لا يستغربنّ قارئ هذا السؤال وإن بدا لوهلة بلا سياق
تاريخي، فعلى الورق لا تزال
تونس دولة ولها قيادة سياسية وتزعم الدفاع عن سيادتها
بين الدول. لكن هل أن القيادة الظاهرة هي القيادة الحقيقية؟ أم أن هناك قيادات
خفية؟ وجب قبل ذلك توضيح سبب السؤال.
الجو المخيم في تونس حزين ويزيده حزنا جهل الناس بما
يجري حولهم، فالسلطة القائمة شكلا تتصرف طبقا لخريطة لا يفك شفراتها أحد. بما يشعر
قطاعا واسعا من المتابعين أن هناك سلطة أخرى تأمر وتنفذ، والأهم أن ما ينفذ يتم في
اتجاه تصحير الحياة السياسية وإفقادها كل قدرة ذاتية على التجدد والتطور نحو أفق
مفهوم وقابل للعيش. هل هي قوة داخلية ولها خطة، أم هي أيادي داخلية تحركها قوة
خارجية؟
تونس الآن وهنا بلد للأسئلة الحائرة لا يكون فيها على
يقين إلا غافل أو غبي، سنجمع ما نظنه جوابا ولن ندعي يقينا من شيء.
أزمة ليست خافية وهي مركبة ومعقدة، فظاهرها سياسي وباطنها اقتصادي واجتماعي وكل هذه الأبعاد تراكمت حتى صار الفرز بينها يتطلب جهدا منهجيا كبيرا
الأزمة وتدويلها
الأزمة ليست خافية وهي مركبة ومعقدة، فظاهرها سياسي
وباطنها اقتصادي واجتماعي وكل هذه الأبعاد تراكمت حتى صار الفرز بينها يتطلب جهدا
منهجيا كبيرا. هناك جانب من الأزمة موروث مما قبل الثورة، ويمكن للمؤرخين تأصيله
في دولة الاستقلال نفسها ونمط التنمية غير المتوازن الذي انتهجته وراكمت فوقه سوء
الإدارة السياسية لمجتمع شاب ونشط ومتعلم.
ورثت الثورة كل ذلك ولم تعالج جذور الأزمة فراكمت بدورها
فوق ما هو موروث، وكان الظن أن انتخابات 2019 تعد بحل وكانت نسبة المشاركة العالية
في انتخابات الرئيس خاصة تحمل بشارات حماس وتوافق وطني، لكن الرئيس المنتخب قلب
ظهر المجنّ لناخبيه وللبلد وظل يتصرف طبقا لأجندته الخاصة التي تنتهي بالبلد الآن
إلى تعميق كل أبعاد الأزمة بما يدفع إلى التدويل. وقد سبق أن كتبنا أن تفكيك كل
هذه المعضلات سيكون بيد خارجية وإن تدبرت لها أيد محلية للتنفيذ. هل أن ما يجري
الآن هو بعض خطوات الحل الدولي لأزمة محلية في بلد يزعم السيادة؟ نرجح ذلك ونحاول
التبيّن.
قوى كثيرة
تتصارع حول تونس
اللحظة تظهر أمامنا قوى دولية مؤثرة وتملي أو توجه وتحرك أياديها في الحل بما يجعل رأس السلطة الظاهر في المشهد بلا نفوذ حقيقي وإن رفع صوته بلعن الشعب
قد يكون السؤال في محله من لم يتدخل في الشأن التونسي
بعد؟ فحتى حفتر دخل ذات يوم القصر الرئاسي مسلحا وجعل الرئيس الباجي يرتجف، لكن
اللحظة تظهر أمامنا قوى دولية مؤثرة وتملي أو توجه وتحرك أياديها في الحل بما يجعل
رأس السلطة الظاهر في المشهد بلا نفوذ حقيقي وإن رفع صوته بلعن الشعب.
نرى فرنسا قوة تدخل وتأثير فعال بعد (وربما أبدي) ولها
أنصار أو أياد. كل السلوك السياسي الفرنسي الرسمي والشعبي يثبت أن تونس لا تزال في
الذهن السياسي الفرنسي محمية، أو بالأحرى مستعمرة ضمن النفوذ التاريخي للإمبراطورية.
لفرنسا أياد اقتصادية تمسك بخناق البلد الاقتصادي ولها في الأجهزة الأمنية ما يجعل
تونسيين كثر يقولون الداخلية مُلك فرنسا، وقد سماها برنامج تامر المسحال بالاسم (وما
خفي عنا أعظم مما كشف لنا).
لكننا لا نستشعر حركة فرنسا وحدها فهي لم تعد وحدها، فكل
الألسن تنطلق الآن بالحديث عن طموح أمريكي في شمال أفريقيا وتونس تمثل نقطة استراتيجية
للعبور نحو أفريقيا، وربما تمثل مكانا وسطا في حوض المتوسط تزداد أهميته الاستراتيجية
إذا خفف الأمريكيون وجودهم في الشرق وأعادوا الانتشار ضمن خطط تصدي للصين وروسيا.
ولا يمكن التحرك الأمريكي في المنطقة بوجود نفوذ فرنسا قوي، هنا يزدهر الحديث عن
علاقة الجيش التونسي بأمريكا فهي من تسلح الجيش وتدربه، غير أني لا أستسهل القول
الشائع بأن الجيش هو يد أمريكا في تونس ولكن الواضح أن الجيش ليس بيد فرنسا.
لا نستشعر حركة فرنسا وحدها فهي لم تعد وحدها، فكل الألسن تنطلق الآن بالحديث عن طموح أمريكي في شمال أفريقيا وتونس تمثل نقطة استراتيجية للعبور نحو أفريقيا، وربما تمثل مكانا وسطا في حوض المتوسط تزداد أهميته الاستراتيجية إذا خفف الأمريكيون وجودهم في الشرق وأعادوا الانتشار ضمن خطط تصدي للصين وروسيا. ولا يمكن التحرك الأمريكي في المنطقة بوجود نفوذ فرنسا قوي، هنا يزدهر الحديث عن علاقة الجيش التونسي بأمريكا
وليست القوتان العظميان وحدهما، فهناك الجزائر التي يرى
بعض قادتها أن تونس مجرد ولاية جزائرية وقد بات من الأكيد أن أكبر داعم لنظام قيس
سعيد وربما قبل انقلابه على التجربة الديمقراطية هو حاكم الجزائر الذي يحرك جيشا
قويا. والخطاب الرسمي الجزائري وإن أظهر الاحترام لسيادة البلد الآن، فإنه يشي
بطموح إلى الهيمنة سواء بتنصيب موالٍ أو بالتدخل المباشر.
وبين القوى الثلاث خلافات حول تشخيص الأزمة وطبيعة الحل،
لكنها متفقة على أن الحل لن يكون داخليا وهي تشرع لنفسها التدخل وترى نفسها في
موضع الفرض على التونسيين العاجزين.
التدخلات الخارجية
هل تفسر الوقائع الداخلية؟
هذا رائج الآن في الساحة التونسية خاصة في غياب إعلام
نزيه وشجاع. فرنسا اشتغلت على نخبتها وألفت بداية حل باسم خيام التركي بصفته وجها
غير مستهلك ولم يتورط في الحكم في العشرية، فضلا على أنه يملك كاريزما الشكل
والثقافة الفرنسية ويعطي انطباعا بأنه شخصية مستقلة. وتوحي
الاعتقالات التي أعقبت
اجتماعاته التشاورية بأنه وضع يده مع نخبة الساحل الاقتصادية والسياسية ضمن خطة
مشابهة لخطة بن علي، أي دون تشريك حزب النهضة (ومن ناصره وخاصة جبهة الخلاص) فعندما
تُغيَّب النهضة نستشعر اليد الفرنسية بلا جدال. من أسقط الخطة الفرنسية بالاعتقالات؟
ومن اعتقل من؟
هل هي الجهة الأمريكية والسفير الجديد الذي جاء (بكل
حزم) وحرك الجيش ومخابراته؟ هل هي الجزائر التي تستبق الحل الفرنسي لتحفظ حقها في "الولاية
التونسية"؟ فالمخابرات الجزائرية نشطة في تونس وهذه معلومة متاحة ومكشوفة
للكثيرين.
هنا يزداد الأمر غموضا، فإذا كانت فرنسا وجدت نخبة تؤلف
منها حلا فإننا لا نعرف على من ستعتمد الجزائر أو الولايات المتحدة لتؤلف حلها
للأزمة. هل علينا توقع اعتقالات أخرى في هذا الصف أو ذاك لنعرف بقية الأطراف
الداخلية التي تتحرك ضمن الأجندات الخارجية؟
هل أن "إخضاع" النقابة يأتي ضمن خطة لبرلة أمريكية تريد تحويل البلد عن دولة الريع المسماة دولة اجتماعية ثم تمويلها ضمن هذا الأفق الليبرالي؟ هل يتم ذلك ضمن خطة الرئيس الخاصة لإلغاء كل الأجسام الوسيطة وفرض خياره الشعبوي المباشر؟
المزيد من الريبة
إننا لا نتعمد هنا الإبقاء على الريبة (أو نختلقها) وإنما
نحن نكتب في غياب معلومات لا أظنها متيسرة لكثيرين من خارج منظومة الأمن والدفاع
ومن خارج نوايا الرئيس، وطبعا من خارج كل نوايا المتدخلين وفاعلية أدواتهم
الداخلية المحتملة.
هل أن
"إخضاع" النقابة يأتي ضمن خطة لبرلة
أمريكية تريد تحويل البلد عن دولة الريع المسماة دولة اجتماعية ثم تمويلها ضمن هذا
الأفق الليبرالي؟ هل يتم ذلك ضمن خطة الرئيس الخاصة لإلغاء كل الأجسام الوسيطة
وفرض خياره الشعبوي المباشر؟ (وهو الأمر الذي ينسف كل ما ظنناه أو توقعناه من خطط
خارجية)؟ ما هي القوة المالية المتاحة للرئيس وحكومته لفرض هذا الخيار الجذري،
خاصة والأزمة الاقتصادية تستفحل على أبواب شهر رمضان حيث ترتفع معدلات إنفاق الأسر
التونسية؟
إن حيرتنا لفهم ما يجري تزداد ونرتبك إذ ننقلها لقارئ
محتمل يحاول فهم الوضع التونسي، لكن هناك يقين بأننا لسنا وحدنا، أي أننا لن نحل أزمتنا
بأيدينا وقد نكتفي بدعاء ابن أبي الضياف ذات أزمة حكم سبقت (نسأل الله حسن العاقبة).