وافق يوم الإثنين الماضي (19 كانون أول/
ديسمبر) الذكرى الرابعة لاندلاع الحراك الشعبي العارم، الذي انتهت إحدى جولاته
بالإطاحة بحكومة الرئيس
السوداني السابق عمر البشير، ثم أعقبت ذلك عدة تحولات
وتقلبات انتهت باستفراد عبد الفتاح البرهان بالحكم في تشرين أول/ أكتوبر من عام
2921، ووفاء لتلك الذكرى التي حولته من نكرة الى معرفة، أعلن البرهان عطلة عامة في
ذلك اليوم، وكما هو معتاد منذ عام 2019 خرج الآلاف الى الشوارع لإحياء الذكرى،
وخرج بموازاتهم
عسكر البرهان وأمطروا المتظاهرين حمما أسفرت عن إصابة 449 شخصا
بجراح متفاوتة الخطورة.
قبل أيام قليلة تم التوقيع على اتفاق إطاري
بين البرهان وعسكره، والقوى المدنية الرافضة للحكم العسكري، يقضي بتشكيل حكومة
مدنية بالكامل وابتعاد البرهان وعموم العسكر عن هياكل الحكم، وبعدها بأيام وقف
أمام حشد من العسكر (ولم يجد قط يوما ما الشجاعة للوقوف امام حشد مدني) ووضع
العديد من العصي في دولاب ذلك الاتفاق، عندما أثبت مجددا أنه يعتبر نفسه الوصي والقيِّم
على كل إجراء يتعلق بالحكم ومستقبل الحكم، فقد قال صراحة إن الحديث عن تسوية بين
العسكريين والمدنيين ملتبس، وإن الاتفاق سيبقى مفتوحا لمن يرغب في التوقيع عليه،
ويقصد بذلك الإكثار من عدد الفرقاء المتشاكسين سياسيا في الساحة، بحيث يتعذر
الوصول الى اتفاق نهائي يفضي الى قيام حكم مدني، كما قال في تلميح أقرب إلى
التصريح إنه في حال إجراء انتخابات عامة وفشل حزب في الحصول على أغلبية تؤهله
للحكم، أو حدوث أي انتهاك لـ "الثوابت" فإن الجيش جاهز لـ "التحرك"،
مما يعني أنه هو الحَكَم وهو من يقرر ما هي الثوابت، وما إذا تعرضت للخرق
والانتهاك.
والراجح في تقدير من يراقبون المشهد
السوداني، هو أن ثوابت البرهان هي الشركات التي يسيطر عليها الجيش، وتسيطر هي
بدورها على 82% من موارد السودان الاقتصادية، والتي تطلب القوى المدنية بأيلولتها
الى وزارة المالية، وبداهة فإن الكارتيل العسكري الذي عرَّابه البرهان لن يفرط في
تلك الشركات، ولهذا قالها صريحة: لن نسمح لحكومة بالتدخل في أي امر يخص الجيش ما
لم تكن منتخبة، أي أن الحكومة المدنية الانتقالية المرتقبة -إذا قُيِّض لها ان
تتشكل- ليس من حقها البت في أي أمر يخص المؤسسة العسكرية.
وما رمى إليه البرهان أيضا، هو التشكيك في
أهلية تحالف قوى الحرية والتغيير (قحت)، الذي مثل القوى المدنية في الاتفاق
الإطاري في تمثيل تلك القوى، بتصوير
التحالف على أنه يرمي لاختطاف السلطة والانفراد بها، ولم يغفر البرهان لـ "قحت"
أنها أرغمته في تموز/ يوليو من عام 2019 على توقيع اتفاق معها أدى إلى تشكيل حكومة
مدنية في معظمها برئاسة عبد الله حمدوك، وهو الذي كان قبلها قد أعلن أنه لن
يفاوضها ولن يعترف بها كممثلة للحراك الشعبي.
لا يفوِّت البرهان فرصة إلا وأكّد فيها أنه يعمل على تحقيق أهداف ثورة ديسمبر (التي هي الثورة التي انتهى الفصل الأول منها بالإطاحة بحكم البشير وأعوانه)، فهو لا يندد بتلك الثورة، ولكنه ينكل علانية بمن أشعلوها وقادوها وما زالوا قابضين على جمرها،
وبعض الأدلة الحاسمة التي تشي بأن البرهان
يستعذب البقاء في الحكم بل يخطط لذلك، أن الحكومة الحالية والتي يقوم هو فيها بكل
الأدوار، منهمكة في التوقيع على عقود مليارية لإنشاء ميناء جديد وخط سكك حديدية
قاري، وبمنطق الصلاة خلف علي أكمل، والطعام عند معاوية أجمل، فإنه يرسل ذهب
السودان إلى روسيا ويرسل الذخائر الى خصمها أوكرانيا، فلأن معدات سلاح المدرعات
(الدبابات) السوداني روسية ـ أوكرانية منذ الحقبة السوفيتية، فقد وجدها فرصة
لتزويد أوكرانيا بكوكتيل من القذائف عيار 122 ملم، عبر شبكة من سماسرة الأسلحة،
كما كشفت عن ذلك مجلة آفريكا إنتليجنس، علما بأن القذائف ذات المنشأ الغربي لا
تصلح للدبابات الأوكرانية.
ما يؤكد تماما أن البرهان وقع على مضض على
الاتفاق الإطاري مع "قحت" وقبل فيه بالعودة إلى الثكنات العسكرية، هو ما قاله محمد
حمدان دقلو (حميدتي) نائبه في رئاسة مجلس السيادة في لقاء تلفزيوني: وقعنا على
الاتفاق وأرجلنا فوق رقابنا، أي "أُرغمنا على ذلك"، ولم يفصح عن الطرف
الذي تولى الإرغام، ولكن وطالما الأمر كذلك، فإن مناورات البرهان لخلخلة الاتفاق
تمهيدا للتنصل منه تبقى مفهومة، كما وأن رغبة هذا الثنائي في الاستمرار في الحكم
تتجلى أيضا في المحاولات المتكررة لتلميع حميدتي وإبرازه كرجل دولة عاقل ورصين
ومحبوب، فقد اختارته مفوضية حقوق الانسان السودانية (الرسمية) شخصية العام الجاري
في مجال رعاية حقوق الانسان، ولم يرمش للمفوضية جفن وهي تعلن ذلك، وتتناسى أن
انتهاك حقوق الانسان في دارفور كأبشع ما يكون الانتهاك، هو الذي جعل من حميدتي
علما في رأسه دخان كثيف.
لا يفوِّت البرهان فرصة إلا وأكّد فيها أنه
يعمل على تحقيق أهداف ثورة ديسمبر (التي هي الثورة التي انتهى الفصل الأول منها
بالإطاحة بحكم البشير وأعوانه)، فهو لا يندد بتلك الثورة، ولكنه ينكل علانية بمن
أشعلوها وقادوها وما زالوا قابضين على جمرها، وما وقف الرجل امام ضباط وجنود
الجيش، إلا قال كلاما ينسف به ما يقوله لأجهزة الإعلام عن زهد العسكر في الحكم،
ولا تختلج في وجهه عضلة وهو يلحس اليوم كلاما قاله بالأمس، وهذا ديدن كل من لا
يحتكم الى مبدأ سياسي او أخلاقي ويتحلى بميكافيلية مقيتة.