غدا الأحد 18 كانون أول/ ديسمبر تدور رحى المباراة الختامية في
مونديال 2022 الذي اضطلعت باستضافته
قطر، وقطعا سأعاني في مقبل الأيام كما
الملايين من الانسحاب، الذي هو مجموعة من الأعراض التي تظهر على الإنسان عند
التوقف، أو التقليل من استخدام أو تعاطي بعض المواد النفسية أو المخدرة، أو بعض
الأدوية التي كانت تؤخذ بشكل متكرر لفترات طويلة، ويصعب الاستغناء عنها لأنها
أصبحت جزءاً من مكونات الجسم، فقد ظللت ـ طوال أربعة أسابيع متتالية ـ وبحكم العيش
في العاصمة القطرية الدوحة، أنهل بالعين والأذن تفاصيل الفعاليات المصاحبة للمونديال
ـ أي خارج الملاعب التي تدور فيها المباريات، كدرويش شاعرنا الكبير محمد مفتاح
الفيتوري "حدقت بلا وجه ورقصت بلا ساق / وزحمت براياتي وطبولي الآفاق / عشقي
يفني عشقي وفنائي استغراق / مملوكك لكني سلطان العشاق".
لم تعرف الدوحة طوال تلك الأسابيع الأربعة سوى الحالم والبهيج، بعد أن
صارت ساحة ضوء رقراق، التقطتها الأقمار الصناعية وقالت عنها إنها أكثر بقاع الأرض
إنارة (وهي مكانة كانت تنفرد بها بلجيكا من قبل)، وجيوش من البشر يتمايلون ضاحكين،
وتراهم سكارى وما هم بسكارى، وكأني بعباس محمود العقاد يسايرهم ويغني: وبي سُكْرٌ تملكني
/ وأعجب كيف بي سُكْرُ / رددت الخمر عن شفتي / لعل جمالك الخمر.
كان المونديال عرسا قطريا، ولكن ديمقراطيا فقد شارك في الزفة على
الأرض مئات الآلاف يوميا من كل الأجناس والأعراق بأزياء متنوعة وتغنوا بألسن
عديدة، ولهذا لم تشهد الدوحة أي قدر من العنف الذي اتسمت به دورات المونديال
السابقة، عندما كان المنهزمون "يفشُّون غلّهم" في أنصار المنتصرين، وكان
المنتصرون يعبرون عن سرورهم بتهشيم واجهات المتاجر والمساكن، وعندما فاز منتخب
السعودية على الأرجنتين رقص الجمهور السعودي في الشوارع مرددا: ميسي وينه / كسرنا
عينه (أين ميسي لاعب الأرجنتين الأشهر، بعد أن أخزيناه)، ثم خرجت السعودية من
المنافسة، بينما صعدت الأرجنتين إلى النهائيات، وشوهد بعض شباب الأرجنتين وفي ساحة
فيها الآلاف يهتفون: وير إز سعودي أرابيا (أين العربية السعودية)؟ ومن حولهم
سعوديون يضحكون ملء أفواههم، ولكن ما إن انهزمت بلجيكا أمام المغرب، حتى خرج
البلجيكيون إلى الشوارع في عاصمة بلادهم ومدنها الكبرى يحطمون السيارات ويشعلون
النيران في المرافق العامة، فأخلاق أوروبا الرياضية لا تسمح بفوز فريق عربي ـ إفريقي
على آخر أوروبي.
للمبالغة في التصوير، يقول العربي عمن فاته مشهد أو حدث كبير وجذاب إن
"نصف عمره ضاع"، وإذا كنت في الدوحة خلال الأيام الماضية ولم تذهب ليلا إلى
درب لوسيل، فقد ضاع ثُمن عمرك، وإذا لم تشهد الفعاليات في سوق واقف ضاع ربع العمر،
أما إذا لم تغش القرية الثقافية (كتارا) ليلة بعد ليلة فإنك تعيش في الزمن بدل
الضائع بلغة كرة القدم، أما إذا فاتتك ألعاب الصوت والضوء في شارع الكورنيش في
التاسعة من مساء كل ليلة، فما لك إلا أن تحلم بدور ثان قد يأتي بعد سنوات طوال.
الآن وقد رأيت ما رأيت خلال أسابيع أربعة على أرض الواقع فإنني أكثر الناس ذهولا وانبهارا ولا أكاد أصدق أن ذلك حدث في الدوحة التي عهدتها لسنوات طوال وادعة وذات جمال هادئ.
الإبداع الحقيقي في المونديال لم يكن في الملاعب (وهي في حد ذاتها
لوحات فنية) التي شهدت وقائع المباريات، وتصاعدت فيها صرخات الفرح والألم حسب
مقتضى الحال، بل كان في عشرات المواقع، حيث تبارت فرق الفنون الشعبية والحواة
والهواة، وحيث ارتجلت الجماهير الأغنيات والأهازيج وحيثما حللت يتناهى إلى سمعك الأنشودة
الرسمية للمونديال بأكثر من لغة واحدة وبلحن واحد ويؤديها خلق كثير من عدة جنسيات
للتدليل على التلاحم الأممي في المونديال: هَلَّا هَلَّا هَلَّا يلا بيهم أرحبو/
وَمِنْ ثَمَّ، أَيَا هَلَّا هَلَّا هَلَّا / الْيَوْم يَأْتِي شَعْبِيٌّ إلَى
هُنَا لِلاحْتِفَال / سنبقى هُنَا جَمِيعًا حَتَّى النِّهَايَة / قَلَّ إذَا كُنْت
ُتشْعِر ِبالْحَبّ و تُؤَدّ أَنْ تُعْطِيَهُ / وَلَكِن ، مِثْل الْمُوَجَّه
الَّتِي لَا يُمْكِنُ لِأَحَدٍ أَنْ يُوقِفَهَا / وَمِنْ ثَمَّ ، اللَّيْلَة
شَرَّق و غَرَّب / شِمَال وجَنُوب / أَعْلَى وأَسْفَل.
تخيل فداحة أعراض الانسحاب الذي سيعاني منه من كان شاهد عيان لكل ذلك
العرس البهيج، عندما يخيم الهدوء على الساحات التي كانت تمور بالخلق والبِشْر
والألق، تخيل حجم الفراغ الذي يحس به مثل ذلك الشخص الذي عاش طوال شهر كامل منغمسا
في مشاهد ووقائع لم يعرف الكون لها نظيرا في المونديالات السابقة ولن يعرفها في
اللاحقة منها، ولعل الشفاء من تلك الأعراض يكون بإدراك من يعاني منها، انه كان من
قلة قليلة جدا حظيت بفرصة معايشة كل ذلك عن كثب.
عندما تلقيت عرضا للعمل في قناة الجزيرة، وكان ذلك قبل انطلاقتها، لم
أصدق تماما ما قيل لي عن "حيادها وموضوعيتها ومهنيتها"، ثم صرت جزءا من
كادرها المؤسس وواكبت صعودها من نصف الكرة الجنوبي لتصبح ندا لشبكات التلفزة
الكبرى في الشمال، وعندما فازت قطر باستضافة كأس العالم، كنت أعرف أنها قادرة على
ذلك فنيا وماليا، بمعنى أنني كنت أتوقع أن تكون النسخة القطرية ناجحة لكونها ستأتي
مشابهة للنسخ القديمة، والآن وقد رأيت ما رأيت خلال أسابيع أربعة على أرض الواقع
فإنني أكثر الناس ذهولا وانبهارا ولا أكاد أصدق أن ذلك حدث في الدوحة التي عهدتها
لسنوات طوال وادعة وذات جمال هادئ.