أصبحت
الصين تقدم نفسها كوسيط لحل النزاعات في العالم، مثلما كان الحال بين
السعودية وإيران، وكذلك بين
روسيا وأوكرانيا، في الوقت الذي تحاول فيه
الولايات المتحدة، أكبر منافس لبكين، التقليل من شأن المبادرات الصينية والتشكيك فيها.
وفي 10 آذار/ مارس الجاري، تفاجأ العالم بإعلان السعودية وإيران اتفاقهما على إعادة العلاقات الدبلوماسية، بعد وساطة صينية قادها الرئيس شي جين بينغ، لتنهي خلافا استمر سبع سنوات.
وجاء في بيان نشرته وكالة الأنباء السعودية (واس) ووكالة أنباء "إرنا" الإيرانية الرسمية، أنه على أثر محادثات، فقد "تم توصل المملكة العربية السعودية والجمهورية الإسلامية الإيرانية إلى اتفاق، يتضمن الموافقة على استئناف العلاقات الدبلوماسية بينهما، وإعادة فتح سفارتيهما وممثلياتهما خلال مدة أقصاها شهران".
انقطعت العلاقات بين الرياض وطهران عام 2016، عندما هاجم محتجّون إيرانيون البعثات الدبلوماسية السعودية في إيران، بعدما أعدمت المملكة رجل دين شيعيّا معارضا يُدعى نمر النمر.
وأوردت وكالة إرنا أن أمين المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني الأدميرال علي شمخاني، أجرى محادثات مكثفة مع نظيره السعودي في الصين؛ "من أجل حل المشكلات بين طهران والرياض بشكل نهائي".
وفي أول تعليق له حول هذا الاتفاق، أكد الرئيس الصيني شي أن الحوار الذي ترعاه الصين "سيضطلع بدور رئيسي في تعزيز الوحدة والتضامن الإقليميين".
الدور الصيني في شرق الأوسط
الاتفاق الثلاثي الذي تمّ التوصل إليه، سبقته مباحثات بين طهران والرياض خلال عامي 2021 و 2022، استضافتها سلطنة عمان وجمهورية العراق بحسب ما جاء في البيان الثلاثي المشترك، الذي أشار إلى أن بكين استكملت المحادثات وأوصلتها إلى النتيجة.
ويشير الاتفاق إلى إعادة ترتيب مؤقتة على الأقل للتحالفات والخصومات المعتادة، مع ترك واشنطن على الهامش، فيما برز تنامي الدور الصيني في منطقة الشرق الأوسط.
وتعتبر الوساطة الصينية بين الرياض وطهران تغييرا كبيرا في دبلوماسية المنطقة، التي لطالما كانت فيها الولايات المتحدة اللاعب الدولي الأبرز، وهي الحلف الاستراتيجي التاريخي للرياض في الوقت ذاته.
ورغم أن الوساطة الصينية جاءت في الوقت الذي تعيش فيه العلاقات السعودية الأمريكية أزمات متتالية، إلا أن هذه الخطوة جاءت تتويجا للجهود الدبلوماسية الصينية في الشرق الأوسط على مدى العقود العديدة الماضية.
ومنذ أن نما إنتاجها الصناعي في أواخر التسعينيات، أضحت بكين تعتمد بشكل متنام على مصادر الطاقة في الشرق الأوسط لدعم اقتصادها الآخذ في النمو بسرعة، وعززت بشكل مطرد حضورها، رغم أن الصينيين أدوا لسنوات دورا ثانويّا فقط في المنطقة.
عززت الصين نشاطها التجاري والاستثماري مع اللاعبين الرئيسيين في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، لاسيما بعد إعلان الرئيس الصيني شي جين بينغ عن مبادرة الحزام والطريق في سنة 2013.
وتظهر الأحداث الأخيرة أن أهداف الصين في المنطقة بعيدة كل البعد عن كونها تجارية فقط، وذلك حسب رأي العديد من المراقبين، إذ إن التحديات الاقتصادية التي تواجهها بكين في الشرق الأوسط دفعتها إلى الاضطلاع بأدوار سياسية ودبلوماسية وعسكرية أوسع لحماية مصالحها، ما دفع الصحافة الغربية إلى اعتبار أن الاتفاق بين الرياض وطهران بوساطة بكين، يهدف إلى تقليل الدور الأمريكي في المنطقة وترك واشنطن على الهامش.
ما حققته الصين على مستوى المصالحة بين المملكة العربية السعودية وإيران، لم يكن وليد اللحظة، حيث جاء بعد سلسلة من محاولات قامت بها بكين لإصلاح العلاقة؛ ففي آذار/ مارس عام 2017، أعلنت الصين استعدادها للتوسط بين الجانبين، في مبادرة جاءت على لسان وزير الخارجية الصينية آنذاك وانغ يي، قبيل زيارة قام بها العاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز إلى الصين.
وأعادت بكين الكرة في أثناء زيارة ولي العهد السعودي محمد بن سلمان إلى البلاد عام 2019، حيث عادت وأعلنت استعدادها للتوسط مع إيران.
هذه المبادرات جاءت ضمن محاولات بكين في التعامل مع الضغط الواقع عليها بسبب الخلاف بين طهران والرياض، حيث للصين مصالح مع الجانبين، إذ تعتمد على السعودية بشكل كبير في إمدادها بالطاقة، كذلك لديها ارتباطات اقتصادية قوية مع إيران، إلا أن كل تحرك صيني باتجاه أي من كلا الطرفين،كان يُقابل بانزعاج أو ضغط من الطرف الآخر.
وخلال الأسابيع القليلة التي سبقت الإعلان، ركزت الصين خطابها الرسمي على أهمية علاقات الشراكة الاستراتيجية مع المنطقة العربية، حيث قال وزير خارجيتها تشين قانغ، على هامش الدورة الأولى للمجلس الوطني الـ14 لنواب الشعب الصيني؛ إن بكين ودول الشرق الأوسط تتمتع بتاريخ طويل من الصداقة والشراكة.
وأضاف أنه في القمة الصينية-العربية الأولى التي عُقدت نهاية العام الماضي، اتفقت الصين والدول العربية على بذل جهود شاملة لبناء مجتمع صيني-عربي ذي مستقبل مشترك في العصر الجديد، ما دفع التعاون الودي بين الصين والدول العربية قدما.
في الفترة من 7 إلى 10 كانون الأول/ ديسمبر من العام الماضي، شارك الرئيس الصيني شي جين بينغ في القمة الصينية العربية الأولى وقمة الصين - مجلس التعاون الخليجي، فضلا عن قيامه بزيارة دولة إلى السعودية.
وشكلت القمتان مؤشرا مهما حول الارتقاء بالعلاقات بين الصين والدول العربية من اجتماعات وزارية سابقا، إلى قمم متعددة الأطراف على مستوى قادة الدول.
وذكر تقرير عن التعاون الصيني العربي في العصر الجديد صدر عن وزارة الخارجية الصينية في الأول من كانون الأول/ ديسمبر من العام الماضي، أن الصين تدعم بقوة الاستقلالية الاستراتيجية للدول العربية ووحدتها واعتمادها على الذات.
في المقابل، ترى الصين أنه لا يوجد فراغ في الشرق الأوسط، ولا تسعى أبدا إلى تحقيق أي مصالح جيوسياسية، فـ"شعوب الشرق الأوسط هي التي تملك مستقبلها ومصيرها"، بحسب وزير الخارجية الصيني تشين الذي قال؛ إن "الصين تحترم تماما دول الشرق الأوسط بصفتها سادة شؤونها، وليس لديها نية لملء ما يسمى بالفراغ، ولن تبني دوائر حصرية في المنطقة".
روسيا وأوكرانيا
كما أدت الصين دورا مماثلا بين روسيا وأوكرانيا؛ حيث حمل الرئيس شي "رسالة سلام" خلال زيارته الأخيرة إلى موسكو، التي التقى فيها بنظيره الروسي فلاديمير بوتين.
وقبل ذلك، عرض شي خطته للسلام، التي تعامل معها بوتين بحذر، على الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلنسكي، الذي عرض بدوره دور الوساطة على بكين، في الوقت الذي تعتبر فيه الولايات المتحدة أكبر داعمي كييف في الحرب.
وعن خطة بكين، قال: بوتين: "نعتقد أنّ العديد من النقاط الواردة في خطة السلام التي اقترحتها الصين (...)، يمكن أن تكون أساسا لتسوية سلمية (للنزاع) عندما يكونون مستعدّين لها في الغرب وفي كييف. لكنّنا لا نرى في الوقت الحالي أيّ استعداد مماثل من جانبهم".
وأوضح شي على هذا الصعيد، أن بلاده "تسترشد دائما بمبادئ الأمم المتّحدة (...)، وتسعى لتسوية سلمية" مؤكّداً "نحن دائما مع السلام والحوار".
من جهته، قال الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي إنه "دعا" الصين إلى الحوار و"ينتظر ردّاً" من بكين، مؤكدا أنه "عرضنا على الصين أن تصبح شريكاً" في البحث عن تسوية للنزاع في أوكرانيا.
"تعددية الأقطاب"
اعتبر الكاتب والمحلل السياسي الصيني نادر رونج هوان، أن هدف الصين من لعب الوساطة، يتمثل في بناء مجتمع دولي مصيره موحد، وتحقيق التقدم في مختلف دول العالم من خلال التعاون والربح المشترك.
وقال رونغ في تصريح لـ"عربي"؛ إن الصين قدمت حلولا مختلفة عن الحلول الأمريكية، حيث تعتمد الحكمة الصينية على تعددية الأقطاب وحل الخلافات بطرق سلمية، مشددا على أنه "عدم التدخل في شؤون بقية الدول يعتبر من مبادئ الصين".
وأضاف: بكين تتمسك بمعارضة الهيمنة، مؤكدا أن "الصين وجدت نمطا جديدا في التعامل، يقوم على الاحترام المتبادل والتعايش السلمي، ونجاح الصين في أداء دور الوساطة، أثبت أن المبادئ الصينية لقيت إقبالا واسعا من قبل دول العالم".
واستبعد المحلل السياسي أن تكون وساطات الصين استهدافا للولايات المتحدة، قائلا: بكين تريد أيضا أن تطور علاقاتها مع واشنطن على أساس الاحترام المتبادل والكسب المشترك".
وأشار إلى أن الصين لا تريد منافسة الولايات المتحدة، بل تسعى إلى التعاون معها من أجل الكسب المشترك والتنافس، خاتما بقوله؛ إن التنافس يجب أن يكون في إطار السعي نحو التطور والتقدم إلى الأمام.