في
معظم دول العالم يبدأ الحديث في السياسة بعد الانتهاء من ترتيب أوراق
الاقتصاد عدا
العالم العربي، يبدأ النقاش سياسيا وينتهي سياسيا قبل أن يلتفت الجميع فجأة إلى أن هناك صخرة يمكن أن تتكسر عليها أعتى
المشاريع السياسية الطموحة، وهو الاقتصاد، سواء أكانت الدول في المراحل الانتقالية
أو بعد الثورات والحروب.
والاقتصاد
في العالم العربي أنواع؛ أولها طلاسم لا يفهمها إلا نخبة النخبة، وهم المعنيون
بمعظم أخبار مؤشرات النمو والبورصات. وثانيها اقتصاد رجال الأعمال والتجار وكثير
من السياسيين المعنين بالسياسيات المالية من أسعار العملات وما يتعلق بمصالح
أعمالهم. وثالثا اقتصاد رجل الشارع أو ما يعرف باقتصاد الخبز اليومي، وهو الشغل
الشاغل للسواد الأعظم من الناس لأنه مرتبط بمعيشتهم اليومية.
إذا تتبعنا السياسات في معظم الدول العربية نجد أنها تخاطب النوع الأول من الاقتصاد بالدرجة الأولى، وتغازل أحيانا أرباب النوع الثاني، وتلقي بكثير من الوعود إلى أصحاب النوع الثالث، مع أن المفترض هو حدوث العكس، وهو أن يبدأ اهتمام اقتصاد الدول من أسفل لأعلى وليس من أعلى لأسفل
إذا
تتبعنا السياسات في معظم الدول العربية نجد أنها تخاطب النوع الأول من الاقتصاد
بالدرجة الأولى، وتغازل أحيانا أرباب النوع الثاني، وتلقي بكثير من الوعود إلى
أصحاب النوع الثالث، مع أن المفترض هو حدوث العكس، وهو أن يبدأ اهتمام اقتصاد
الدول من أسفل لأعلى وليس من أعلى لأسفل. ونحن هنا نتحدث عن موقع الاهتمام
الاقتصادي في أجندات الأحزاب والوزارات والحديث السياسي والإعلامي العام، وليس عن
نوعية السياسة الاقتصادية ذاتها وما إذا كانت رأسمالية أو اشتراكية. وهذا أدى إلى
فجوة كبيرة بين الأرقام المعلنة والواقع الاقتصادي على الأرض، أو بالأحرى بين الآمال
السياسية العريضة وصخور الاقتصاد التي تتحطم عليها هذه الآمال دائما.
في
معظم الدول الكبرى، تتمايز برامج الأحزاب السياسية على أساس اقتصادي بشكل رئيس.
ففي دول أوروبا الغربية والولايات المتحدة تنقسم الأحزاب إلى تلك التي تؤيد
الاقتصاد الرأسمالي الحر الذي يطلق العنان لآليات العرض والطلب وتشجيع الأسواق،
وأخرى ترمي لتعزيز البعد الاجتماعي والاشتراكي ومساهمة الدولة المباشرة في الاقتصاد
لضمان رفاهية الأفراد. والقواعد الجماهيرية لهذه الأحزاب والتيارات تتفهم هذا
الأمر وتدركه وتختار مرشحيها على هذا الأساس.
وحتى
في نطاق ما يطلق عليه الدول النامية، لدينا تجربتان مهمتان في هذا الشأن وهما
تركيا وماليزيا. التجربة الماليزية معروف موقع الاقتصاد المركزي فيها، أما التجربة
التركية الاقتصادية الناجحة فهي لم تبدأ مع حزب العدالة والتنمية ولكن مع رئيس
الوزراء الراحل نجم الدين أربكان في الستينات من القرن الماضي، وهي تجربة اقتصادية
بالأساس رغم التركيز الإعلامي العربي على الشق الأيديولوجي فيها بشكل مستمر عند
تناول مسارها التاريخي. فالرجل هو مفكر اقتصادي ومخترع في المقام الأول، وتجربته وإنجازاته
الاقتصادية في ألمانيا خلال الستينات ثم دوره في اتحاد غرف التجارة والصناعة
والبورصة التركية سابق على تجربته السياسية، وكانت لديه رؤية اقتصادية شاملة
وطموحه سعى من خلال السياسة إلى تطبيقها. وعندما اصطدمت هذه الرؤية بصخرة التحولات
السياسية كان من السهل على تلاميذه أن يحملوا مشعل الإصلاح الاقتصادي ويمضوا بها،
فصخرة السياسة أهون من صخرة الاقتصاد.
الحلقة المفقودة في التجارب الاقتصادية عربيا هي الخبرة العملية، وهي خبرة توفرها أوروبا الغربية والولايات المتحدة للمعارضة التي تتدرج في سلم السلطة، وهذا أمر مفقود في معظم الدول العربية والإسلامية بسبب صعوبة عمليات تداول السلطة مع المعارضة. ومع هذا فليس الأمر ذريعة لقطاع مهم من الخبراء والسياسيين لتهميش البعد الاقتصادي
هناك
تصريح هام للرئيس التركي رجب طيب أردوغان العام الماضي لم يحظ باهتمام كبير خلال
ندوة اقتصادية في إسطنبول قال فيه: "قسم كبير من أحلام المرحوم نجم الدين
أربكان حققناها في الأعوام الـ19 الماضية". وهو تصريح لا يتسق مع السردية
التي لا ترى في الرجلين سوى تلميذ تمرد على الأستاذ، ويشير بوضوح للبوصلة الاقتصادية
للسياسية التركية في عهد العدالة والتنمية منذ بدايته.
إن
الحلقة المفقودة في التجارب الاقتصادية عربيا هي الخبرة العملية، وهي خبرة توفرها
أوروبا الغربية والولايات المتحدة للمعارضة التي تتدرج في سلم السلطة، وهذا أمر مفقود
في معظم الدول العربية والإسلامية بسبب صعوبة عمليات تداول السلطة مع المعارضة.
ومع هذا فليس الأمر ذريعة لقطاع مهم من الخبراء والسياسيين لتهميش البعد الاقتصادي،
وليس أدل على ذلك من تجربة أربكان في الستينات على صعيد الشركات والاتحادات
المهنية. وهي مساحة موجودة للممارسة في كثير من الدول العربية لم يتم استثمارها
لتقديم نموذج مصغر من الإصلاح الاقتصادي يمكن أن يتوسع بغض النظر عمن سيطبقه؛ لأن
العيون دائما شاخصة نحو البرامج السياسية وليس الاقتصادية.
twitter.com/HanyBeshr