرة، فكان يتصل بي هاتفياً من هذه المحافظة أو تلك "خذ عمك الحاج فلان"،
"ابن عمك فلان بك يريد أن يطمئن عليك"، وإن كنت لست متأكداً تماماً أنهم
ينتمون فعلا للعائلة!
وحدث أن مات طبيب مشهور في محافظة مجاورة، وإذ نشر نعيه
في الصحف، وتصادف أن لقبه هو ذاته لقب عائلتنا، واتصل بي في القاهرة لألحق به
للعزاء في "ابن عمنا"، وجدتها فرصة لأضع حداً لهذه الفوضى، قلت له: ولكن
الدكتور فلان مسيحي. وكان معروفاً لي لأن عيادته في وسط القاهرة، فضلا عن أن
العزاء المنشور نفسه يحمل ما يفيد ذلك. لكنه فاجأني بالرد بأن الأمر عادي، فالقرآن
يقول "طرائق قددا"، وبالتالي من الطبيعي أن يكون في العائلة نصارى أو
حتى يهود!
وإذا كنا قد تعرفنا على الفرع المسيحي للإخوان، وفرع
اليساريين، ففي انتظار أن يتم القبض على يهودي بتهمة الانتماء إلى هذه الجماعة
المحظورة!
لا في الثور ولا في الطحين:
وقد قابلت في الخارج من هربوا لا لشيء؛ إلا أن مخبراً في
ظل الفوضى التي أعقبت الانقلاب العسكري، قد وضع أسماءهم على قوائم قضايا دون أن
يكون لهم في الثور أو في الطحين!
وإن كان الأمر لا يخلو من أهمية لهذه الشروط، لأنها طعنت
فكرة التربص الأمني، فهناك من ذهبوا إلى أن الهدف من هذه المبادرة هو جمع معلومات
لصالح الأمن، فعندما تستبعد المبادرة السواد الأعظم ممن هم في الخارج من تقديم
طلبات العودة، فهذا ما يمثل طعناً في هذا الادعاء!
لا شك أننا أمام مبادرة جادة من حيث الشكل، لكن الوقوف على ما سينتج عنها من آثار يستدعي في البداية معرفة أننا أمام سياسة الري بالتنقيط وليس بالغمر، لأننا أمام نظام شمولي مستبد، يخشى على وجوده من الهواء العليل، لذا فهو ضد فكرة التسامح
فلا شك أننا أمام مبادرة جادة من حيث الشكل، لكن الوقوف
على ما سينتج عنها من آثار يستدعي في البداية معرفة أننا أمام سياسة الري بالتنقيط
وليس بالغمر، لأننا أمام نظام شمولي مستبد، يخشى على وجوده من الهواء العليل، لذا
فهو ضد فكرة التسامح، ولو ذهب إليه المعارضون محلقين أو مقصرين، فليس هو السادات
الذي خفف الأحكام على من تآمروا ضده، عندما استتب له الأمر، وبدأ في الإفراج عن
بعضهم، وليس هو رئيساً جديدا؛ ليس بينه وبين الناس ثأر، فالسادات أعاد قضاة
المذبحة لمواقعهم لأنها وقعت في أيام عبد الناصر، ومبارك أعاد الصحفيين المعارضين
للسادات، ومن الخطأ التعامل مع السيسي على أنه عبد الناصر والسادات معاً، والسادات
ومبارك معاً!
ومن الواضح أن نصائح خارجية وربما داخلية له بحلحلة
الموقف، فلا يوجد حكم يمكنه أن يضع يده على الزناد لأكثر من عشر سنوات، والغضب
مكتوم في الصدور، والجميع ينتظر شيئاً ما!
بيد أن السيسي لا يمكنه أن يفتح المجال العام ولو لمساحة
لا تتجاوز ثقب إبرة، فهو أمام الضرورة التي تقدر بقدرها، وكما أفرج عن عدد قليل من
المعتقلين بالواحد، وكأنه يقطع من جسمه، فإن العودة ستكون بالواحد، ولن يتجاوز
العائدون العشرات، كلما نزل واحد منهم مصر نصبوا له زفة، لإعطاء رسالة للخارج بأن
الأجواء اختلفت، وأن السيسي يتجه نحو اعتماد الحرية ولن يستبعد سوى الإخوان وحدهم!
وينبغي أن ندرك من باب المسؤولية الإنسانية أن هناك مئات
في الخارج يعيشون في ظروف بالغة القسوة، وهم بالفعل لا يمارسون السياسة أو النضال،
وسيكون مفيداً لهؤلاء أن يعودوا إلى مصر، وينبغي أن نرفع عنهم الحرج في ذلك، وهناك
من تورطوا في المواقف باعتباره سفراً قاصداً وعرضاً قريباً، فلما طال عليهم الأمد،
صاروا عبئاً مضافاً، وهؤلاء من الأفضل لهم العودة!
العودة المشروطة:
لقد جاء في المبادرة أن العودة مشروطة بعدم مخالفة القوانين
والتشريعات الوطنية ودستور البلاد، وبدون هذه الشروط فإن مخالفة القوانين
والتشريعات والدستور هو أمر مجرم في حد ذاته بدون النص عليه، لكن هل يمكن أن تكون
المسألة في حدود القانون؟!
الحقيقة أنه لن يسمح لأحد بممارسة أي نشاط، أو كتابة ولو
منشور يحمل وجهة نظر أخرى، وإلا فالدرس هو من تجربة الناشط السياسي شريف الروبي،
فالعودة ستكون كما الإفراج، لا تعني حصانة من أي نوع!
جاء في المبادرة أن العودة مشروطة بعدم مخالفة القوانين والتشريعات الوطنية ودستور البلاد، وبدون هذه الشروط فإن مخالفة القوانين والتشريعات والدستور هو أمر مجرم في حد ذاته بدون النص عليه، لكن هل يمكن أن تكون المسألة في حدود القانون؟!
ولا بأس في ذلك، فهناك عشرات ممن لهم موقف سياسي، أو من
المفروض أن لهم موقفاً سياسياً، يبخلون حتى بكتابة تغريدة لنصرة صديق لهم معتقل،
مع أنهم في الخارج وفي الأمان النسبي، وهؤلاء لن يتأثروا بالعودة المشروطة، لكن في
المقابل فإن النظام لن يقيم لهم حفلة تكريم، حلم بها بعض من عادوا من قبل، فوجدوا
أنفسهم وقد عادوا من غربة إلى غربة أشد. وإذا كان هناك من يرتبطون بعمل في الخارج،
فمن الوهم أن يظنوا أنه ستتاح لهم العودة إليه، ليجمعوا بين الحسنيين!
إن البعض قد يسفه المبادرة، ويشكك فيها، ود لو فشلت،
لأنه قد يستشعر الغربة بعد نزول الأحباب، لأنهم في حكم "بلدياتنا" في
النكتة الشهيرة، الذي كان مع عدد من الفرنجة وقد غرقت سفينتهم في عرض البحر،
فقاوموا الغرق حتى وصلوا إلى جزيرة معزولة، فلما جاء لهم المارد يعرض على كل منهم
طلباً واحداً قابلاً للتنفيذ، قال الفرنسي إن طلبه هو العودة إلى فرنسا، وقال الإيطالي:
العودة إلى إيطاليا، وقال النرويجي: إلى النرويج! فلما بقي وحده واستشعر الوحدة،
قال للمارد: طلبي أن تعيدهم لي مرة ثانية!
ولو فكروا لعلموا أن عودة هؤلاء مفيدة لهم، فإذا رفضت
طلباتهم أسسوا بها وضعاً يمنحهم اللجوء في أي دولة أوروبية، فكثيرون يعجزون عن أن
يقدموا لجهات الهجرة ما يفيد أنهم ممنوعون فعلا من العودة لمصر، أو أنهم واقعون
تحت الاضطهاد، وإن كانت المبادرة ستضر بموقف طالبي اللجوء ودولتهم الأم تفتح لهم
الأبواب، في حال إعادة جميع مقدمي الطلبات وهذا هو المستحيل بعينه!
بقي أن نشير إلى أن هناك من يتوهمون أنه بحلحلة الموقف
ستصمت أصوات الخارج، وهذا ليس صحيحاً لأن المبادرة لن تشمل أصحاب الموقف الواضح..
أو الجاد منهم.
لا تحاربوا المبادرة، فقد يكون فشلها مادة مضافة لرصيد
الإخفاقات المهمة في معركتنا مع القوم!
twitter.com/selimazouz1