سلط موقع "ميدل إيست أي"، في مقال للكاتبين زها حسن ودانييل ليفي، الضوء على دور
الإسرائيليين الليبراليين والولايات المتحدة في تمكين الاستيطان اليميني، والذي بات خارجا عن السيطرة في ظل مساعي الحكومة اليمينية الإسرائيلية في تمرير "التعديلات القضائية".
وأوضح
التقرير الذي ترجمته "عربي21"، أنه لو فشلت المفاوضات حول التوصل إلى تسوية بخصوص الإصلاحات القضائية، واستأنف نتنياهو المضي قدما في سن التشريع المركون حاليا على الرف، فلا تتوقعوا من
الولايات المتحدة أن تقوم بدور المنقذ.
ومنذ سنوات طويلة، عملت المؤسسة السياسية الليبرالية الوسطية في دولة الاحتلال، على إسكات الأصوات الفلسطينية، وتجريم حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات، واستخدام الاتهام بمعاداة السامية سلاحا يشهر في وجه أي انتقاد مشروع لإسرائيل.
ولكن غدا ما حققوه من نجاح في هذا المجال الآن جزءا من المشكلة التي يواجهونها، فما تمتعت به "إسرائيل" على مدى عقود من حصانة ضد المساءلة والمحاسبة على انتهاكها للحقوق الفلسطينية يتمتع به الآن المتشددون الذين يقفون من وراء مشروع الإصلاحات القضائية.
وتاليا المقال كاملا كما ترجمته "عربي21":
بينما تعرض الاقتصاد الإسرائيلي لهزة عنيفة وتشكلت القناعة لدى رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو بالحاجة إلى التعليق المؤقت لتشريع الإصلاحات القضائية هذا الأسبوع، بقيت صفقة واحدة لا بد منها من أجل الحفاظ على تماسك ائتلافه الحاكم.
تعهد نتنياهو لإيتمار بن غفير، المعروف بعنصريته السافرة والذي يتزعم حزب القوة اليهودية ويشغل منصب وزير الأمن الوطني، بأن الدولة سوف تمضي قدماً في تكوين حرس وطني يكون تحت سلطة بن غفير – فيما يطلق عليه بعض المعلقين اسم "المليشيا الخاصة".
تعبر هذه الصفقة عن الرابطة الوثيقة بين الأزمتين اللتين تطبقان على إسرائيل في نفس الوقت: الاستقطاب الداخلي المتعلق بالإصلاحات القضائية، والتصعيد الذي يمارسه المتطرفون بتمكين من الدولة ضد الفلسطينيين.
رغم أن هذه العلاقة سافرة وواضحة كوضوح الشمس في رابعة النهار، إلا أنه يندر الإقرار بوجودها في الدوائر السياسية الإسرائيلية. وحتى الرئيس الأمريكي جو بايدن، الذي علق بمرارة على التعديلات القضائية، لم ينبس ببنت شفة بشأن الانتهاكات الإجرامية التي ترتكبها إسرائيل بحق الفلسطينيين – الأمر الذي يشير إلى أن واشنطن هي الأخرى تخفق في الربط بين الأمرين.
كما أن قيام الولايات المتحدة بالترتيب للقاء بين المسؤولين الإسرائيليين والفلسطينيين، بمشاركة نظرائهم الأردنيين والمصريين، في شرم الشيخ هذا الشهر وفي العقبة في شباط/ فبراير، يثبت أن واشنطن ماضية في اللجوء إلى نفس نموذجها الهزيل والبائس لإدارة العلاقة مع إسرائيل والتداعيات المترتبة على الفلسطينيين.
على الرغم من أن الصحفيين الغربيين لا يستخدمون كل يوم مصطلح "مقتلة" لوصف الاعتداءات التي يتعرض لها الفلسطينيون، كما رأينا بعد الأحداث التي شهدتها حوارة، إلا أن الفلسطينيين في كل يوم يعانون من العنف وتداس حقوقهم الإنسانية على أيدي الجنود والشرطة الإسرائيليين ومن قبل ميليشيات المستوطنين، منفردين أو مجتمعين.
عندما قارن نتنياهو أعمال المستوطنين في حوارة بتلك التي تصدر عن المحتجين المدافعين عن الديمقراطية في أرجاء البلاد، انتاب الغضب كثيراً من الناس. ولكن الرابطة القوية بين السياسات الإسرائيلية والعنف الذي يمارس ضد الفلسطينيين من جهة والحركة الاحتجاجية المتعلقة بالديمقراطية الإسرائيلية من جهة أخرى باتت محسومة – حتى وإن لم تكن مريحة.
يمر المجتمع الإسرائيلي بما أطلق عليه المؤرخ المناهض للاستعمار الفرنسي إيم سيزار "الأثر الارتدادي للاستعمار". تبحث أعمال سيزار وغيره في كيف يمكن أن تستعاد السياسات التي تستخدمها الدول الاستعمارية مجدداً لتستخدم في التجمعات السكنية الاستعمارية نفسها وتسلط على مواطني الدولة المستعمرة.
كبت الحريات
مع أن الاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي لا يكاد يترك خطاً فاصلاً بين المستعمرة والمدينة إلا أننا الآن نشهد تجلي هذه الظاهرة، حيث أن بعض الأدوات السلطوية التي صممت أساساً لتمكن الدولة الإسرائيلية من السيطرة على الفلسطينيين وإخضاعهم يتم الآن تسليطها على عناصر من المجموع السكاني اليهودي الإسرائيلي. وغدت قطاعات من ذلك المجموع السكاني تخشى على حرياتها من أن تتعرض للكبت والمصادرة.
لقد كان المحفز الأساسي من وراء رغبة اليمين الإسرائيلي إنجاز الإصلاحات القضائية هو ترسيخ أقدام الاحتلال وتكريسه، وحرمان الفلسطينيين بشكل نهائي وقطعي من حقوقهم السياسية، وفي نفس الوقت تعزيز التفوق العنصري اليهودي. على الرغم من أن المحاكم لم تفعل شيئاً لمنع تحقيق هذه الغايات بشكل تدريجي – ولا أدل على الفشل الذريع الذي منيت به منظومة المحاكم الإسرائيلية في حماية حقوق الفلسطينيين من مصفوفة المستوطنات الضخمة – إلا أن المحاكم مع ذلك أفادت في إعاقة أو تأخير، وقد تشكل عائقاً في طريق الضم التام والطرد الجماعي.
يساعد ذلك في تفسير لماذا كانت آخر ممانعات في وجه التسوية المؤقتة لنتنياهو، سواء داخل البرلمان أو في الشوارع، صادرة عن المعسكر الديني اليميني الاستيطاني.
إن أكبر ازدراء للحكم الديمقراطي في المنطقة الواقعة ما بين نهر الأردن والبحر المتوسط لا تتمثل في دور البرلمان الإسرائيلي في اختيار القضاة أو تجاوز أحكامهم وإنما في الاحتلال الدائم الذي يحرم الفلسطينيين من الحقوق الديمقراطية فيما وراء خطوط 1967، بالإضافة إلى التمييز البنيوي الذي يضفي صفة مواطنة من الدرجة الثانية على الفلسطينيين الذين يعيشون ضمن تلك الخطوط.
وهذا الوضع المستمر هو الذي حفز كبار منظمات حقوق الإنسان العالمية مثل منظمة العفو الدولية ومنظمة هيومان رايتس ووتش على أن تقرر بحق أن هذا الواقع ينسجم تماماً مع التعريف القانوني للأبارتيد (الفصل العنصري). وكانت نفس الخلاصات قد توصلت إليها من قبل منظمات حقوقية إسرائيلية ونشطاء المجتمع المدني والأكاديميون والسياسيون الفلسطينيون.
أعربت إدارة بايدن عن قلقها إزاء العنف المتصاعد في إسرائيل وفلسطين وكذلك إزاء الإصلاحات القضائية المقترحة. يبدو أن الوصفة الأمريكية للتعامل مع كل واحد من الأمرين هي ذات الوصفة: العودة إلى الوضع كما كان من قبل. بمعنى آخر، العودة إلى استتباب الأمن والديمقراطية للإسرائيليين اليهود بينما يستمر حرمان الفلسطينيين من كليهما.
كلما اختلف مسؤول أمريكي مع إحدى السياسات المتبعة في إسرائيل، تلجأ إسرائيل إلى ظاهرة معد لها جيداً تتمثل في العويل والصراخ بأعلى صوت "أزمة". وهذا ما نشهده حالياً في تسارع مفرط، بما في ذلك صدود من قبل القيادة الإسرائيلية، بعد أن قال بايدن إن نتنياهو غير مدعو الآن إلى البيت الأبيض وأن إسرائيل "لا يمكنها المضي قدماً في هذا الطريق" المفضي إلى الإصلاحات القضائية (ولكن فيما يبدو يمكن لما يزيد عن نصف قرن من الاحتلال أن يستمر).
إلا أن الكلمات لم تترجم إلى فعل، فلا توجد في الحقيقة أزمة. وبالفعل، يفيد التحليل الحصيف بأن شيئاً مختلفاً تماماً يحدث، وبأن واشنطن لم تفعل شيئاً لتستخدم نفوذها الضخم في التعامل مع إسرائيل، وأن الآلة التي تصرف الجزر ما زالت تدور وتعمل كالمعتاد.
كتم الأصوات الفلسطينية
في شهر شباط/ فبراير الماضي تعهدت الولايات المتحدة تارة أخرى باستخدام حق النقض ضد قرار كان يعد له في مجلس الأمن الدولي لمجرد أنه لا يتوافق مع الرغبة الإسرائيلية. وتستمر إدارة بايدن في وكز الدول الأخرى أو ملاطفتها حتى تطبع أو تطور علاقاتها مع إسرائيل، كما أنها تعمل على تحسين فرص تقبل العالم لإسرائيل من خلال برنامج الإعفاء من تأشيرة السفر إلى الولايات المتحدة. وحينما يتعلق الأمر بالمتحدث الرسمي، فإن كل الألاعيب اللغوية تستنفر من أجل تجنب النطق بكلمة الاحتلال أو الإشارة إليه من قريب أو بعيد.
ولكن دعونا نكون واضحين، ففي الجبهة المحلية، لم يجد نتنياهو مفراً – على الأقل في الوقت الراهن – من التراجع عن حافة الهوة، ليس استجابة لأي ضغوط أمريكية، وإنما تحت وطأة معارضة محلية غير مسبوقة. من المفارقة أن تكون هذه المعارضة مرتكزة على التهديد بتكبيد البلد خسائر اقتصادية كبيرة، وبالامتناع عن أداء الخدمة العسكرية لأسباب وجدانية. لطالما استخدمت هذه الأدوات من قبل النشطاء المناهضين للاحتلال والمعادين للأبارتيد، ولكن يُشهّر بها في السياق الحالي في أنحاء الطيف الصهيوني باعتبارها غير شرعية أو حتى ما هو أسوأ من ذلك.
فيما لو فشلت المفاوضات حول التوصل إلى تسوية بخصوص الإصلاحات القضائية، واستأنف نتنياهو المضي قدما في سن التشريع المركون حالياً على الرف، فلا تتوقعوا من الولايات المتحدة أن تقوم بدور المنقذ.
منذ أمد بعيد والمؤسسة السياسية الليبرالية الوسطية في إسرائيل تستثمر جهوداً جبارة في إسكات الأصوات الفلسطينية، وتجريم حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات، واستخدام الاتهام بمعاداة السامية سلاحاً يشهر في وجه أي انتقاد مشروع لإسرائيل. ولكن غدا ما حققوه من نجاح في هذا المجال الآن جزءاً من المشكلة التي يواجهونها، فما تمتعت به إسرائيل على مدى عقود من حصانة ضد المساءلة والمحاسبة على انتهاكها للحقوق الفلسطينية يتمتع به الآن المتشددون الذين يقفون من وراء مشروع الإصلاحات القضائية.
تجلت المقاربة الأمريكية تجاه الجبهة الفلسطينية مؤخراً في البيان المشترك الذي صدر عن اجتماع شرم الشيخ في مصر. كرر البيان نفس الكلام الذي ورد في بيان صدر في شهر شباط/ فبراير بعد اجتماع مشابه عقد في العقبة في الأردن، بمشاركة نفس المجموعة – والتي يبدو أنه بات يشار إليها الآن باسم الخماسية.
رغم حشوه بعبارات طموحة وواعدة حول الثقة وبناء السلام، ولد بيان شرم الشيخ ميتاً تماماً كما كان حال سلفه بيان العقبة.
يتمثل أكبر عجز مدمر في هذه المقاربة في أن تأكيد الولايات المتحدة على نزع فتيل التوتر يترجم واقعياً بضمان السلامة والهدوء لليهود الإسرائيليين فقط، بينما يستمر الاحتلال، ويستمر انعدام الأمن والأمان في حالة الفلسطينيين، ويستمر إخضاعهم يومياً للذل والامتهان.
قد يبدو معقولاً إصرار الولايات المتحدة على تجنب الطرفين لاتخاذ "إجراءات من طرف واحد"، ولكن مخاطبة الطرفين بهذا الشكل يساوي بين انتهاكات إسرائيل للقانون الدولي (بناء المستوطنات، هدم البيوت، مصادرة الأراضي، الاستخدام المفرط للقوة، والعقاب الجماعي للسكان المدنيين في غزة وفي غيرها) وبين الجهود التي يبذلها الفلسطينيون للالتزام بنفس القانون من خلال اللجوء إلى المنتديات الدولية مثل الأمم المتحدة والمحكمة الجنائية الدولية.
مخاطر جيوسياسية كبيرة
من خلال الدفع باتجاه تكثيف التعاون العسكري بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية، وبينما يتم تجاهل الظلم الذي يولده الاحتلال المستمر حتى إشعار آخر، تتبنى الولايات المتحدة الموقف الذي يرى بأن من يمارس الاحتلال ومن هو ضحية له ينبغي أن يعملوا معاً من أجل ضمان الاستقرار للاحتلال. وهذا يساعد على تفسير لماذا تفقد حركة فتح، الحزب الفلسطيني الحاكم، شعبيتها وشرعيتها – ولماذا ترفض الولايات المتحدة (ومعها رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس) دعم الانتخابات الفلسطينية، والتي لم تنظم منذ سبعة عشر عاماً.
باختصار، إن السياسة الأمريكية والغربية المتمثلة في ضمان تمتع إسرائيل بالحصانة من المساءلة والمحاسبة – وضمان أن ما يصدر عن إسرائيل من أفعال لا يكلفها شيئاً وليس له تداعيات عليها – إنما يخدم التطرف المتنامي في إسرائيل. لقد مكن الجمهور الإسرائيلي سياسيين من مثل بن غفير وبيزاليل سموتريتش ثم شملهم نتنياهو في ائتلافه الحكومي، وذلك ببساطة لأنهم يعلمون علم اليقين أن إسرائيل لن تتعرض لأي عقوبات ذات معنى جراء ذلك.
قبل سنتين كنا اثنين من مجموعة شاركت في إعداد تقرير بعنوان "كسر الأمر الواقع الإسرائيلي الفلسطيني: مقاربة تقوم على الحقوق"، والذي حذرنا فيه من مسار تطورات قادمة بالغة الخطورة، وسلطنا الضوء على مساهمة الولايات المتحدة في مفاقمة هذه الحالة.
ولكن بالنسبة للولايات المتحدة والغرب ككل، باتت المخاطر الجيوسياسية اليوم أكبر بكثير. فالهوة الشاسعة بين الخطاب الغربي تجاه أوكرانيا من جهة وتوفير الغرب غطاء مستمراً للممارسات الإسرائيلية غير القانونية يكبد الولايات المتحدة وأوروبا تكاليف حقيقية في الساحة الدولية. وهذا هو الذي كثيراً ما يشار إليه باسم "الدليل أ" ضمن الحجج التي يقدمها سكان جنوب المعمورة رفضاً لمزاعم الغرب بأنه يقود نظاماً قائماً على القواعد والأحكام.
حوارة هي الحاضر. ولكنها توفر رابطاً إلى الماضي وتفتح نافذة على مستقبل محتمل. يهدد السياسيون اليمينيون في إسرائيل بشكل سافر ومتكرر بنكبة ثانية، وهو ما تقوم ميليشيات المستوطنين تحت غطاء من الجيش الإسرائيلي باختباره على الأرض.
إن السياسة المبتذلة للوسط ويسار الوسط الصهيوني لا قبل لها بإيقاف هذه التوجهات ودفع الأمور في الاتجاه المعاكس. أما القوى الخارجية، فهي بين خيارين، إما أن تتواطأ مع الأبارتيد أو تحاسب إسرائيل على ما تفعله. ورغم أن الفلسطينيين كانوا باستمرار هم من يدفع ثمن تمتع إسرائيل بالحصانة من المساءلة والمحاسبة، إلا أن كثيراً من الإسرائيليين اكتشفوا الآن بأنهم هم أيضاً سيتكبدون أثماناً بسبب هذه الحصانة.