عندما بدأ النشاط العلني للمتعلمين
السودانيين في أواسط أربعينيات القرن الماضي، للعمل على تحرير البلاد من
الاستعمار، وكان البريطانيون قد غزو السودان في أواخر القرن التاسع عشر تحت رايات
مصرية، وجعلوا من ثم مصر غطاء لاستعمارهم للسودان، وجعلوا المصريين شركاء إسميين
في إدارة شؤون البلاد، نشأ تيار قوي داخل الحركة الاستقلالية يدعو لاستقلال
السودان تحت التاج المصري، وظل هذا التيار مسنودا من مصر الناصرية حتى الأول من
كانون الثاني/ يناير من عام 1956، عندما تم إعلان السودان دولة مستقلة تماما، بعد
أن أدرك التيار الوحدوي أن التشبث بأستار مصر سيفقده السند الشعبي داخل السودان.
وعلى مر سنين طوال بعد استقلال السودان، ظلت
النخب السياسية في مصر تجاهد لضم السودان كليا إلى مصر، أو جعله على الأقل فناء
خلفيا لها، ومن ثم ظل تعامل مصر مع السودان أمنيا، بدرجة أن سفراء مصر لدى السودان
كانوا من جهاز المخابرات المصرية على مدى أكثر من ثلاثين سنة، وظلت مصر سندا قويا
لكل الحكومات العسكرية في السودان، بدرجة أن الرئيس حسني مبارك، الذي وصل إلى
الحكم لأن بعض الإسلاميين المصريين قتلوا سلفه أنور السادات، كان أول من هرع
لتأييد انقلاب الإسلاميين في السودان على نظام ديمقراطي في حزيران/ يونيو من عام
1989، ونال جزاء سنمار عندما دبر انقلابيو السودان أولئك لاغتياله في أديس أبابا
عام 1995، لأن قلوبهم كانت على إخوانهم في مصر الذين كان نظام مبارك ينكِّل بهم.
ولأن الحزب الشيوعي السوداني ظل شوكة حوت في
خاصرة الأحزاب التقليدية في السودان، فقد ظل يُرمى بكل الجرائر التي يتعرض لها
السودان، وتم اتهامه بتدبير الانقلاب الذي أوصل جعفر نميري إلى الحكم في عام 1969،
بينما حقيقة الأمر هي أن قوام الانقلاب وسداته كانوا الضباط القوميين العرب، وركب
بعض الشيوعيين الموجة بعد نجاح الانقلاب، على أمل تشكيل تحالف يساري مع القوميين،
ولكن الأخيرين تعشوا بالشيوعيين قبل أن يتغدوا بهم بإيعاز من مصر الناصرية، ثم قام
الشيوعيون بانقلاب انتحاري ضد حكومة نميري، "نجح" لثلاثة أيام، تعرضت
بعدها قيادة الحزب لعمليات إعدام وسجن وملاحقات أنهكت الحزب إلى يوم الناس هذا.
وهناك شبه إجماع في السودان بأن مصر لا ترحب
بالإطاحة بحكم الإسلاميين، أي حكومة عمر البشير في نيسان / أبريل من عام 2019 رغم
عداء الحكومة المصرية المفرط للحركات الإسلامية، ذلك أن حكومة البشير وبعد فشل
محاولتها لاغتيال حسني مبارك صارت مدجنة، بعد أن انهالت عليها العقوبات الدولية،
بدرجة أنها سكتت تماما عن استيلاء مصر على مثلثي حلايب ـ شلاتين في عام 1995، بعد أن
كان خاضعا للإدارة السودانية منذ استقلال السودان.
وهناك شبه إجماع في السودان أيضا بأن مصر هي
التي أوعزت لعبد الفتاح البرهان قائد الجيش السوداني، بالتخلص من حكومة عبد الله
حمدوك المدنية، التي تولت مقاليد الأمر التنفيذية في السودان بعد خلع البشير،
ومعلوم أن حمدوك هو أول رجل دولة سوداني، يقول وفي منبر مصري، ما معناه إنه لا
يجوز السكوت على تمصير مثلث حلايب ـ شلاتين، فكان أن قام البرهان بانقلاب عسكري في
أواخر عام 2021، ثم وجد نفسه عاجزا عن تصريف شؤون الحكم والحصول على سند شعبي،
فكان أن عاود التفاوض مع القوى المدنية التي قادت الحراك ضد حكم البشير، وتوصل
معها إلى اتفاق إطاري (مبدئي) بهجر العسكر لأروقة السلطة والحكم.
وفي الثاني من الشهر الجاري قام مدير المخابرات
المصرية اللواء عباس كامل بالحلول في الخرطوم، التي زارها مرارا منذ سقوط حكم
البشير، وفي هذه المرة، ولأول مرة اجتمع كامل بالقوى المدنية عارضا نقض غزل ذلك
الاتفاق، بـ "فتحه" مجددا كي تنضم إليه قوى أخرى رافضة له، للتوصل إلى
اتفاق جديد عبر ما أسماه "حوار سوداني ـ سوداني"، وكانت التسمية هذه في
حد ذاتها مؤشرا على أن مصر مستاءة، لأن الوساطة التي قادت لذلك الاتفاق كانت
أمريكية سعودية إماراتية برعاية الأمم المتحدة، وتريد أن تكون اللاعب الرئيس إن لم
يكن الأوحد في الملعب السوداني.
الراجح لدى كل مراقب حاذق لراهن الأوضاع في السودان هو أن مصر، كعادة حكامها على مر عقود طوال، تريد للعسكر أن يكونوا ذوي اليد الطولى في دهاليز الحكم في السودان، لأن العسكر يستعيضون عادة بالسند الخارجي عن الفاقد من السند الشعبي، ومن ثم فهم غير مرتاحين لقبول البرهان بالخروج من المشهد السياسي في السودان،
وبداهة فقد رحب البرهان بالمقترح المصري،
لأنه سيعيد الأمور إلى المربع الأول، مما يعطيه فرصة لالتقاط الأنفاس، وهو جالس في
القصر على أمل أن تؤدي البلبلة التي ستنجم عن نقض الاتفاق الإطاري إلى فتح المجال أمام
قيادات القبائل، لتصبح أكثر حسما وعزما في دعم بقائه في الحكم لفترة أطول، وبداهة
أيضا فقد رفضت القوى المدنية العرض المصري وقالت لكامل "شكر الله سعيكم".
وكانت مصر قد أوفدت في 21 تشرين الثاني/
نوفمبر الماضي محمد عثمان الميرغني زعيم طائفة الختمية في السودان، ورئيس أحد
أجنحة الحزب "الاتحادي الديمقراطي" ـ وهو الحزب الذي كان يرفع شعار
الوحدة مع مصر، أوفدته إلى السودان بعد أن عاش في مصر اثنتي عشرة سنة متصلة، وكان
ولداه الحسن وجعفر قد سبقاه إلى الخرطوم، ليقلب الطاولة على الاتفاق الإطاري،
فكانت الفضيحة: فور وصوله إلى الخرطوم وقبل أن يغادر الطائرة قام الميرغني بعزل أكبر
أبنائه "الحسن" من منصبه القيادي في الحزب، بعد أن علم بأنه يؤيد
الاتفاق الإطاري، وبإيعاز منه ركب ابنه جعفر قارب معارضي الاتفاق، ولكن جهوده
وجهود والده في إلغاء الاتفاق باءت بالخسران، فكان لا بد من نزول اللواء كامل
بنفسه إلى الحلبة.
والراجح لدى كل مراقب حاذق لراهن الأوضاع في
السودان هو أن مصر، كعادة حكامها على مر عقود طوال، تريد للعسكر أن يكونوا ذوي
اليد الطولى في دهاليز الحكم في السودان، لأن العسكر يستعيضون عادة بالسند الخارجي
عن الفاقد من السند الشعبي، ومن ثم فهم غير مرتاحين لقبول البرهان بالخروج من
المشهد السياسي في السودان، خاصة وأن البرهان يجاري مصر في الكيد لإثيوبيا التي
تعتقد مصر أن سد النهضة الأثيوبي يضر بمصالحها.
والآن وعباس كامل يغادر الخرطوم خاسرا، لا
أحد يعلم ماذا في جراب الحاوي البرهان، كي يناور مجددا لتمديد أمد بقائه في القصر
الجمهوري.