يمكن للمعارضة
المصرية أن تساهم حتى اليوم في كتابة سطر أخير في المأساة
الممتدة منذ ما يناهز 10 سنوات عجاف، لكن ساد التسرع والحكم بالانفعالية وتعليق
الموقف المتأزم على حدوث معجزات متتالية تحكم للمظلومين بالعودة لسدة الحق، فضلاً
عن الفرقة والتشرذم اللذينِ دبّا بين صفوفها واستشريا لما حاول كل طرف من أطرافها إيثار
مصلحته الخاصة تحول دون هذا؛ فاستشرت تكاليف الظلم والاستبداد في مصر وبالتالي في دول
محيطة بها، ووهن قلب الأمة..
استشرت الحالة المصرية لما راح كل طرف يُفترض فيه أنه صاحب مبدأ يبحث عن
غنيمة ومصلحة شديدة الأثرة والخصوصية، وبالتالي فكلهم يغفر لأتباعه ويحاسب حساباً
عسيراً أتباع الآخرين من نفس الفصيل أو المعسكر إن وقع تحت يديه. على أن
المعارضة استكانت
للحظة الحاضرة الواهنة وامتدادها إلى سنوات مقبلة لا عدد لها، فليست هناك ملامح
تبشر بشيء من الإضاءة لنهاية الأنفاق المتعددة، وهذه المعارضة للأسف المرير صارت
نسخة من واقع مظلم، ومزعج جداً أنه تم توظيفها بأطيافها -إلا من رحم ربي- في
الصورة المعتمة، وهكذا فمن خرجوا بالتحديد للمجيء بنهار لمصر والأمة صاروا جزءاً
من إعتام ليلها ومفارقتها النهار!
منذ بداية تموز/ يوليو 2013م حتى اليوم -بنسب ودرجات- كان يمكن لأصحاب "الكربلائيات"
الإعلاء من شأن المآسي وادعاء إجبارهم على ما لم يكونوا يريدون، مع تعليق الإظلام
والإعتام الكاملين للمشهد على تحالف الأعداء والأصدقاء ضدهم، واستمرارية التآمر عليهم.
كان يمكن وما يزال ممكناً أن يملكوا الفعالية؛ وكأن السياسة لديهم هي استمرار تلقي
الضربات الموجعة دون جاهزية فضلاً عن الاستعداد للتماسك، أما القدرة على الرد فأمر
لا يمكن التفكير فيه لديهم أساساً.
إننا نقف أمام لحظة تشبه الألغاز من التاريخ المصري بل العربي والثوري، إذ
إن مجموعة من الجنرالات قساة القلوب وغلاظ الأفهام اختطفوا بلداً منذ نحو 10 سنوات.
وفي المقابل فإن الفاعلين "المفترضين" في البلد المختطف منهم منذ ذاك
التاريخ وعلى مراحل؛ يصطرخون ويأكل بعضهم بعضاً في سبيل بقاء الوضع كما هو عليه،
أما المستضعفون منهم فإنهم يعانون القهر والظلم المميتين، حتى أن محامياً أحصى عدد
المستمر حبسهم على ذمة قضايا الرأي منذ بداية 2023م حتى بداية آذار/ مارس التالي فوجدهم
371، فضلاً عما تقول أجهزة الدولة أنه انتحار 3 مساجين سياسيين بـ"سجن بدر"
لسوء معاملتهم. ويلطف الله فلا يكون في الطريق آخرون، أو المحامي الذي أحصى
القضايا على ذمة أمن الدولة العليا. وأبلغ عن العدد السابق محامٍ مستقل متطوع،
فالمحامون المعترضون المقيمون في الخارج ومعهم مسئولو الملف الحقوقي، فضلاً عن
الإعلامي، ومن ثمَّ السياسي وغيره، طافوا البلاد وحدثوا أصحابها هنا وهنالك ثم
عادوا حتى دون خفي حنين، وهم لا يدرون شيئاً عن المعتقلين: عدداً دقيقاً أو شبه،
أحوالاً صحية أو شبه، عدد المضارين من أهلهم أو شبه، فضلاً عن أحوال المضارين
والمطاردين والمصابين أو حتى شبه.
ماذا لو أن الأساتذة من المعارضين خاصة في الخارج وقبيل توسع نوبة
الاعتقالات الشرسة لتشمل الآلاف؛ تفكروا قليلاً وتأسوا بالراحل نجم الدين أربكان -طيب
الله ثراه- إذ لما انقلب الجيش التركي عليه في 1997م آثر السجن على اعتصام نحو 4.5
ملايين في الشوارع وصدامهم مع المدافع والدبابات و"المجنزرات الطائرة
والزاحفة والسريعة الطلقات".
ماذا لو أن الأساتذة في مصر لم تأخذهم حدة الموقف وتفكروا في أحوالهم، وأن
العالم الذي لطالما عاداهم لم يكن لينصرهم وقد سمح فاعلوه بالانقلاب عليهم؟
ماذا لو أنهم فكروا بعقولهم وحموا الملايين من محرقة لا يعلم أحد مداها،
وتدبروا الواقع قبل أن يبادر الطرف الآخر بإحكام التدبير، فيسرع باعتقال الفاعلين منهم
والإيحاء لمن دونهم بأهمية الخروج، وتزيين الكفاح في أنفسهم، ثم استدراجهم لتضييع
المقدرات والأعمار في الطواف بالبلاد وجلب المنافع على حساب القضية؟
وماذا لو أنهم اجتمعوا اليوم فنقوا أنفسهم من شبهة التربح وصادروا أهله وبادروا
لأخذ آراء المضارين جميعاً وصولاً لرأي واحد يلتزمون به ويستبعدون المخالفين؟
ماذا لو أنهم رحموا أنفسهم من حساب التاريخ العسير وحساب الله الأعسر للمتربحين
وقت الأزمات؟ ماذا لو خرجوا على الدنيا يداً واحدة تؤثر التراجع من المشهد السياسي
الذي لا يجيدونه، ومن مصير استدرجوا بعناية إليه مطالبين بخروج المعتقلين والتخفيف
عن المضارين؟
ماذا لو أنهم اقتنعوا بأن عليهم البناء من جديد لاستعادة ما فاتهم من صواب
وجلباً لتصورات أكثر واقعية عن الحياة والحكم، وقضايا لم يحسنوا تخيلها فضلاً عن
إدارتها؟
ماذا لو أن المنتسبين للمعارضة المصرية استشعروا قيمتهم ومكانتهم، وأن أخذهم
مقابلاً للاستغناء عنهما يساوي مهانة لهم ولقضيتهم لا تفنى؟
وماذا؟ وماذا؟
وحين يأذن الله سيأتي رجال أشداء المنطق والعقيدة الثورية من مدنيين
ومتدينين.. (أو تلغى هذه المفاضلة من الأساس)، فنرزق بعقلاء فاعلين يغلّبون القضية
ولا يرون إلا رفاق درب محتجزين ويعانون كأشد ما تكون المعاناة على خاصة أنفسهم،
ومتع لو دامت للحظات يبقى الندم والحسرة على ما ضيع المرء مقابلهما.
"ويقولون متى هو قل عسى أن يكون قريباً" (الإسراء: 51).
"وما ذلك على الله بعزيز" (النساء: 133).